شيخ الأزهر في نوتردام الأخرى

09:00 صباحًا الثلاثاء 16 أبريل 2019
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

لعلَّ الصدفة وحدها كانتْ أولَ خيطٍ قادني لقراءةِ أوراق هذه الرحلةِ المهمةِ. وهي صفحاتٌ منسية، رغم أن مسطرَّها من الأعلام النادرين في تاريخ النهضة المعاصرة، لما بلغه من مكانة، وما تركه من أثر. وفي أوراق هذه الرحلة من شذرات التنوير ما يجعلها أكثر معاصرة مما يكتبه دعاة التنوير اليوم، وفيها من الدعوة للحوار مع الآخر وفهمه، ما يكاد يكون صدى لما يحدث الآن.

وكنتُ قد عثرتُ على مقالةٍ أولى للشيخ مصطفى عبد الرازق في مجلة (مجلتي) التي أصدرها قبل نحو سبعين عامًا الأديب أحمد الصاوي محمد. كانت (مجلتي) ـ التي صدر عددها الأول في ديسمبر 1934 ميلادية، وكما يقول أحمد الصاوي محمد في أحد إعلاناتها ـ جسرًا بين الشرقِ والغربِ، وهو جسرٌ لم يُخفِ عشق مؤسسها وصاحبها ومحررها لباريس على وجه خاص، حتى أنه جمع ما نشره في (مجلتي) حول هذه المدينة في كتاب ضخم أسماه (باريس).

الشيخ مصطفى عبد الرازق في باريس

الشيخ مصطفى عبد الرازق في باريس

كانت تلك المقالة أول ما قرأت للشيخ مصطفى عبد الرازق، وهي قصيرة في صفحاتها، ممتدة في أثرها، وتحمل عنوان (بين البَرِّ والبحر) وفيها يقص علينا الشيخ رحلته بالسفينة إلى مدينة مرسيليا وزيارته لكنيستها الشهيرة (نوتردام دو لاجارد)، ليدعونا ـ من هناك ـ للتأمل في جمال الدين، أيِّ دين، رافضا مذهب الغلو، حيث يقول: إنما يشوه الدينَ أولئك الذين يريدُونه كَيْدًا وتضليلا، وقيدًا للعقول والقلوب ثقيلا. وكان تاريخ نشر هذا الجزء من الرحلة في الأول من يناير لعام 1937 ميلادية.

وهكذا بدأتُ التنقيب عن باقي فصول هذه الرحلة، لأكتشفَ أن ما ينشره الصاوي مستعادٌ، وقد سبقته إلى نشره منجَّمًا جريدة (السياسة) المصرية بين يوم الخميس 31 يوليو 1924 ميلادية (الموافق 28 ذي الحجة 1342 هجرية) إلى يوم الجمعة 10 سبتمبر 1926 ميلادية (الموافق 3 ربيع الأول 1345 هجرية). ثم أعثر على مصدر ثالث للرحلة في كتاب (من آثار مصطفى عبد الرازق ـ صفحات من سفر الحياة ومذكرات مسافر ومذكرات مقيم وآثار أخرى في الأدب والإصلاح) وجمع شقيقه الشيخ علي عبد الرازق بين غلافيه هذه الأوراق وسواها وصدَّره بنبذة عن تاريخ حياة الشيخ مصطفى عبد الرازق، وجعل مقدمة الكتاب الصادر في 1957 ميلادية عن دار المعارف بالقاهرة لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.

Cover Bookدَرَسَ الشيخ مصطفى عبد الرازق في الأزهر الشريف، وكان اجتهادُه ونبوغه وراء نجاحِه في امتحان العالمية في 25 يولية من العام 1908 ميلادية، ونيله الدرجة الأولى، وهي أرقى درجات العالمية الأزهرية في تلك الأيام. وقبل أن يمضي شهر واحد على نجاحه انتدب في 11 أغسطس من العام نفسه للتدريس  في مدرسة القضاء الشرعي، حتى استقال منها في السادس عشر من مارس 1909 ميلادية، وكان عمره آنذاك 24 عامًا، إذا أخذنا عام مولده 1885 ميلادية المذكور في ترجمة شقيقه لسيرته الذاتية مأخذ اليقين.

كما دَرَسَ الشيخ مصطفى عبد الرازق على يد الإمام محمد عبده، واستفاد من منهجه في الانفتاح على أفكار الأمم الأخرى، وهو ما يتبدى بشكل جلي في أوراق رحلته (مذكرات مسافر). فلم يكن منهجه بالضيق أو المتعسف أو التقليدي الذي يتمسك به الأزهر في هذه الفترة، ولذلك يعدان، الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق، مثالين للانفتاح على الفكر الغربي، وكلاهما يمثل في الوقت الاهتمام بالفكر العربي وتراثه، كما أنهما معا يهتمان بالفلسفة. ونعلم أن للشيخ مصطفى عبد الرازق مدرستَه في الفلسفة الإسلامية وفيها قدم كتابه فيلسوف العرب والمعلم الثاني، الذي يتناول فيلسوف العرب: الكندي، والمعلم الثاني: الفارابي، والشاعر الحكيم: المتنبي، وبطليموس العرب: ابن الهيثم، وشيخ الإسلام: ابن تيمية. ورغم صغر حجم هذا الكتاب إلا أنه نموذج على تمكن شيخنا من منهجه.

ويذكر الشيخ علي عبد الرازق أنه على أثر استقالة شقيقه من مدرسة القضاء، وتفاقم الفتنة في الأزهر، وكثرة الاضطراب والارجاف، نشأ التفكير في أن يسافر مصطفى إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية وبعض العلوم هناك. واتفق أخوته على أن يسافر إلى باريس ليقيم فيها سنة كاملة ليتعلم اللغة ويحضر بعض دروس الفلسفة في السوربون.

وفي يوم الثلاثاء 22 يونية 1909 ميلادية يسافر الشيخ مصطفى عبد الرازق من مدينة القاهرة إلى ميناء بورسعيد. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي تبحر به السفينة متجهة إلى مرسيليا ليأخذ القطار منها إلى باريس، وكان يرافقه على متن هذه السفينة الأستاذ أحمد لطفي السيد، رئيس تحرير (الجريدة) لسان حزب الأمة آنذاك. وقد قضى الشيخ مصطفى عبد الرازق في هذه الرحلة الأولى إلى فرنسا ثلاثة سنوات متتابعات فلم يعد إلى مصر إلا في شهر يولية سنة 1912 ميلادية.

كانت عودة الشيخ إلى مصر لشهور قليلة، وما لبث أن شد الرحال مرة أخرى إلى باريس. ونحن نقرأ عن هاتين الرحلتين في أكثر من موضع، حيث يكتب صديقه الأثير الأديب محمد كرد علي: سَافرَ (الشيخ مصطفى عبد الرازق) إلى باريس في 1909 ميلادية، فتعلم الفرنسية وحضر دروس الأستاذ دركهايم في الاجتماع، ودروسًا في الآداب وتاريخها. وفي سنة 1911 ميلادية تحول إلى مدينة ليون ليشتغل مع الأستاذ إدوارد لامبير في دراسة أصول الشريعة الإسلامية وحضر في جامعة ليون دروس الأستاذ جوبلو في تاريخ الفلسفة ودروسًا في تاريخ الأدب الفرنسي، وتولى تدريس اللغة العربية في كلية ليون مكان مدرسها الذي كان قد ندب للتدريس في الجامعة المصرية.

أما ملف خدمة الشيخ مصطفى عبد الرازق في الحكومة المصرية فجاء فيه ما نصه: كُلِّفَ (الشيخ مصطفى عبد الرازق) أثناء إقامته بمدينة ليون بالتدريس بدلا من جناب الأستاذ فييت الذي كان منتدبًا للتدريس بالجامعة المصرية القديمة، وقد أعد رسالة للتقدم بها لامتحان الدكتوراه في الآداب، موضوعها الإمام الشافعي أكبر مشرعي الإسلام. وقد أخرج بالاشتراك مع المسيو برنار ميشيل ترجمة دقيقة بالفرنسية لكتاب الشيخ محمد عبده موضوعه العقيدة الإسلامية.

ويؤكد الشيخ علي عبد الرازق أن شقيقه الشيخ مصطفى قد شرع خلال إقامته بفرنسا في كتابة مذكرات يومية، وبذل في كتابتها عناية غير قليلة. وما نشره الشيخ مصطفى عبد الرازق ليس سوى شذرات، ويبقى جل هذه اليوميات في جعبة أسرته، ولا شك أن الكشف عنها ذات يوم سيضيء مراحل ومحطات كثيرة من الحياة الفكرية في مصر وفرنسا.

 

كان الشيخ مصطفى عبد الرازق حين عاد لفترة قصيرة من فرنسا عام 1912 ميلادية قد وجد أمه على فراش الرحيل للدار الآخرة. وبعد وفاتها، تداول الأخوة في أمر سفر الشيخ مصطفى مرة أخرى، واستقر الرأي على سفره إلى فرنسا، وسفر شقيقه علي إلى إنجلترا، كما كان والدهما الراحل يوصيهما. وفي مساء يوم الاثنين السابع من شهر أكتوبر 1912 أبحرت بهما الباخرة من بورسعيد إلى مرسيليا فوصلاها في صباح السبت 12 أكتوبر و منها انطلقا صباح يوم الاثنين 14 أكتوبر إلى ليون، حتى غادراها في السابع عشر من أكتوبر إلى باريس. وفي العاصمة الفرنسية يظلان معا حتى 24 أكتوبر، حيث يترك الشيخ علي شقيقه مصطفى، منطلقا إلى لندن. ولم يكن بين المسافرَين من اتصال إلا عبر المكاتبات، وزيارة وحيدة لعلي إلى باريس أقام فيها الشقيقان معا بين الرابع من أغسطس والحادي والعشرين منه عام 1913 ميلادية.

كاتدرائية نوتردام دي لا غارد من الداخل.

كاتدرائية نوتردام دي لا غارد من الداخل.

يكتب شيخ الأزهر عن زيارته إلى نوتردام دي لاجارد في مارسيليا:

“زرت في مارسيليا كنيستها الشهيرة – نوتردام دي لاجارد – القائمة على ربوة عالية تشرف بك على تلك المدينة كلها وتريكها صورة ذات ألوان بديعة مرسومة بشوارعها وحدائقها ونجادها ووهادها وضواحيها. والبحر الأبيض المتوسط حولها نطاق من سندس أزرق.

صعدنا في مصعد تارة وتارة على أقدامنا. حتى بلغنا المعبد. وكنت أحسبني لا أرى إلا أجانب يزورن الآثار الفنية ويشهدون منظر المدينة البديع من ذلك المكان العالي، لكنني رأيت في نواحي هذه الكنيسة الصعبة المرتقى في جوف ظلامها المؤنس الرهيب عباداً يخرون للأذقان سجداً في خشوع وإيمان متوجهين إلى ربهم بقلوب تدفعها صدمات الحياة إلى التماس العزاء في كنف رحمته. في سذاجة لا يعرف الشك سبيلا إلى يقينها.

فاللهم إيماناً كإيمان العجائز! أليس الدين جميلا في إخلاصه ويقينه؟ وجميلا في ما يمسح من آلام البشر بيمينه؟

إنما يشوه الدين أولئك الذين يريدونه كيداً وتضليلاً وقيدا للعقول والقلوب ثقيلا.”

***

لقراءة عرض للكتاب قدمته دكتورة هويدا صالح،هنا الرابط

قراءة الآخر وشعرية العالم في مذكرات الشيخ مصطفى عبد الرازق

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات