الثورة والتغيير

10:48 صباحًا الأحد 9 ديسمبر 2012
عبد الجواد خفاجي

عبد الجواد خفاجي

كاتب من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

من المؤكد أن أي فعل ثوري ناجح يهدف إلى التغيير الشامل ، كما أن أي تغيير شامل هو في حد ذاته فعل ثوري، وشمولية التغيير بالضرورة تشمل كل الوطن كما تشمل كل جوانب الحياة فيه، وإن كان يتم بنسب متفاوتة ووفق برامج مركزية، إضافة إلى كثافة البرامج، والخطط الهادفة، وإن كان المدى الزمني للتغيير الشامل يتوقف على المسافات الفاصلة جغرافيا بين أطراف الخريطة والمراكز الحضارية الكبرى، وكذلك طبيعة الثقافات المتسيدة التي يمكن أن يستهدفها التغيير ومدى تجذرها في هذا الطرف أو ذاك، ومدى استجابته للتغيير، لأن أي تغيير حقيقي يجب أن يبدأ بالثقافة.

 كما أن المدى الزمني للتغيير يتوقف على المستوى الحضاري لهذا الطرف أو ذاك ، لأن المناطق  الأكثر تخلفا أو البدائية أو التي تحكمها العشائرية والقبلية يمكن أن تكون مقاومة للتغيير، وترفض أن تبدل جلدها بيسر، كما ترفض أن تتزحزح نحو الأمام ، تماماً كالعربة الخربة التي بحاجة إلى الدفع من الخلف لتدور.

 وإذا كان التغيير الشامل يتوقف على ما سبق، فبالإمكان القول إن خطواته الفاعلة حتى الآن على المستوى العام لم تبدأ بعد، بسبب التوابع السياسية للثورة المصرية، وما تلاها من عدم استقرار سياسي ، وهجمات القوى الموالية للنظام القديم، وكذلك ضعف موارد الدولة إلى الحد الذي لم  يمكنها بعد من رسم خطط مركزية للتغيير، وكذلك حالات الصراع الأيديولوجي المؤطر للرؤى السياسية والذي يكاد يعصف بالممارسة السياسية الحقيقة للأحزاب السياسية .

 ومن ثم فإننا يمكن أن نفهم أن ما تم من تغيير حتى الآن، إنما تم في الإطار العشوائي للتغيير، وهو تغير ثقافي سياسي متمثل في الرغبة في المشاركة الممزوجة بالعاطفة والهوى أحيانا، وهذا أمر طبيعي أن تكون المشاركة الثورية مشحونة بالحماسة والعاطفة وهما دافع الشعب ووقوده نحو الثورة ، فكما يقول فولتير: ليس الظلم هو الذي يولد الانفجار، ولكنه الشعور بالظلم. إن درجة الشعور وتفاقمه كان وقود الثورة منذ البداية، ومن الطبيعي أن يستمر الوهج العاطفي لفترة بعد الثورة حتى يتم تسويره أو تسييجه في إطار فكر ثوري عام تتبناه المؤسسات الرسمية.

ولعل طبيعة المشاركة حتى الآن تقف عند الحد الثقافي والسياسي، مثل التحزب السياسي أو إبداء الرأي أو الحوار، نتيجة الحرية التي أتاحتها الثورة سواء على الصعيد الإعلامي أوالثقافي أوالسياسي ، حيث أتاحت الثورة إمكانيات هائلة غير مسبوقة أمام العقل  والرأي المصري، المقرون بحرية مطلقة للرأي تعد إحدى منجزات الثورة، كما أتاحت قدراً هائلا من إمكانية الحوار خاصة مع توافر وسائل الاتصال الحديثة، وبدأ تحرك الأحزاب ببرامجها نحو الشارع المصري.

ولا شك أن ما تم حتى الآن في الإطار العشواتي غير الممنهج وغير المبرمج على الصعيد السياسي يصاحبه تغير عشوائي على الصعيد الاجتماعي الذي بدأ يتخلخل عشوائيا بعد الثورة، خاصة أن المجتمع المصري طوال الثلاثين عاماً السابقة للثورة تعرض لعمليات تجريف خطيرة سياسيا وثقافيا واجتماعيا يصعب التكهن معها كم من الوقت يحتاج الشعب المصري لأن يستعيد شخصيته الحقيقية، على فرض قيام برامج مركزية للتغيير، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار أن تغيُّره العشوائي كان يتم منذ فترة سابقة على الثورة بفعل متغيرات عالمية مفروضة نتيجة الانفتاح الإعلامي على العالم، وتعرضه لهجمات العولمة الثقافية المبرمجة  وفق منظومات عالمية متكاملة ثقافياً وسياسيا واقتصاديا أدت إلى خلخلة ثوابت كثيرة في المجتمع المصري وتغيرات عشوائية خطيرة أثرت على اللحمة الاجتماعية وعلى الشخصية المصرية خاصة مع اشتداد الأزمات الاقتصادية التي كانت تعصف بالشعب المصري بجانب انتشار البطالة فيه، وتغلغل السياسات الأجنبية بمنظوماتها الاقتصادية والثقافية وتدخلاتها المباشرة في السياسة العامة للدولة التي كان يحكمها نظام خاضع للغرب بحكم عقيدته السياسية وحرصه على توريث الحكم، وخاضع لإملاءات القوي الأجنبية واشتراطاتها التي كانت كثيراً ما تجر الثقافي خلف السياسي.

ولعل من أهم ما يؤكد عشوائية التغيير هو حجم التناحر السياسي الهائل الآن بين الفصائل الثورية ذاتها التي شاركت في الثورة، وكذلك حجم التناحر الأيديولوجي المؤطر للرؤى السياسية ومدي الهوة بين أطرافه، بما يشف عن الإخلاص للأيديولوجيا على حساب أية قيم ثورية أو وطنية، وكذلك حجم التباينات والانعكاسات الاجتماعية لهذا التناحر السياسي بما يهدد اللحمة الاجتماعية والتماسك الأمني للشعب المصري.

ولعل من أسباب هذا الانزياح العشوائي ما هو سياسي يعود إلى سياسة النظام السابق الذي دأب على تشويه معارضية وتوظيف كافة إمكانياته لتسويد وجوههم وتاريخهم أمام الشعب، الأمر الذي يصعب معه الآن تبييض هذه الوجوه بسهولة مرة أخرى ، وزرع الثقة بينها وبين الشعب دون جهد سياسي وثقافي حقيقي يبدأ بالثقافة وينتهي بالصندوق، وربما ثاني الأسباب يعود إلى طبيعة الثورة المصرية نفسها التي لم تكن ذات طابع سياسي خالص، فطوائف كثيرة من الشعب المصري التي شاركت في الثورة كان دافعها للثورة اقتصادي ولم يكن سياسياً، ولعل المطلب الأول للثوار كان: (عيش)، ولم يكن (حرية)، وكثير من الشباب الذين شاركوا في الثورة كان دافعم للثورة ما هم فيه من بطالة وشظف العيش بجانب العشوائيات التي كان دافعها هو الوضع الاقتصادي المتردي وليس المطلب السياسي المتمثل في حياة ديمقراطية سليمة، أما الأسباب الأخرى المتعلقة بطبيعة الثورة تتمثل في عدم وضوح رؤوس للثورة حتى اليوم، ومن ثم لم تكن الثورة وسيلة الأحزاب الناهضة للتغيير بقدر ما كانت مطية للكيانات الحزبية القديمة، والقيادات الباهتة القديمة التي كانت تتماس مع النظام القديم في بعض الرؤى والسياسات دون مواءمة كاملة، أو تلك التي كانت تعارضه كديكور سياسي، على  أكثر مما كانت.

وليس معنى هذا أن الثورة المصرية كانت مجردة من الدوافع السياسية، وإلا فإننا سنتغاضى عن الفعل الثورى السياسي الحر الذي تبلور خلال العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك وبعد ظهور مشروع التوريث بجلاء، هذا الفعل كان له رجاله المخلصين وشاركت فيه جمعيات ومنظمات وحركات كثيرة كانت تعمل في الواقع المصري من الداخل ومن الخارج، وهناك مؤلفات عديدة لرجال مخلصين للعمل الوطني الثوري، وجهد توعوي حقيقي بُذل وربما تضحيات أيضاً كان يدفع ثمنها الأحرار الثوريين المعارضين المنبوذين، ولكن ـ ومع تقديرنا لمثل هذه الجهود والمرامي والتضحيات الحقيقية ـ  لم تكن لتصنع ثورة أو تغييراً سياسيا حقيقياً، والدليل من واقع الثورة نفسه، فقد خرجت الجموع القليلة يوم 25يناير (عيد الشرطة) لتوصيل صوتها المعارض والرافض لتصرفات النظام الأمني المصري الغاشم والمستبد ولم يكن هدفها تغيير نظام الحكم، وكانت الأعداد محدودة بالقدر الذي يعجزها عن إحداث ثورة كاملة، لولا المشاركة الشعبية التي نسمها بالطابع الثوري الاقتصادي لا السياسي ، فيما بعد وفيما أطلق عليه جمعة الغضب.

  أمام عشوائية التغيير والانزياح يمكننا أن تؤكد على أن استعادة الشخصية المصرية بثوابتها ووعيها وقيمها الوطنية والثقافية والحضارية بالشكل الذي يصنع منها نسيجاً ثوريا موحداً يهدف إلى تغيير الواقع نحو الصعود لمنحي حضاري جديد يحتاج إلى  إمكانيات هائلة وإلى برامج موسعة وخطط مركزية، كما يحتاج إلى وقت طويل، وإن كان بداية يحتاج إلى نقطة استقرار سياسي للبدء، و قبل هذا وذاك يحتاج إلى جهود المخلصين والوطنيين، وإلى وفاق وطني عام يتبلور عنه وفاق سياسي من حيث المبدأ.

أما البديل عن ذلك فهو ما لا نحبذه لأنه يعني الثورة على الثورة ، وهذا له مؤشراته في الشارع المصري الآن ، وربما أنه مؤشر خطر، لأنه لن يقود إلى استقرار سياسي اجتماعي بقدر ما سيؤدي إلى تفتت الدولة إلى كيانات وكردونات ثورية، طائفية ومذهبية ,وأيديولوجية، وتوصيفات أخرى كثيرة بدأت تظهر في الأفق المصطلحي للشارع المصري .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات