عبد الحسين عبد الرضا.. تاريخ الضحك والدموع

07:04 مساءً الثلاثاء 13 أغسطس 2019
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أعاد الكاتب والناقد الدكتور شريف صالح نشر مقال كتبه بمناسبة افتتاح مسرح يحمل اسم عبد الحسين عبد الرضا في يناير 2016 ويسعدنا في ذكرى الفنان الراحل إعادة نشره هنا لقراء آسيا إن

3F283A21-A871-4DDF-BAEC-9F4746914E7E………………………………..

عبد الحسين عبد الرضا.. تاريخ الضحك والدموع

يروى أن عبد الحسين عبد الرضا حل بديلًا لزميله عدنان حسين في مسرحية “صقر قريش” فلفت انتباه الرائد المسرحي الراحل زكي طليمات. كان ذلك عام 1961 ومنذ لحظته الأولى لم يعد عبد الحسين بديلًا لأحد.. منذ لحظته الأولى أصبح في صدارة الصف الأول.
كان لطليمات تلامذة عظام أسسوا الدراما في الكويت والخليج لكن يظل عبد الحسين متفوقًا على رفاق دربه بخطوات. اسمه صار أيقونة وشعارًا في حد ذاته لا يحتاج إلى ألقاب بجواره.. فهو الممثل الكبير دون أن تضع تلك الصفة أمام اسمه.. وهو الأكثر براعة بين رفاق دربه في تقديم ذلك الغناء الدرامي.. الأكثر نباهة في حضوره والتقاطه للدعابة.
نجوميته الطاغية لخمسة وخمسين عامًا لم تدفعه لابتذال فنه.. فهو يتعامل مع كل عمل بحرص من ينحت أيقونات من ذهب.. ومكانته الراسخة لدى الجمهور الكويتي والخليجي والعربي لم تغره بالتنكر لرفاق دربه بل وللأجيال التالية له.. فرأيناه يشكل ثنائيات لا تنسى مع سعد الفرج وخالد النفيسي وسعاد عبد الله ومحمد جابر وغيرهم.. ورأيناه يحتضن من سار على الدرب بعده مثل داود حسين.
عبد الحسين ليس مجرد “كوميديان” ولا “مضحكاتي” ولا “مشخصاتي”.. فهو بحضوره وإبداعه كان السجل الأمين لتاريخ من الضحك والدموع.. أشد القضايا وأكثرها حساسية تتسلل بين “أفيهاته” و”ارتجالاته”.
وربما لا يعلم البعض أن عبد الحسين “طبّاع” بارع.. درس في شبابه فنون الطباعة في مصر وألمانيا.. ثم وظفها في دراما تطبع أثرًا لا يُنسى في نفوس من يشاهدها.. يكفي أن ننظر حولنا لنرى “أفيهات” عبد الحسين في مسلسلاته ومسرحياته وقد باتت جزءًا من وعي وهوي المواطن الكويتي والخليجي.. جرت مجرى الأمثال كما يقولون.. يكفي أن نتأمل عناوين أعماله التي أصبحت أيقونات في ذاتها.. فمن ينسى “درب الزلق”.. “باي باي عرب”.. “فرسان المناخ”؟! ومن ينسى أوبريتات مثل “شهر العسل”؟!
لا يمتاز عبد الحسين عن أقرانه بالبراعة في أداء الكوميديا والتراجيديا فحسب.. ولا جمال الصوت والأداء الغنائي فقط.. ولا بتلك الفطنة في التقاط الدعابة فحسب.. بل يمتاز فوق هذا كله بالحضور الطاغي والآسر.. يكفي أن تراه على خشبة المسرح أو على الشاشة حتى لو لم ينطق بكلمة واحدة.. تلك الهبة الربانية التي حفرت له مكانة لا تدانيها مكانة أخرى في نفوس الملايين من محبيه.
وكان عبد الحسين على مستوى المحبة.. أفنى حياته لإسعاد جمهوره حريصًا ألا يبتذل نفسه أو يبتذل إبداعه.. مؤمنًا بأن الفن رسالة ومتعة وليس تسلية فقط.. فالفنان رائد والرائد لا يكذب أهله..
وبلغ من فرط حرصه أنه أتقن كل حرف الفن من الكتابة والإخراج والإعداد.. كل تفصيلة صغيرة يلم بأسرارها وقد يشارك بنفسه في تنفيذها.. فهو لا يعيش نجومية زائفة.. ولا يخدع نفسه.. وقد رأيته بنفسي وهو يقرأ نصه الإذاعي ويعدل في جمله قبل التسجيل مباشرة.. لأنه عبد الحسين الذي لن يقبل بأداء أي كلمة.
عبد الحسين ـ في كلمة واحدة ـ هو تاريخ الفن.. تاريخ الدراما في الكويت والخليج.. ومن النادر جدًا على مستوى العالم العربي كله أن يحتفظ فنان بالقمة منفردًا لنصف قرن من الزمان.. فعل ذلك عبد الوهاب.. وفعلت ذلك أم كلثوم.. وأيضًا عبد الحسين عبد الرضا. فمنذ أن كان ابن الثانية والعشرين من عمره وهو على القمة.. لم تزحزحه تقلبات الأيام ولا إغواءات الشهرة.
وعندما تشيد الكويت مسرحًا على أعلى مستوى فلا ممثل آخر جدير بأن يطلق اسمه عليه قبل عبد الحسين عبد الرضا.. إطلاق اسمه على ذلك المسرح الرائع في السالمية.. هو وسام من الدولة.. ومن ملايين المحبين له..
ليأتي تكريمه في حفل افتتاح القرين من قبل رئيس مجلس الوزراء سمو الشيخ جابر المبارك وبحضور كبار الشخصيات من العالم العربي.. أبلغ دلالة على مكانة “بوعدنان” رسميًا وشعبيًا.. فهو “فنان الشعب” عن جدارة واستحقاق.
وضمن فاعلية هذا التكريم أبدع المخرج الشاب محمد الحملي في كتابة تاريخ عبد الحسين عبد الرضا.. بالصورة لا بالكلمة.. عبر استعادة أشهر المشاهد والأعمال المحفورة في ذاكرة ووجدان الجمهور. وبمشاركة مجموعة كبيرة من الشباب من فرق فنية مختلفة.
كانت فرصة عبر هذا الشريط الدرامي المتنوع كي ننعش الذاكرة بإبداعات عبد الحسين.. نسترجع نصف قرن من التمثيل والقيم.. من الضحك والدموع.. “الليلة يصل محقان”.. والليلة وصل عبد الحسين وتألق في حفل العرفان والتقدير.
استعدنا لحظات من “30 يوم حب” التي كتبها بنفسه وأخرجها حسين الصالح، وشاركته البطولة القديرة سعاد عبد الله مع الراحلين أحمد الصالح، عائشة إبراهيم، كنعان حمد، جوهر سالم.. وأيضًا القدير محمد جابر ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ وكأننا نقول له 55 سنة من الحب والتألق.
ومر بنا الحملي على عبد الحسين الصاخب والسياسي على خشبة المسرح في “باي باي عرب” التي شاركه فيها الراحلانن: غانم الصالح، مريم الغضبان.. مع هيفاء عادل وجيل شاب سطع أيامها بقيادة داود حسين وانتصار الشراح.
هذه المسرحية التي تبدو كوميديا هزلية لكنها حافلة بالإسقاطات السياسية والاجتماعي.. وكأنها تشريح عميق للوعي العربي.. نبوءة لكل المآلات السيئة التي انتهينا إليها.
وغير بعيد عنا “فرسان المناخ” مع رفاق دربه: غانم الصالح، عبد العزيز النمش، إبراهيم الصلال، محمد المنيع، محمد السريع، استقلال أحمد وايضًا داود حسين.
ما الذي يمكن أن نقوله الآن عن هذا العمل الذي لا يُنسى.. “فتش عن الاقتصاد”.. “الفلوس في حياة الناس”.. الطفرة النفطية التي تجتذب الطامعين والسماسرة والمضاربين في البورصات.. أليس هذا العمل الذي قدم مطلع الثمانينيات كان جرس إنذار لأزمات اقتصادية عالمية وليس فقط محلية أو عربية؟ ألم يتحقق ما قاله عبد الحسين بعد ثلاثين عامًا في أمريكا؟!
إنها نبوءة الفنان ووعيه الشفاف. رغم أن “بو عدنان” ينفي دائمًا اهتمامه بالسياسي، ويكتفي بالإشارة إلى مشاركته وهو شاب في السابعة عشرة من عمره في مقاومة العدوان الثلاثي على مصر.. مصر التي ارتبط بها دائمًا وأبدًا وتتلمذ على يد أحد أساتذتها الكبار وهو زكي طليمات.
صحيح لا ينشغل عبد الحسين بالسياسة بشكل مباشر.. ولا يعنيه موالاة هذا السياسي أو ذاك. ولا ينحاز لتلك القبيلة ولا تلك الطائفة.. لأنه يدرك أن على الفنان أن ينحاز لوطنه أولًا وقبل أي شيء.. ينحاز لشعبه وجمهوره.. وللقيم الإنسانية التي قد تلوثها السياسة.
من هنا جاءت كلمته السياسية مغلفة بالدراما والرؤية والنبوءة.. كلمة صادقة ترتفع عن تفاصيل اللحظة.. لتظل حية على مر الزمن.
من الصعب في هذه العجالة أن نتوقف عند كل عمل قدمه عبد الحسين طيلة مسيرته الزاهية.. لكن أسعدنا الشباب بقيادة محمد الحملي وهم يقدمون لنا لمحات ولحظات و”قفشات” من : أوبريت شهل العسل، ومسرحية سيف العرف، وفرحة أمة، ومراهق في الخمسين، ومن مسلسل سوق المقاصيص، وعايلة بومرزوق.. أمثال وغطاوي.. ودرب الزلق.. وغيرها وغيرها. شباب أبدعوا.. وأسعدوا الحضور.. بمواهبهم وبراعتهم في التقمص والأداء واستعادة روح الكبار.
كانت تلك هي التحية الأجمل للقدير الكبير عبد الحسين عبد الرضا.. التحية الأجمل ل 55 سنة من الإبداع والحب والعطاء.. تحية تخبرنا أن هؤلاء الشباب على الدرب سائرون.. وأن عبد الحسين عبد الرضا بنفسه يسلم لهم راية الإبداع والمحبة.
لا يعني ذلك أنه قد وضع نقطة في آخر دفتر الإبداع.. فعبد الحسين ـ متعه الله بالصحة والعافية وطول العمر ـ يدرك أن الفنان صاحب الرسالة لا يتوقف أبدًا.. ولا يعتزل.. ولا يخذل جمهوره.
وأمس كان الموعد مع جمهوره.. الرسمي والشعبي.. ملأ مسرح “عبد الحسين عبد الرضا” كي يقول له.. أنت لم تخذلنا أبدًا.. فشكرًا لك.
……………..
(الصورة خلال الحوار الوحيد للكاتب مع الفنان، في استديو إذاعة الكويت)

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات