الصياغة الأدبية في رواية “التُّرجُمان”

09:14 صباحًا الخميس 3 يناير 2019
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

محمود قاسم والترجمان

محمود قاسم والترجمان

تقاس أهمية روايات أشرف أبو اليزيد بمدى مايتمتع به المؤلف من قدرة على الحكي، وأيضا شكل السرد الذي اختاره الكاتب من رواية إلى أخرى؛ وهو الذي ينتقل بحرفية ملحوظة من قرض الشعر الي أجواء الحكْي الروائي، بل لنقل للأشكال المتعددة التي تعمد الكاتب إلى ابتكارها داخل الرواية الواحدة من فصل إلى آخر؛ وهو يقوم بتقسيم العالم إلى قسمين أساسيين : الأول هو الالكترونيات السالبة التي تدور في مدارات ثابتة، أو محاور بعيدة بشكل راسخ عن مركز الكون بالنسبة لكل مدار، ونعني به الذرة كأصغر وحدة في الكيانات التي من حولنا، وذلك مثلما تعلمنا في علم الكيمياء فيما يخص الذرة.

26196214_140033763353878_839956960418591901_nفقد استوعب الكاتب المسافات التي تفصل بين الأشياء، خاصة الكائنات الحية، وابتكر أسلوبه الخاص به في روايته” التُّرجُمان”،  و باعتبار أننا أمام رواية ذات صبغة ذاتية على المستوي الشخصي، فقد توقفت كثيرا عند روايته التجريبية “31” التي نشرها عام 2011، وكنت في حالة ترقب للرواية التالية التي تأتي بعد  هذه التجربة  غير  المتكررة في القصِّ العربي، مشفقا عليه متصورا أن هذه الرواية سوف تبقي درته، وأنه سوف يُذكر بها، وكم كنت  أشفق عليه كروائي كثيرا ، وأنا أراه يغفل الروائي بداخله ، و يهتم بعمله الصحفي على حساب  المبدع.

image1لكن  الكاتب عاد مرة أخرى لأدبه، وهو يكرر تجربته السابقة مع روايته”31″ التي يبدو أنه استوحاها من تجربته في إحدى الوظائف، وهذه هي تجربة حقيقية جديدة تأتينا عبر”التُّرجُمان” فيما يستحق أن نتعرف علي الكاتب، والشكل الذي اختاره للكتابة ـ  معذرة ـ  بل الأشكال المتراكبة المتعددة، وهو الأمر الذي يدفعنا للتوقف عنده .

بالاضافة إلى مايمكن تسميته بقوة الحكْي ، فإن  الأشكال، أو الصياغات المتجددة، الموجودة في الرواية تفرض نفسها ، وتدفع الناقد إلى اختيار صياغات مقابلة لما قرأناه في الرواية، فالأمر كله أشبه بالحركة الثابتة جدا، وهي أيضا تدور حول نفسها بسرعة فائقة، بشكل هندسي متعدد، داخل دائرة، أو فلنقل وسط الشكل المتخيل لما تكون عليه الذرة في علوم الكيمياء، حيث هناك مركز الدائرة،  وأيضا بؤرة للذرة بشكلها التخيلي، ومن حولها عدد لانهائي من الدوائر المتوازية يمثل كل منها إحدى الشخصيات من رجال ونساء  شاركت في الشهادة علي ما أصاب رجلا معروفا أنه ترجمان بصدمة نفسية أرقدته الفراش.

كل شخص منهم، وفيما يشبه الشهادة أو الاعتراف، نتعرف عليه في الفصل الذي منحه إياه المؤلف ليدلي فيه بكل ما يعن له حول قصة الحب المنكوبة المستحيلة التي ربطت بين التُّرجُمان محسن، وبين الكاتبة فوز، المرأة التي تجاوزت مرحلة منتصف العمر، والتي دفعت من ظروفها  الكثير من المعاناة استمرت لأكثر من عشرين عاما حتى  اذا ما استحكمت حلقاتها وكادت أن تفرج ، صارت أكثر تعقيدا علي كافة المستويات. إنها قصة حب قصيرة للغاية ما كادت تبدأ حتي داهمتها الأقدار، بالضربة تلو الأخرى فلم تتح لصاحبيها فرصة الانتباه ، وكل ماحدث هو أن ظل الطرفان العاشقان لايعرفان  كيف يقومان برصد الضربات، أو صدها ، أو الإفلات منها، فانتهت بالمفاجأة التي لم تكن متوقعة.

atomأقول أن الشكل الذي اختاره المؤلف  أقرب الي الذرة بشكلها الكيميائي المتخيل، حيث هناك النواة في المركز تمثل كتلة  البروتون الموجب، ثم هناك فضاءات عديدة للإلكترونيات تدور في محاور ثابته بعيدة، أو قريبة، من النواة الثقيلة التي يمثلها التُّرجُمان محسن حلمي، الرّاقد  بين الحياة والموت فوق سرير المرض ، كأنه في حالة احتضار، ومعه امرأة تحاول أن تتغلب علي كافة ظروفها من أجل أن ترعى المريض بالشكل المشروع،  وان اضطرت أن تتزوجه ، ومن هنا تأتي شهادات الكثير من الشخصيات، القريبة أو البعيدة  من الحبيبين اللذين تجاوزا سن الشباب، ووراء كل منهما خبرات حياتية طويلة جعلت مايربطهما مطعما بالنضج ، والتعقل، وليس 151d0658de99062c35d524ac5c336a27بالرعونة والخفة التي سلكها الآخرون فتسببوا في  الأزمة التي عصفت بكل  القصة الوليدة التي تناثرت أراضيها  بين المدن ، والشخصيات المتناقضة،بين طموحاتها وما فشلت في تحقيقه والمؤسسات، والثقافات.

لابد أن أتوقف عند الصياغة الأدبية التي اختارها الكاتب في روايته ، فلا شك أن هناك تماسا ما بين رواية “المريض الانجليزي” الفائزة بجائز بووكر، التي كتبها السريلاكي مايكل أونداتجي، و تحولت عام 1996 الي فيلم بريطاني حصل علي الكثير من الجوائز، فالتماس هنا لا يأتي في أساليب الحكي داخل دائرة ضيقة قد تبدو شديدة الاتساع لتعدد أبطالها ، ولكن أن الحدث الرئيس في الرواية يدور حول طيار إنجليزي أثناء  الحرب العالمية الثانية، سقطت طائرته في صحراء بالقاهرة أطلق عليها فيما بعد اسم (ألماظة) وهو اسم هذا المريض الذي سقطت به الطائرة فأصابته حروق ذوات درجات عالية، وصار عليه أن يتذكر ما حدث، وهو راقد فوق الفراش  غير واع للعالم المتحارب من حوله، أو  الرواة المحيطين به ، أو شهدوا قصته، أن يشاركوا في عملية الحكي، بالطبع هناك مسافة واسعة للغاية واختلافات ملحوظة بين التجربتين ، لكن من المهم الاشارة اليها ،  لاثبات نضج الأسلوب، والصياغة اللذين استخدمهما أشرف أبو اليزيد في روايته.

large_niqc0v3Lclh99Mmmxm49qZTIo2e

مركز الحدث هو  “التُّرجُمان”، أو الشخص الوحيد  الذي كان أول من ساهم في الحكي في الفصل الأول من الرواية، قبل أن يصاب بالصدمة النفسية التي أدخلته في غيبوبة  قام بدور المدخل التفسيري لكل ما سوف نعرفه عن كل العالم المتشابك في الحكي، والتي اختلفت عنده أساليب الحكي باعتباره الشخصية المحورية، أو نواة الذرة ، سواء من الأشخاص القريبين منه، أو الذين يهمهم وجوده في مؤسسة الترجمة التي يعمل بها.

أما الشحصية المحورية الثانية فهي ” فوز العبد الله”؛  امرأة من أسرة ذات مكانة وتقاليد، اختفي زوجها بدر بسبب الحرب لأكثر من عشرين عاما،  ويقدمها لنا الكاتب في عبارات محددة أشبه ببطلات المأساويات اليونانية القديمة  “امرأة ملعونة لم تعرف رجلا إلا أصابته في مقتل، أبوها مات في حادث أثناء رحلة صيد، وزوجها اختفي منذ الغزو”،  فلما ظهر في حياتها هذا التُّرجُمان بدت كأنها بالنسبة له امرأة قدرية تجلب له المتاعب وراء بعضها ، رغم أنها تنشد السلام  النفسي، والحب الإنساني.

يعني هنا أننا تعرفنا علي كافة أصوات البشر الموجودين من حول الحبيبين، خاصة كل من له علاقة عمل  بالتُّرجُمان ، الذي صورته الرواية كأنه النموذج المنشود للانسان في السلوك، والسمعة ، وكفاءة العمل،  بينما عكست أراء كافة الشخصيات التي تحدثت عن مشاعرها ، ومواقفها تجاهه بين ارتياح، أو الصدمة ، خاصة زملاء العمل الذين رأوا فيم حدث وسيلة لكسب مكانة أو للتعبير عن شماتة.

19598760_142844169739504_8200020790864243435_nوفي هذا الاطار فإن المؤلف وقع في نمطية التقسيم التقليدي للبشر إلى  أخيار وأشرار. رغم أن كل أبطال الرواية ينتمون إلى  المؤسسات الثقافية الراقية في أكثر من بلد عربي، لكن الكثيرين منهم يعمل في المؤسسة الثقافية دون أن يمتلكوا سلوك المثقف الذي يمنحه المؤلف لبطله المريض في المقام الأول ولبعض من يتواجدون في إطاره ومنهم التُّرجُمان العجوز دانيال خيرت الأب الروحي للسيدة فوز، فمن كان علي خصومة أو مسافة انسانية بعيدة تجاه الشخص، والذي استفاد من المحنة ، فهو الشرير الانتهازي، والعكس يتمثل في شخص مثل السائق الهندي عبد الرحمن الذي يبلغنا بحيادية شديدة  عن اللحظات الاخيرة للترجمان قبل أن تأتيه الغيبوبة.

والغريب أنه رغم حضور التُّرجُمان في كافة فصول الرواية فإن شخصية الدكتور سلمان  الابراهيم، المسئول الأول عن مؤسسة الترجمة يبدو أكثر حضورا من التُّرجُمان أو حبيبته المصدومة فيما حدث له ، وكما أشرنا فكل هذه الشخصيات تتكلم بالتناوب بصياغة قريبة إلى  أسلوب اتبعه الكاتب الأمريكي جون شتاينبك John Steinbeck  في أكثر من رواية منها : “تورتيلا فلات”  Tortilla Flat وأيضا “المهر الأحمر” The Red Pony ، حيث يمكن للقارئ أن يتابع النص الأدبي على أنها رواية متتابعة الفصول، أو أنها مجموعة من القصص القصيرة يحكمها مكان واحد ، وتكرار ظهور الشخصيات بدرجات مختلفة ، فالشخص الذي يتكلم كمتحدث أساسي في أحد الفصول ، قد يذكر اسمه بشكل هامشي في فصل آخر حسب درجة اقترابه من الراوية صاحب النص، أو الفصل.polaroid-john-steinbeck

وقد نلاحظ مثل هذا الأمر في رواية “التُّرجُمان” بصورة ما ، إلا من بعض الاختلاف. وهو أن التُّرجُمان لم يتكلم  في  فصول النص بشكل مباشر و هو الحاضر بالنسبة للراوية في الفصول كلها، والمكان هنا ثابت ، فهو المستشفي الذي تم نقل التُّرجُمان إليها عقب الإصابة الأولى، علما أن المريض نقل بعد ذلك إلى مستشفي آخر، ومنه تم نقله إلى بيت حبيبته ، تمهيدا للسفر إلى إحدى المستشفيات الألمانية عقب عقد القران المنتظر.

Tortilla Flatكما أن هناك مكانا رئيسا آخر هو مكان مؤسسة الترجمة الذي شهد الكثير من الأحداث الحادة ، وعليه فإن الشهود الحكائين هنا لا يبتعدون عن المكان ابتداء بزملاء التُّرجُمان ، وأيضا الطبيب المعالج، أو  حارس  العمارة  التي يسكن التُّرجُمان  في إحدى شققها ، هذا الحارس يحوّل شقة التُّرجُمان أثناء مرضه إلى وكر لتلاقي الباحثين عن المتعة، من أجل تنمية تجارته في الرقيق الأبيض، ووصل الأمر أيضا إلى ابن شقيق هذا البواب الذي كان السبب في كشف الجريمة أثناء إقامته في البلد نفسه.

هذا التنوع في الحكّائين لم يسمح للراوية أن يقدم العالم الصغير الذي عاش فيه التُّرجُمان ، الذي رغم أنه تائه عن الوعي  فإنه حاضر بما كان له من قيمة لدى كل راوية ، وكانت هذه التنوعات فرصة ذهبية كي يختلف أسلوب الحكي من فصل إلى آخر ، وعليه فإن لكل راوية مفرداته الخاصة به في الحكي، وقد حاول الكاتب استخدام مفردات الحكي البالغة  الخصوصية  دون إفساد اللغة التي يستخدمها قدر الإمكان ، ويبدو الأمر واضحا في الفصول التي يحكيها غير العرب، أو الوافدين في المكان ، ومنهم خادمة فلبينية قبلت أن تترك التاريخ الذي درسته كي تعمل في البيوت  في البلد الذي اختارته للعمل، لكن لأمر كان واضحا في أسلوب ومفردات الحكي عند السائق الهندي الذي صار عليه أن يحكي بلغته العربية الركيكة التي تعلمها أثناء عمله في البلدة نفسها، بينما كان الحكي لدي العاملين بمؤسسة  الترجمة متقاربين في لغاتهم باعتبار أن مستواهم الثقافي على وتيرة متقاربة.

ومن  المهم أن نتعرف علي المسافات البالغة الاتساع بين أشخاص الرواية ، وهم كثيرون كما أشرنا ، لكن هناك حالتين تمثلان مسافتين عريضتين ، في حرفية الحكي، وقوة اللغة . والكاتب يقدم لنا كل منهما فيما هو أقرب إلى الواقع دون اضافة المزيد من الرتوش.

gulfwalkin_job_1_13009النموذج الأول يمثله في فصل قصير نسببا يرويه السائق الهندي عبد الرحمن الذي يحكي على هذا الغرار:

“بعد 2، أو 3 سنة صاحب الشركة قال أنا أدفع قسط  السيارة بعد خمسة سنة، السيارة ملك عبد الرحمن، وقلت زين. كل يوم أدفع3  دينار وأيام فيه شغل، أيام أحصل 10 دينار ، 30 دينار،  لكن أيام ما في دينار أو نصف دينار. هذا غير بنزين، غير سكن، غير أكل، غير تليفون مال أولاد في إنديا. نصيب” .

قد  جعل الكاتب السائق يكتب، أو يحكي مثلما يتكلم ، والفصل بأكمله مكتوب بهذه الآلية، بما يعني تفرد كل شخصية اختارها المؤلف ليحكي كل منها حسب الخبرة والثقافة، ودرجة اتقانة للغة البلد التي تدور فيها الأحداث، كأن يقول السائق في مكان آخر، تأكيدا لوجهة  نظره:

“ساعات فيه زبون كريم. أنا عندي كم زبون الله كريم. مثلا “محسن” باشا. مصري غير شكل. غير مصريين. أول شيء فكرته إنه لبناني. لكن ما في دخان سيجاريت. ما في أعصاب شديدة. “عبد الرحمن” يشوف ابتسامة “محسن” باشا بس.”

أما النموذج النقيض فهو في الفصل الأول الذي يدور علي لسان محسن قبل إصابته القدرية المفاجئة، في رؤية بانورامية يحكي فيها عن خلفيات أحداث تخص حياته الشخصية، وسبب حضوره للعمل في هذا البلد وتعرفه علي العديد من الشخصيات، وبالطبع علاقته بعمله فيأتي حديثه كمترجم واسع المعرفة ، وراقي السلوك ، كثير التجربة ، وهو يقول مثلا:

“البدايات مهمة … والنهايات أهم، وما بينها كثير من الهري والهراء. أنا مُطلّق، لم تستطع السيدة أن تحتمل حياة زاهدة برفقة مترجم، موجود في البيت بجسدِه … لكنه منشغل بمشروعاته التي لا تنتهي، تركتُ لها البيت لتربّي ابنتنا الوحيدة، وعدتُ إلى غرفتي الصغيرة في بيت أبي، أدفع نفقة، ولكن مصاريف البنت خارج النفقة تجعلني أعمل ٤٨ ساعة كل ٢٤ ساعة”.

ويستكمل كلامه عن نفسه قائلا بنفس المفردات الراقية:

” أعشق عملي، حين أترجم أغيب عما حولي، فنص الترجمة يشبه عذراء تفضين أسرارها ثم تحكين للعالم كيف أمتعتك، لذلك أبحث عن نصوص مغايرة، مفاجئة.

وهكذا نحن أمام رواية تتجدد في أسلوبها ، وتعكس إلى أي مدى كتبها المؤلف باعتناء شديد ، وهو حريص على العودة إلى الرواية  ليكون أحد أبرز من يكتبونها الآن.

ألقى الكاتب والناقد محمود قاسم (الأول على يمين الصورة) جزءا من هذه الدراسة في أمسية مناقشتها في مؤسسة بتانة الثقافية

ألقى الكاتب والناقد محمود قاسم (الأول على يمين الصورة) جزءا من هذه الدراسة في أمسية مناقشتها في مؤسسة بتانة الثقافية

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات