مسافة فاصلة: حرف مصطفى زكي المستقر في العقل والوجدان

07:58 صباحًا الإثنين 14 أكتوبر 2019
عزة أبو العز

عزة أبو العز

كاتبة وناقدة من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

D74FB11D-6BD6-4B81-B92A-F241867EDEC6
ما إن بدأت قراءة كتاب ” حرف تايه ” للكاتب الصحفي مصطفى زكي
، وهو كتاب مقالات صادر عن دار لوتس للنشر الحر إصدار يناير 2019 ، حتى تيقنت أن الحرف التائه ما هو إلا طلقة وصرخة مدوية ، صوبها الكاتب بسلاسة ورشاقة عباراته غير العادية لتستقر فيعقل وقلب قارئها بلا جدال ، وعبر مقالات الكتاب وعناوينها بالغة التميز ، شعرت أنني فى رحلة نيلية هادئة ، ومرشد هذه الرحلة قلم كاتب محترف بدا لي بعدة وجوه ، رأيته يكتب بمداد الشاعر الحالم تارة ، وبحرفية الأديب السارد تارة آخرى ، وبحنكة فيلسوف  يتدبر في أمور الحياة ، وفي بعض المقالات وجدته كالجغرافي النابه الذى يذكرنا بطبيعة ما حولنا في الكون من موجودات ، وضرورة وجوب وإعادة تقييم نظرتنا وتفاعلنا مع ما حولنا من مكتشفات  ، بالإضافة لكونه قلماً مهموماً بالشأن السياسي والديني في كثير من مقالات الكتاب .

كتاب ” حرف تايه ”  يدلك منذ مطالعة صفحاته الأولى أنك بصحبة قلم بالغ التميز ، يجمع بين رشاقة العبارة الأدبية ووضوح وقوة الفكرة والرسالة المرجوة ، فقد استطاع مصطفى زكي بهذا الكتاب المهم أن يبرهن على أن عبارة المقال السلسة  المنبهة لا تقل في أهميتها عن أقوى أجراس الخطر المنبهة لكثير من الأخطار على عدة مستويات ، كما يعكس الكتاب ثقافة الكاتب وتنوعها ، فقد ظهر جلياً ثراء القاموس اللغوي للكاتب وتنقله بين الحقول الأدبية المتنوعة ( شعراً ونثراً ورواية ) مستشهداً أو مستفتحاً بعض مقالاته  ببعض من مأثورات ما فات   مما أكسب  مقالاته قوة في الطرح والتناول ، فهو يحتكم فى كثير من المواضع إما بالحكم المأثورة ، وإما ببعض الفقرات الأدبية لكبار الكتاب العرب والعالميين ، كما كثر استخدامه لبعض المواقف والمقولات الدالة على ثقافته الدينية والتراثية .

مضامين متنوعة وعناوين فارقة :

فى كتاب “حرف تايه” وجدت كماً من القضايا المهمة تنوعت ما بين ” السياسي والاجتماعي والعلمي والديني ، وبعضها يحمل الطابع الشخصي الإنساني “  وقد عبر الكاتب عن موضوعات كتابه المهمة ب 65 عنواناً فارقاً لا يقل أهمية عن مضامين متن الموضوعات مثال ” بشهيق وحيد ، كذبوا عليك، على ظهر سلحفاه ، انتظار المستحيل ، ملاك على قدمين .. وآخر فى السماء ، أصفار تصنع أصفاراً، الحوراء إيفانكا .. والصندوق الأسود ، كوليرا البحر .. وكوليرا الصحراء ، صلاح العميان ” كل هذه العناوين وغيرها تحث القارىء على التساؤل والاستفهام ، وكأن العنوان طعماً لاقطاً لشهية القارىء لكي يبحر مع مصطفى زكي فى ماهية ووضعية وحجم حرفه التائه ، ونجح إلى حد كبير في جذب القارىء ومشاركته له فى تساؤلاته وكيف وأين سيستقر هذا الحرف التائه ؟وهل سيستقر أم سيظل تائهاً فى متاهات الحيرة فيما يدور ويحدث فوق كوكب الأرض الحبلى بالصراعات والحوارات والمناقشات والمناوشات التى لا تنتهى ؟

CE2E51FB-92C1-42E9-A4D1-62F756B97A0F

فعلى مدى صفحات الكتاب 156 سنجد مصطفى زكي مهموماً ومشغولاً وباحثاً ولاهثاً خلف كثير من ” القضايا ، المعانى ، المفاهيم ، المصطلحات ، والبحث فى طبيعة الأشياء والعلاقات ” وجدته مهموماً بمعاناة الإنسان ، والحلم الذى لا يتحقق ، كما فى مقال (انتظار المستحيل ص18) ، وجدته مهموماً بوضع الإنسان البائس فى تلك الحياة فى مقال ( عله يصير عبداًص20) وفيه يعكس الوضع الإجتماعي والإنساني الصعب للإنسان الفقير الذى لا يجد قوت يومه ولا يستطيع توفير اللبن لطفلته الرضيعة ويتمنى لو صار عبداً لسيد يوفر له متطلبات أسرته ، ولكنه كعادته لا ينهي مقاله قبل أن يستشهد بقول لكاتب ما فيذكر مقولة فرج فوده فى خاتمة كتاب النذير يقول : ”   لن يستمر البسطاء بعيداً عن المعركة ، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقاً ، وضد كل من يهوى الظلام ويسعى للإظلام ، سيصرخون ضد الغناء ، وسيغنى الشعب .”

ثم يختم مقاله بقوله : ” فهل مازال ” الشعب” قادراً على الغناء؟!

وجدته مؤرقاً بهموم الوطن ، وساخطاً على أشكال الإرهاب الذى لا دين ولا وطن ولا زى له حسب تعبيره فى مقال ( كذبوا عليك ص 14) ، وجدت فى كتابه حرفاً راصداً لفتاوى حسب الطلب والحقبة الحاكمة كما جاء فى مقال (أصفار تصنع أصفاراً ص 57 )حين أفتى ياسر برهامي وأعلن أن صندوق النقد حلال وقت حكم الإخوان ثم أعلن فتوى أخرى أن القرض ربا محرم وأن الإخوان خدعوه !!

” الفتنة موجودة .. والمدينة ليست فاضلة ” جملة استوقفتني فى مقال ( سرادقات منعزلة ص 73) وهو مقال كاشف ومهم يتحدث فيه الكاتب عن وضع الأقباط فى مصر ويطالب الأزهر بإبداء رأيه فى مراجع أصحاب الفكر الوهابي .

وجدت فى حرفه تجسيد للمعنى الإنساني حينما عبر عن معنى الرجل الطفل وتحوله إلى الطفل الرجل عند حديثه عن الأم ورحيلها في مقال ( ملاك على قدمين .. وآخر فى السماءص22) كما وجدته فى ختام كتابه حين قال ” منحتني الحروف كلها .. إلا واحداً..

مصطفى زكي

مصطفى زكي

مازلت أبحث عنه فى هالة نور أزاغت عيني عقوداً ، فغاب دهراً .. حرفي التائه .. مازال يناديك .. أمي .. فأجيبي النداء .. لعلي أدرك كيف احتواني حضورك .. واحتويتِ الغياب .”

بعد قراءتي لكتاب “حرف تايه”زادت قناعتي بأنه رغم كثرة من يكتبون المقال الصحفي بكل أشكاله ،” وهذه حقيقة مسلم بها “، ولكن قلة من الكتاب من يتركون بصمتهم الخاصة بها ، وهذا الكتاب المهم و الماتع  والمفيد ، يثبت أن مصطفى زكى كاتب يملك تلك البصمة التى أكدها بسمات الكتابة لديه  والتييغلب عليها طابع التكثيف والمفارقة واستخدام الثنائيات ، بالإضافة لحرصه على بدء المقالات ببعض الأقوال المأثورة أو مقولات لأعلام الأدب المصري والعالمي  ، لكى يؤكد أو ينفي صحة فكرته ، والتي غالباً ما تنتهي بسؤال عاصف للذهن أو تعارض ما بين الواقع المعاش وما تحمله الأقوال المأثورة أو  الحقيقة العلمية من مضامين ، فى”  حرف تايه ” سنجد كاتبه يعلي من قيمة الرقم ، والتاريخ ، والأحداث الكبرى فى التاريخ والعلم ، وهو ما أكسب مقالاته قوة ووضوح الفكرة ، رغم النفس الهادئ فى الكتابة بعيداً عن أسلوب الصياغة الصاخب لدى البعض .
ورغم أن مصطفى زكي لم يرفق بكتابه المهم حرف تايه ” سيرة ذاتية ” ولكنه من خلال كتاباته قدم نفسه بشكل مدهش ، فمقالاته وعباراته وطريقته قد أفصحوالي عن كاتب صاحب موهبة كبيرة ، وثقافة واسعة ، وقارئ نهم لعيون الأدب العربي والعالمي ، وأكدوا لي أننى أمام صحفي محلل لطبيعة الحدث وليس ناقلاً للحدث ، أمام صحفي وكاتب لديه تلك الميزة الخاصة فى مزج الخاص بالعام ، صحفي يكتب بروح الأديب لذلك أتت مقالات ” حرف تايه” عبارة عن لوحات شديدة السطوع ، بالغة التنوع رسمها مصطفى زكي بكلماته .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات