نبع مريم يتدفق … في اتحاد كتاب مصر

06:51 مساءً الأربعاء 6 مارس 2019
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

travel

هناك ولع بنظرالمرء  إلى المرآة، وهو ولعٌ تخطى حدود الحكايات الخرافية وسؤالها عما ترى في جمال الناظر أو الناظرة إليها، إلى مساءلة الواقع واختبار ماذا نرى فيها مما لا نكتشفه نحن من عيوب.

هذا الولع أراه جليا في قراءة المكتوب عنا، خاصة في مرآة الآخر، وهو شأن ليس جديدًا في الأدب، عمومًا، وأدب الرحلة، على نحو خاص، ولا أزال أذكر مجلدين في أكثر من ألف صفحة، أصدرتهما الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1984، يحملان عنوان “مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء” (في القرن التاسع عشر)، وقد صنفهما لنا موسوعي الفن في الثقافة المصرية الدكتورثروت عكاشة، وضمنهما في جزأين؛ 1 و2، مع عشرات من الرسوم الملونة والتي بالأسود  والأبيض (293لوحة منها 105 ملونة)، مما جعل من تلك الموسوعة ـ كعادة موسوعات الفنون التي قدمها لنا عكاشة ـ معرضا متنقلا، يعرض جملة من إبداع هؤلا الغرباء مما تركوه مرسوما أومدونا، أو مصورا بعد اختراع آلة التصوير في منتصف ذلك القرن.

"مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء" (في القرن التاسع عشر)، وقد صنفهما لنا موسوعي الفن في الثقافة المصرية الدكتورثروت عكاشة

“مصر في عيون الغرباء من الرحالة والفنانين والأدباء” (في القرن التاسع عشر)، وقد صنفهما لنا موسوعي الفن في الثقافة المصرية الدكتورثروت عكاشة

حتى أنني أذكر دعوتي لإقامة ندوة عربية قبل سنوات، بعد أن أغرقنا خلال عقود هذا الولع؛ قراءة الآخر لنا، لنخصص تلك الندوة لموضوع (الغرب بعيون عربية)، وهو ما كان يتسق مع مسارنا برحلات اكتشاف المغاير لنا حول العالم.

ولكن سيبقى موضوع استكناه واستكشاف آراء ذلك الآخر فينا مطلبا بحثيا، وسيظل كاشفا عن أبعاد تتجاوز المكتوب،  خاصة إذا وقعت تلك الآثار بين يدي أكاديمي وهب حياته للتنقيب في خبايا المسكوت عنه، وهو ما شدني لحضور ندوة أدب الرحلات في اتحاد كتاب مصر، التي أقيمت قبل أيام، ودعاني إليها الأديب حمدي البطران، رئيس شعبة أدب الرحلات بالاتحاد، خاصة وأنني قرأت بالأسماء المرشحة للحضور والكتابة والمناقشة قائمة مغرية ستثري الحديث، وستجعل من الندوة منصة إنطلاق لحدث أو أحداث أخرى، وهو ما تم.

(من اليمين) الإعلامي عمرو الشامي والمؤرخ د. عاصم الدسوقي، ومدير الندوة الكاتب الروائي حمدي البطران، والكاتب الروائي محمد بركة

(من اليمين) الإعلامي عمرو الشامي والمؤرخ د. عاصم الدسوقي، ومدير الندوة الكاتب الروائي حمدي البطران، والكاتب الروائي محمد بركة

تناولت ندوة شهر مارس كتاب (نبع مريم | وادي النطرون) لمؤلفه د. ماجد عزت إسرائيل ، وطاف بالرحلة داخل الكتاب المتحدثون (بالترتيب) الإعلامي عمرو الشامي والكاتب الروائي محمد بركة، والمؤرخ د. عاصم الدسوقي، وأدار اللقاء  الكاتب الروائي حمدي البطران، الذي اختتم مداخلاته وتعليقاته بقراءة رسالة وجهها الباحث إلى الحضور، شرح فيها منهجه في الكتاب، ، وأنه كان في الأصل مجموعة من المحاضرات ألقاها في عدة أماكن بين عامي 2007 و2015 . داخل مصر وخارجها، وأنه استفاد من الإقامة في ذلك العالم، خاصة إقامته في ببرية شيهيت في وادي النطرون ، وبالتحديد داخل جدران دير السريان بالوادي سابحا بين المخطوطات والوثائق ، ومتأملا الرسوم والأيقونات التاريخية، ودراسة المنطقة وطبيعتها الجغرافية، دون أن ينسى الإشارة إلى مصادره الأخرى للرحلات التي يعرض لها من كتابات وجدها في أرشيف المتحف القبطي والبطريركية المرقسية بالأوزبكية بالقاهرة ، وهو ما زود الكتاب بالوثائق والمخطوطات والخرائط والرسوم والصور لوادي النطرون واديرته ورهبانه.

وعرض المؤلف – كما يقول الدكتور عاصم الدسوقي في تقديمه للكتاب –  لوادي النطرون في كتابات الرحالة على مدى ستة عشر قرنًا من الزمان (من القرن الرابع الميلادي إلى نهاية القرن العشرين) بما يعده عملًا موسوعيًا من الدرجة الأولى؛ ليغطي كافة جوانب الحياة في هذا الوادي وخاصة الجانب الديني المتعلق بحياة الرهبنة بين أقباط مصر، وذلك من خلال كتابات الرحالة الأجانب من مختلف الجنسيات الذين قصدوا الوادي مباشرة من بلادهم أو توجهوا إليه من القاهرة.

والدكتور  ماجد عزت إسرائيل الذي حصل على دكتوراه الفلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 2008، يعمل أستاذا زائر في جامعة بوخوم الألمانية، منذ 2013، وهو ما عرفنا تفسيره حين دعانا علامتنا المبدع الدكتور دسوقي ألا نفصل بين النص وكاتبه، وأن نربط دوما ، كما يفعل علم اجتمع الأدب، بين الكتاب وصاحبه، حيث أن مؤلف الكتاب الذي عمل بالتعليم المصري لم يجد بعد نيله درجة الدكتوراه مؤسسةً أكاديمية مصرية تقبل أن يكون بين هيئة تدريسها، فما كان منه إلا أن يسافر إلى ألمانيا، لتفتح له مدينة بوخوم صدرها وحرمها الجامعي ليكون بين أعضاء هيئتها التدريسية، وليتاح له، ورب ضارة نافعة، أن يصل إلى مصادر جديدة يجدها المتصفح للكتاب والقاريء لفصوله.

وبالنظر إلى قائمة مؤلفات عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية وصاحب نبع مريم سنجده يرد ذلك النبع أكثر من مرة في مؤلفاته ودراساته المنشورة، ضمن إصداراته التي شملت: ( وادي النطرون في القرن التاسع عشر: دراسة تاريخية وثائقية (2009)، و (البطريرك المنتظر)، مؤسسة الأهرام، 2011، إحياء الموسيقى القبطية في العصر الحديث في كتاب التاريخ والموسيقى)ـ عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية، 2013، و (بدو مصر والسلطة السياسية)، دار المعارف، 2015.

f4e09ca3-2f46-4b76-8dad-548d5d9782b2لم ينس المتحدثون جميعهم توجيه الشكر للناشر حسن غراب لتصديه لنشر تلك الموضوعات الرصينة والنوعية، رغم سيادة تيار النشر الروائي والأدبي العام الذي تشهده مصر،  من الكتب التي تعرض لتاريخ مصر

وفي كلمته التقديمية والتفصيلية استعاد الإعلامي عمرو الشامي كلمة مأثورة للأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا ؛ بأن بريطانيا لم تعد دولة عظمى منذ أن غاب عنها أدب الرحلات، وأتفق تماما مع الكاتب الذي يعلم المتابعون لتعليقاته عمق استبصاره لمشكلات الوطن، وأضيف أننا أيضا ابتعدنا عن رفد العالم بأنهار معرفية جديدة منذ أهملنا هذا الأدب، إذ أن سيرة كل عالم منح الحضارة الإسلامية والنهضة العربية جزءا من تقدمها تقدم رحالة، بدءا من العصور الأولى وصولا إلى بدايات عصر النهضة قبل قرن في مصر.

من موسوعة "طيور مصر"، التي ألفها الباحث المصري النابغة محمد محمد عناني (2004).

من موسوعة “طيور مصر”، التي ألفها الباحث المصري النابغة محمد محمد عناني (2004).

وذهب الشامي في مقارنة الكتاب بموسوعة وصف مصر، واستحضر موسوعة أخرى تحمل عنوان “طيور مصر”، ألفها الباحث المصري النابغة محمد محمد عناني (2004)، والد شيخ المترجمين الدكتور محمد محمد محمد عناني، وأهميتها في ذلك الرصد والتوثيق الذي يماثل ما فعله مؤلف كتاب نبع مريم عن  وادي النطرون من حيث وصفه للمكان وصفا دقيقا وهو ما يؤكد أن ما ورد – مثالا – حول أنواع الطيور التي رآها الرحالة، ومن بعدهم علماء الحملة الفرنسية، قد انقرض كثير منه.

وقد ذكرتنا إشارة الشامي إلى ربط الرهبنة بجذورها في الحضارات الصينية والهندية  وبأنها ليست فكرة قبطية خالصة، برحلة نشرتها في جريدة القاهرة تحت عنوان: جعلوني بوذيا!

قديس يحلق بعيدا باللغة العربية هدية إلى راهبة بايكدامسا

قديس يحلق بعيدا باللغة العربية هدية إلى راهبة بايكدامسا

templestayكنت أحكي في ذلك المقال عن إقامتي القصيرة في مجمع معبد بايكدامسا فوق جبل سوراك، واستعدت ذكريات مرتين سابقتين زرت فيهما المكان نفسه، وبدا لي أنه كالأساطير خالد، يتبدل الزمن ولكنه الصامد، فقط البشر يأتون ويذهبون، سواء كانوا رهبانه، أم زواره. لقد بدأ بناؤه في القرن السابع الميلادي، إذ شيده جيانج يولسا في 647 ميلادية، وتعددت أسماؤه مذ ذلك الحين، حتى استقر على مسماه الحالي، كما استمر البناء بمرافقه حتى اكتمل منذ 70 عامًا تماما.  هذه العزلة الجغرافية النائية في الشمال وبالأعالي، جعلت المعبد بمثابة حامل أختام يقف عند عتبة جبل سوراك، وجسدته أيقونة للرهبان في أجمل جبال كوريا الجنوبية. هنا أنشأ الرهبان البوذيون عالمهم الخاص والفريد، لكن تلك الخصوصية طوّرت من ثقافتها بمفهوم جديد عبر برنامج temple stay  وهو ما يتيح لغير الرهبان، من أي دين، ومن أي دولة، ومن أي ثقافة، أن يعايشوا البوذيين المعتكفين هنا في حياتهم اليومية؛ وأن يستفيد نحو 750 ألف شخص يفدون سنويا إل المكان، بأن يتوجه بعضهم لممارسة الحياة البوذية بالإقامة في المعبد ليوم كامل، وربما أكثر. إقامة ليست للمرح، وإن خالطتها البهجة، وليست للتسلية وإن امتزجت بها تزجية الوقت، وإنما لفسحة كبيرة من التأمل عبر الممارسة والاسترخاء معا.

تذكرت ذلك  وأنا أتابع الجدل الذي بدأ بدعوة الروائي محمد  بركة إلى المصريين جميعهم، وخاصة المسلمين منهم، بالصلح مع الذات، فهذه الإقامة داخل دير وادي النطرون ونسك الرهبان فيه يندر أن يعرفها من هم خارج تلك الثقافة، وهو ما يجعلنا نوافق على أن جزءا مهما من الشخصية المصرية مهمل، كما يقول بركة، وكأننا نتخلى عن مكون أصيل من مكونات شخصياتنا.

وتحدث بركة عن الجهل بالشخصية القبطية بما يجعل من الجهل مقدمة حقيقية لفكرة الإقصاء التي ظهرت في المجتمع الثقافي المصري. لذلك أتاح الكتاب لنا أن نرى وادي النطرون كجزء من مصر بعيون مصرية خالصة، بعيدا عما كتبه الرحالة عنها، وهو ما بدا في تعليقات المؤلف الذي لم يترك النصوص على عواهنها، بل دقق وصحح ما رآه يستحق. وقد اعترض بركة على مداخلة الدكتور رضا عبد الرحيم الذي أوقع اللوم على الباحثين الأقباط في عدم التعريف الكافي، لأن ذلك اللوم ـ كما قال بركة ـ يعني أن مهمة اكتشاف الذات القبطية منوطة بالأقباط فقط، رغم أنها دعوة للمصريين جميعا. حتى أن الأديب سيد الوكيل قال إن في مصر بقاعا أجدر بالاكتشاف من غيرها خارج مصر، ولذلك أثنى على تجربة الروائي سعيد نوح الذي خص وادي النطرون برواية كاملة، مقترحا إضافة موضوع هذا الكتاب إلي الأفكار التي ستطرح في مؤتمر الشعبة في نهاية العام، كموضوع راق يتناسب مع فكرة موضوعات شعبة أدب الرحلات.
لا يزال حديث الدكتور عاصم الدسوقي نبعا متدفقا فريدا، فهو لا يكتفي بمزج الشخصي والنادر في معرفته بالكتاب وكاتبه وأسرارهما، وإنما يعرف كيف يقتطف من هذه الموسوعة ما يوجز رسالتها، ولذلك أضاف إلى الأسباب التي عددها بركة عن هجوم وانتقاد الرحالة على رهبان الدير، بأن ذلك يرجع إلى أن بعض هؤلاء الرحالة حاولوا الحصول على بعض المخطوطات ولكن الرهبان كانوا يرفضون ذلك كما أن آخرين حاولوا تقديم رشاوي للرهبان، مما دعا بعض الرهبان لرفض الحديث مع الرحالة، كما أن الاختلاف بين أرثوذوكس مصر وكاثوليك أوربا، كان من أبين أسباب الانتقاد. ولذلك كان تصدير الرهبنة القبطية المصرية مثار نقمة وحسد عبرت عنهما بعض كتابات الرحالة. .
أيقونة

وحين تحدث الدكتور رضا عبد الرحيم عن ضرورة دراسة رحلة العائلة المقدسة في مصر، بادرت الإعلامية وفاء عوض عضو شعبة أدب الرحلات بالإشارة إلى مبادرة مصرية بريطانية لدعوة أفواج إنجليزية لزيارة مسار العائلة المقدسة في مصر، فصلها الراهب القمصي بيجول السمياني بأنها ثلاث محطات من بين 14 محطة للعائلة في مصر، وأن هذه الاختيارات بداية سمحت بتأمينها الدولة، رغم أن هناك مواقع في القاهرة، كالمطرية، لم تأت الموافقة على تضمينها في المسار المختار.

جميل أن أكون في هذه الندوة التي تناولت أدبا شغفت به، وأسير على دربه، وهو ما جذب أيضا للحضور مفتشة الآثار  د. رشا السعيد نجم، والكاتبة الدكتورة مرفت محرم، والقاصة حياة عبد الوهاب، والشاعر أحمد عبد العظيم أبو العز، والكاتبة عبير العطار، والروائي محمد العون، والناقد الدكتور سيد جمعة، والكاتبة المهندسة سعاد الزامك عضو شعبة أدب الرحلات ، الذين استمعوا في نهاية الندوة لموسيقى كردية إيقاعية قدمها العازف السوري تمر ناس معو.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات