أفغانستان … الشاعرة

04:49 مساءً السبت 29 ديسمبر 2018
احمد الشهاوي

احمد الشهاوي

شاعر من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

CBE08F3A-69B8-4742-A749-F766997FA248لم أزُر أفغانستان رمانةَ آسيا الوسطى حتى كتابة هذه السطور ، والتي هي عندي بلاد بلخ موطن مولانا جلال الدين الرومي صاحب ” المثنوي “، و” الرباعيات ” و ” فيه ما فيه ” و” شمس تبريزي ” ، لكنَّني عرفتُ شعراء وكتَّابًا منها ، وقرأتُ الأدب الأفغاني ، وأجبرتني جماعة طالبان ( نشأت الحركة الإسلامية الدينية المعروفة باسم طالبان في ولاية قندهار الواقعة جنوب غرب أفغانستان على الحدود مع باكستان عام 1994ميلادية ، على يد المُلا محمد عمر ) على قراءة تاريخ أفغانستان ، ومحاولة فهم ما هو اجتماعي وثقافي وعقائدي وقَبَلي وعِرْقي فيها .

وينتمي معظم أفراد حركة طالبان إلى القومية البشتونية التي ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي ، والتي يتركَّزُ معظم أبنائها في شرق وجنوب أفغانستان ، وهم يمثلون حوالي 62 % من تعداد الأفغان الذي يبلغ قرابة 32 مليون نسمة بحسب تعداد سنة 2017ميلادية .

وتعيش أعراقٌ أخرى مع البشتون هم الطاجيك و الهزارة ( ولي شاعرٌ صديقٌ Kamran Mir Hazar كامران مير هازار يقدِّم نفسه على أنه من هزرستان وليس من أفغانستان ، إذ تسعى قوميته إلى الاستقلال ، وهي تمثِّل حوالي 10-15% من السكان ) والبلوش والتركمان والأوزبك .

وتعتبر البشتونية هي اللغة الرسمية الأولى ، ويمكن فهمها من قبل أغلب السكان ، والبشتو هي “اللغة الأفغانية” ، والبشتون قبائل حافظت على نقاء دمها ، ولها أعرافُها وعاداتها وتقاليدها ، وتتنوَّع لهجات البشتون حسب توزيعهم السکاني لمختلف المناطق بأفغانستان ، وكذا البشتون في مناطق أخرى من آسيا الوسطى أو العالم .

وأفغانستان كانت تُعدُّ إحدى نقاط الاتصال القديمة المهمة لطريق الحرير والهجرات البشرية السابقة .

و الأدب الأفغاني – للأسف – غير معروف في بلداننا على الرغم من أنه مكتوب بالفارسية سواء المكتوب بلغاتٍ أخرى كالفرنسية أو الإنجليزية أو المكتوب باللغة البشتونية ، لأن أغلب الشُّعراء والكُتَّاب رحلوا عن ديارهم خَشية الرقابة الدينية والقتل والاستهداف من أعداء الدين ، ويعيشون في المنافي الاختيارية ، التي صارت إجباريةً بسبب الحرُوب الأهلية المتعاقبة ، والاضطرابات الاجتماعية ، والسياسية ، وحُكم طالبان المتشدِّد ، الذي يعادِي كل شيء ، وفي المقدمة منه الكتابة والنشر ، مثله مثل بقية الجماعات الإسلامية المتطرفة والأصولية المتشدِّدة المتعسِّفة في حُكمها ، وأوامرها البعيدة عن أصول الدين ، وصار في إمكانهم ألا يمارسوا رقابة ذاتية على مخيلتهم المترسِّخة في لاوعي الكاتب أو الشَّاعر ، وأن يتناولوا أي موضوعٍ دون حذرٍ أو خوفٍ ، وما وصل إلينا قليل من كتابات أفغانية شعرية أو روائية ، مثل نتاج عتيق رحيمي ” من مواليد 1962 ميلادية ” ، وهو يكتب باللغتين الفارسية والفرنسية صاحب رواية ” الأرض والرماد” ، وقد نالت جائزة الادب الفارسي في إيران في سنة 2010ميلادية ، ورواية ” حجر الصبر ” وصدرت 2008 ميلادية ، وتُرجمت إلى العربية سنة 2012 ميلادية ، وحازت على جائزة الجونكور الفرنسية وهي مكتوبة أصلا باللغة الفرنسية ، والشاعر القتيل بهاء الدين مجروح ( قُتِلَ أمام بيته في مدينة بيشاور في منفاه الباكستاني سنة 1988ميلادية ) و سبوجماي زرياب صاحبة (سهل قايين) و ( تلك الجدران التي تسمعنا ) ، وعارف سلطان زادة صاحب ( ضائعون في الهروب ) ، وعارف فرمان صاحب ( الأفغاني ) ، وعزيز الله نهفتة صاحب ( الرسوم الوهمية ) ، و خالد حسيني ( من مواليد 1965ميلادية ) ، صاحب « عداء الطائرة الورقية » و«ألف شمس ساطعة» ، بيع من روايتيه حوالي أربعين مليون نسخة حول العالم ، و” ورددت الجبال الصدى ” ، ، ومرال معروف ” من مواليد 1960ميلادية ” صاحبة «الهجرة من أفغانستان» ، و ” معسكر الأرامل ” .

خالد حسيني

خالد حسيني

إذا كانت أفغانستان دولةً حبيسةً لا سواحل لها على البحار ، فإن نساء البشتون حبيساتٌ – أيضًا – لا سواحل لهن سوى شِعْر العشق .

فقد تغلَّبن على القهر والجبْر والضرب والقسوة والحبس والمنع بالشِّعر الشفاهي السرِّي ، الذي جمعه الشاعر الأفغاني بهاء الدين مجروح ، وترجمه إلى الفرنسية ، وصدر في كتاب عن دار جاليمار الفرنسية الشهيرة عنوانه ( الانتحار والأغنية ـ الشعر الشعبي للنساء البشتون )، بمقدمة للشَّاعر الفرنسي الشهير أندريه فلتير صاحب كتابيْ «القمة السابعة» و«ارتفاع آخر» الذي صهرته وغيَّرته أفغانستان ، وملأت روحه فلسفة وشعرًا ، ومنحته أوكسيجين نقيًّا جعل قصيدته مختلفةً وفيها نفسٌ شرقيٌّ ، وإيقاعٌ مغايرٌ عمَّا هو موجود في الشعر الفرنسي ، وهو لا شك مدينٌ للثقافة الشرقية والإسلامية والشعر المكتوب بالفارسية ، وقد سافر كثيرًا في بلاد الدنيا ومنها بلدان عربية .

وأراه شاعرًا رحَّالةً ، إذْ يقول : ( نحنُ بضعة أناسٍ وُلدنا على سفرٍ ، كنَّا أحرارًا مثل الطُّيور ، كنا متحرِّرين من غُبار الجذُور و الشفرات ، زادُنا الوحيدُ ، كان حليبَ الغيوم ، وكان بعضُنا الآخر يجري فرحًا في أرض الله الواسعة ، نسقط على ترابها ، نتدحرج مَوجًا فوق حَصاها ، نخترعُ ممالكَ بعدد النجوم من أجل مُتعةِ تبذيرها ، لا توجدُ الإمبراطوريات إلا بين أيدينا ، لا توجدُ غزواتٌ إلا هنا والآن ، كبرياء زائدة ، حماسةٌ ، غفلة ، طاقة مفترسة في آخر المطاف ) .

وهو يقول عن مجرُوح (1928-1988ميلادية ) الذي كان عميدًا أسبق لكلية الآداب في العاصمة الأفغانية كابول ، : ( كتبتُ عنه ، ترجمتُ شعره ، وترجمنا معًا «اللاندي» (شعر النساء البشتونيات) ، سيبقى بهاء الدين أخًا كبيرًا لي ، وسترافقني دومًا تجربته الشخصية ، مساره ، قدره ، إنه لا يغادرني ، بل أعيش دومًا مع ذكائه ، معه ) . ( قُتِل بهاء الدين مجروح لأنّه تكلَّم بحرية ، فقد كان صوت من لا صوت لهم ) ، و أشعار البشتونيات الشفهية السرية في العشق تُعْرف في أفغانستان باسم ” لانداي ” التي تعني بالعربية القصير ، المقتصد ، المختصر، الموجز ، وهو نوع نوع من الشعر لا يقوله إلا النساء من يتألف من بيتين اثنين فقط ، ويُتداولُ سرًّا بينهن ، لأنه شعر روح الجسد حين تشرق متجلية بطلبها العاشق أن يأتي إلى سرير العشق كثيرًا وكاسرًا .

والمرأة الأفغانية في ممارسة القول الشعري الحِسِّي أدركت وهي خلف بابها المغلق قول جدها الأول جلال الدين الرومي أنَّ ( الحُب هو الذي يحوِّل المُرَّ حلوًا ، والتراب تبرًا ، والكدر صفاءً , واﻷلم شفاءً ، والسجن روضةً , وهو الذي يلين الحديد ، و يذيب الحجَرَ , ويبعث الميت ، وينفخ فيه الحياة ) ، وفي ( الحُب شيء من عظمة الله , وعذابات الأنبياء , وغموض الآلهة ) .

والمرأة في أشعارها هذه ، تمنح عاشقها اللجوء إلى نهديها ، وتطلب منه وهو يبوسها أن يجعل لسانها حُرًّا بعدما قمعه وسجنه وقطعه ” البشع الصغير” تقصد الزوج ؛ لأنها تدرك أن الحُب إذا ما لمس شيئًا جعله مقدسًا : 

( أَرِح فمكَ فوق فمي

واتركْه حُرًّا لساني

لكي يحدِّثك عن الحُب ) .

هذه امرأةٌ لا تتخلَّى عن العِشق ” حتى ولو انتزعوا بالسكين كل شاماتي “.

والمرأة التي تقول هذا الشِّعر ، وربما تكون أمية ، أو محدودة التعليم ، لكنَّ حواسها عالمة ، عارفة ، وصاحبة ثقافة ، حيث الروح وليس غيرها من يفقه ماهية العشق ، والحب كما يذكر الرومي ” لا يمكن أن تتعلمه أو تدرسه , الحب يأتي كنعمة ” . وإن كانت حفيدة جلال الدين الرومي الذي كتب بالفارسية ” لغة البشتون ” : ( دين الحُب منفصلٌ عن كل أشكال الديانات ، العاشقون أمة واحدة ، ودين واحد ، وهذا هو الله ) ، ( ليس العاشق مسلمًا أو مسيحيًّا ، أو جُزءًا من أية عقيدة ، دين العشق لا مذهب له لتؤمن به أو لا تؤمن ) ، فهي حفيدة ابن عربي في نظرته إلى الحُب ، فإذا كانت تقول :

( معشُوقي هندُوسي

وأنا محمَّدية

من أجل الحُب

اكنس أدراجَ المعبد المحظور ) .

وهي تدرك هنا أن كلَّ طقوس العبادات تصيرُ عبئًا إنْ لم يكن هناك عشقٌ ، وابن عربي يكتب بالعربية :

( لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ 

فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ

وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ، 

وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ

أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ

رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني).

مولانا

مولانا

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات