سعاد الزامك تكتب: دبلوماسية مُغايرة في “نهر على سفر” لأشرف أبو اليزيد

02:12 مساءً الأربعاء 17 أبريل 2019
مدونات

مدونات

مساهمات وكتابات المدونين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مقال بقلم الأستاذة سعاد الزامك، مصر

61E5D46B-9844-43D8-9AA9-D5DC72015E18كان قديما أدب الرحلات تسجيلا جغرافيا وتاريخيا للرحالة، وأصبح بعد ذلك شكلاً فنيًا بعد تهجينه وتزاوجه بالأدب، إلا أنه تراجع نسبيا في العصر الحالي لتصدُر الميديا الساحة الاستكشافية بتفوقها على مثيلاتها المقروءة. فما عاد السفر وطي الأميال غاية الانسان إلى ذلك، إلا لضرورة حياتية، وإن تمكن من السفر فما هو سوى سائح يرى بعيون مُنظم الرحلة فيما يسمى بالرحلات الجماعية، وفقد ما امتاز به الرحالة القدماء من عمق وفردية وأصالة التدوين.
هل الاكتساح الإلكتروني للعالم يكفي لملئ الفراغ الإنساني التطلعي والشغف الحسي للمعرفة دون مشاهدة فعلية للمكان ودون أن يتكلف مشقة السفر وتكاليفه المرهقة، وبخاصة لمن أراد أن يُعمِل حواسه مجتمعة مع فكره للوصول لمبتغاه؟ من هذا المنطلق يبقى لأدب الرحلات حضورا جنبا إلى جنب الميديا -بما له من خصوصية التوغل داخل المجتمعات، والاحتكاك بأُناسها، والتعرف على خصائص لا يمكن للميديا نقلها أو التركيز عليها -إذا واكب هذا النوع الأدبي التطور المجتمعي والعلمي السريع بإضافة ما يدعمه من الوسائل البصرية.
نعم..لقد طغت ثقافة الصورة على ثقافة اللغات في واقعنا المعاصر، فأصبحت اللغة الموازية للغة المكتوبة والأبلغ تأثيرا وتوجيها لخيالات البشر، بل أصبحت الصورة إلى حد كبير تشكل الوعي السياسي والاقتصادي والثقافي الحالي. إذن للصورة دور كبير في تعميق التواصل بين القارئ والمكان بما تضيفه من تفاصيل يصعب كتابتها، أو بمعنى أدق يبقى للمشاهدة خصوصية التوضيح.
و”نهر على سفر” يُعَد تطبيقا لتلك المواكبة العصرية لأدب الرحلات، حيث يظهر جليا به عدم اكتفاء الكاتب بطَرْحِ مشاهداته الاستطلاعية لبلدان قام بزيارتها على اختلاف ثقافات وديانات واهتمامات أهلها، وطَرْحِ رؤيته الذاتية في صياغة أدبية جميلة، بل كان للكتاب نصيب من الذكاء الحضاري، إذ دُعِمَ ببعض الصور الفوتوغرافية للأمكنة، مما أتاح للقارئ فرصة أوسع للاحساس بكل تفصيلة وأثر موجود بها، وكأنه يشاهدها عن قرب، بل ويتحسس بعينيه روعتها، وتشم أنفه عبق تاريخها، وبدأ الكاتب رحلته بصورة لخريطة العالم، وختمها بصور لفن المنمنمات مع شرح تفصيلي لها، وكأنه يعترف بالأهمية الكبيرة للفن وتأثيره على العالم.
“نهرٌ على سفر”:
تخيل معي لو أنك تُحلق حول العالم دون عناء، لتتصفح الجمال المطل من أحداق المكان، وتتنسم تاريخه واقعه. في رحلتك يتوقف النهر بمحطات عدة (قرطبة، برلين، بيشيلية، تتارستان، بُلغار الفولجا، كوجرات، عرش السلطان أكبر، جُوانج جو، أوزبكستان، شينج يانغ، كوستاريكا، جوهانسبرج، فن المُنمنمات). تتنوع الرحلات(الجغرافية والأدبية والتاريخية والمعمارية والفنية، و تتأثر ذاتك بماهيتها. فالذات البشرية تتجاذبها اتجاهات من وجهة نظر الكاتب والمفكر “علي حرب”، و حدد منها ثلاث هي:
1.العوالم القديمة بأصولها الدينية، وتشكل الجذور البشرية، وتمنحه الطمأنينة ، فيحن إليها الانسان.
2.العالم الحديث، بأيدلوجياته وفلسفاته العلمانية ورواياته العقلانية وتهويماته الانسانية.
3.العالم الآخذ في التشكل الآن، المتمثل في العولمة بفضاءاتها المتعددة، وتتجاذب الوعي والهوية بما يُسمي(بثالوث القدامة والحداثة وما بعد الحداثة).
في “نهر على سفر” بدا لمفهوم الرحلة عمقا فكريا وحسيا ، إذ لم ترتضِ الذات الساردة التواصل بين المتلقي والنَص بعلاقة تقريرية، فعمد الكاتب لتوظيف إمكانياته الصحفية، وارفاق المشاهدات بالصور كقناة تفاعلية بينهما. بذلك تم تأسيس النص في إطار رؤية كلية لمعالم الرحلة، والربط بين عناصرها الطبيعية وغير الطبيعية، لتنشأ عنه قراءة تفاعلية، تبادل معرفي، واستجابة مزدوجة بين الذات الساردة والمتلقي، لتحقيق الإبداع التفاعلي المُشتَهى.
حين تقرأ عن “قرطبة” مثلا، يترآءى لك ما استرعى اهتمام الذات الساردة -من القدامة والحداثة وما بعد الحداثة- ص12 تجدك تتماهى بين الماضي والحاضر(ما إن انطلقت بنا السيارة مغادرين أشبيلية، في الطريق إلى قرطبة، حتى جعلني مشهد متكرر أتأمل تلك الرحلة. كان المشهد لخيول وضعت على مقطورات نقل خاصة، تشبه الأقفاص، تتخذ طريقنا نفسه إلى قرطبة..)، وتتبع منتهى رحلتها ظناً (سأدرك أن الإجابة استقرت عند آثار المدينة القديمة، عندما أرى خيول عربات الحوذية التي تحمل السياح..وهكذا انتقلت وظيفة الخيول، ودارت دورتها، مع التاريخ، والبشر، والحكايات)، فمُزجَ (الماضي والحاضر) معا من مجرد رؤية الخيول المسافرة في رحلة موازية للرحلة.
كذلك فرضت الذات الأصولية نفسها بشدة-فمثلا ص12(سألت نفسي، ألا تختزل رحلة هذه الخيول رحلتنا نحن العرب في هذه الأرض؟)- وكأنها رافقت رحلة الخيول التي ألقت بهذا السؤال، لتحرك الماء الراكد ببحيرة واقعنا العربي بحثا عن إجابة، ص12(في طريقنا إلى قرطبة، أدركت أننا ولجنا كتاب التاريخ العربي في أوربا، وكان يحلو لي وأنا أتابع اللافتات على الطريق أن أُخمن نطق أسماء المناطق والمدن والقرى الصغيرة التي عبرنا بها، وأن أرد هذه الأسماء إلى أصولها العربية، قبل أن تحرفها السنون).
مفهوم الرحلة بالكتاب:
لم تكن الرحلة بالنسبة للنهر مجرد تجوال بالبلدان ومعالمها، بقدر ماهي استرجاع للتاريخ واستكشافات علمية وفنية، وقد أقرت الذات بذلك ص23(“و عايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان ارجع يا زمان”، وصفة سحرية نطق بها صوت أم كلثوم هنا في قرطبة، استعادة الزمان، واستحضار الأندلس، لايعنيان في اعتقادي سوى استعادة الروح الوثابة نحو السفر، والرغبة الوقادة للعلم، والمقامرة الفنية التي جاءت –مثلا– بموسيقى من أقصى الشرق العربي).
جماليات الكتاب:
أرى أن (الجمال لايقتصر على الملامح أوالصفات وحدها، بل يكمن فيما وراء هذا الجمال، وعلى الإنسان الواعي أن يخوض بفكره وحصافته الثقافية رحلة خاصة جدا لاكتشاف مضمونه ومعانيه ومايرمي إليه). من هذا المنطلق فإن قناعتي بأن من آمن بمقولة (إن الصمت في حرم الجمال جمال) لم يُصب كبد الحقيقة، وإنما تعايش مع الظاهر من الجمال فقط.
فرغم اقرار الكاتب بأنها مجرد سيرة لرحلته، إلا أنها تمتعت بجمال يشعر المتلقي بظاهره وكامنه دون تدخل مؤلفه بفرض سطوة قلمه كروائي، فصار مؤلَفه عنوانا لأدب الرحلة، من الجماليات على سبيل المثال:
التشويق من خلال التنوع في أساليب الوصف بجماليات لغوية، فمثلا كتب في وصف “نهر وقرية صيادين”ص41(زرقة الأفق توشي ثوبها سحبٌ تشبه كرات القطن، يتسلل نهر شبريه شمال برلين من شرق المدينة إلى غربها، يتعرج مثل خط طفولي يلهو في انحناءاته والتواءاته، يضيق هذا النهر في أحيان كثيرة فيكاد يشبه شارعا مائيا رصيفاه العمارة التقليدية والخضرة الأبدية ..)
الإسهاب الماتع في التفاصيل أحيانا، ص15مثلا عندما استحضر تاريخ الأندلس بعد وصولها وليس قبل، مُعللا(كنت حريصا قبل السفر بألا يأسرني تاريخ المدينة، حتى لا أظل عند حافته أستدر عطفه، وأستعيد بهاءه، وألا أبكي على الأطلال، كي لا أفعل مثل معظم زائريها العرب كل يوم، لكنها كانت أقوى مني، مثل كل بقاع الأندلس التي تذكرك بأن لك فيها حجراً ينطق باسم أحد أجدادك، من العلماء والفلاسفة والفنانين والشعراء والموسيقيين والبنائين، وسواهم ممن شكلوا أزهى عصورها)، ثم استرسل في الشرح والوصف بعدها.
السرد الوصفي بتراكيب وصور لغوية جميلة، كمثال وصف التاريخ ص14(كنت أنوي ألا أحدثكم عن الماضي، لكنني وجدته يختبئ في عباءة الحاضر، ولا يكاد يعيش دونه)، ووصف خريف برلين ص38(شمس خجول يُحييها مطر خفيف يتسلل من سماء نيلية)، ص296(أتجول عبر البصر آيات الفن المعلقة والموزعة على الأركان)، وغيرها.
استخدام المؤثرات البصرية الممثلة في الصور التي دعم بها محطات رحلاته المختلفة.
التفاعل مع المكان والحدث، واستثمار هويتهما، وكأنه يحث المتلقي على التفاعل معهما، فمثلا ص163(أخيرا سنصل إلى المكان الذي يجتمع فيه علية الرجال في بلاط السلطان أكبر، كأني أسمع مشورتهم، وإخبارياتهم. كأني به أراه يغضب على أحدهم فيأمره ببدء رحلة الحج، وهي الرحلة الأخيرة في حياة أحدهم. كأني أرى قرب بركة المياه منصة تبدأ عليها وصلة من الفن، لعازفين وراقصات. هنا عرش السلطان أكبر الذي جمع خصالا وخصائل فرقت الآراء حوله، ولكنه يبقى رمزا لامبراطورية كبيرة، ذهب رجالها، وبقيت آثارها، وعاشت قصصها تُروى، من أجل عبر و آيات منسية، أو تكاد).
لم يفته كذلك
طرحت الذات الساردة نظرتها الأدبية والفنية وذائقتها النقدية، فتحدثت عن الأمسيات الشعرية العربية التي تستضيفها جامعة قرطبة، والمهرجان الشعري السنوي بجامعة غرناطة وغيرها. ووصفت بعض الطرز المعمارية والأعمال الفنية ، وألحقتها برأيها، ص28 وصفت نقوش الأقواس التي تعلو أبواب المسجد(ترتكز هذه النقوش على موجات من لفائف نباتية، كأنها مهاد لكائنات الحروف العربية الحية، التي يجملها التماثل والتناظر، وخاصة في مايعكس التكوين الأيسر صورته اليمنى، ولا شك في أن الطرز المعمارية في الغرب قد شربت من وعاء الزخرفة هذا حتى ارتوت).
خاتمة
أذاب هذا النهر المسافر-بآفاقه المتعددة(الذاتية والحسية والمعرفية)-الحدود الجغرافية في أنهار المتعة، فبدت ككتلة واحدة في رحلة زمكانية إنسانية متلاحمة، عُززت بجماليات أدبية وفنية في انسجام فكري استظل بمظلة العولمة، ففتحت قنوات التواصل والتفاعل الفكري بينها وبين المتلقي، بنقل ثقافات مختلفة دون التميز بين عرق وغيره أو ديانة وأخرى في تناغمية سلمية تقدس احترام الكيان البشري. كأنها دعوة للسلام المجتمعي وحرية اختيار الديانة، وربما مناشدة ضمنية لتذويب الفوارق بين الطوائف المختلفة بأفكارها وقناعاتها مادام صاحبها لايُرهِب ولايُرَهَّب للانعتاق من(الرهاب والارهاب الغادر)، بتقديم نموذج للتسامح الديني والتعايش به ومعه في قصة”أكبر” في بلد سُمح فيه بحرية العبادة والتعبد، تشارك أهله المناسبات بدءاً من سلطانه ووصولا لأبسط أفراده. وكأنها مهمة دبلوماسية مُغايرة، لربط جسور التواصل واللقاء، والتفاعل السلمي بينها، بما قدم من ملاحظات وتحليلات دون إغراق في تخيل أومبالغة أو اتباع أحكام مُسبقة.
نعم لقد صدق “أشرف أبو اليزيد” حين قال في تقديمه للرحلة و ختامها(حين يسافر المرء لايكتشف البشر، ولايستكشف الأمكنة، بل يُعيد اكتشاف ذاته). ها نحن وقد يسر لنا الكتاب حق الانتقال، واكتشاف الأمكنة، فشاهدنا، وسمعنا، ولامسنا، وتذوقنا أطايبها، فهل سنستطيع اكتشاف ذواتنا؟
سعاد الزامك
١٧/٤/٢٠١٩

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات