مسرح الأحداث: واقع السوداني في موطنه وفي مهجره

04:52 مساءً الأحد 20 أكتوبر 2019
د. حسن حميدة

د. حسن حميدة

الدكتور حسن حميدة كاتب لأدب الأطفال واستشاري تغذية في المحافل العلمية الألمانية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
بقلم: د. حسن حميدة/ ألمانيا

بقلم: د. حسن حميدة/ ألمانيا

أين موقع المغترب من بلاده؟ أهو عائد إلى هنا، أم هو باق هناك؟ يقولون لقد فضل أو فضلت “فلان أو فلانة” البعاد وإرتاح، إرتاحت، ولا يدرون بأي السبل يشق طريق الصعاب. هناك من هاجر أو من أجبرته ظروف فرح أو ترح على أن يأتي يوم، أو من ساومته نفسه للعودة لزيارة خاطفة لرؤية العقب أو لإستكشاف الحال بعد غياب. الكثير منهم علقت برأسه ضروب الذل والإهانة، التي يواجهها الزائر من لحظة دخول باب المطار وحتى الخروج منه للعودة إلى حيث كان. هل هذا كل ما يتراجاه الإنسان الغائب عن وطن يغترب عنه قسرا ويعود إليه ولها، ولا يجني فيه غير الذل والهوان؟ هل المغترب هو البقرة الحلوب لأسرته ولأهله ولبلده دون أن ينضب الحليب؟ هل هناك من يدري من أهل وأقارب وأصحاب ما يعانيه المغترب في غربته؟ هل تتضح الرؤية للجميع، عندما يحال المغترب إلى التقاعد بعد الكد لعدة سنين، ويرجع مع أسرته بمعاش متواضع، لا يكفي لإعالة أكثر من شخص إن كان؟ هل تجاب كل الأسئلة، عندما يؤتى بالمغترب في نعش حزين، ويختار باطن الأرض كآخر ملاذ آمن له من قساوة الحياة وضراوة أيامها – ويكن ثمن الإغتراب؟ كما كان ويظل عشم المغترب في بلده كثير، إلا أن حلمه يظل متواضع، ينحصر في نطاق الضروريات لنفسه، والممكنات لبلده من الأشياء. فهو “المغترب” الذي يقدم الكثير لغيره، ويجني من جهده القليل لنفسه. ربما كان حلم من فصل أو شرد أو نزح مغتربا، شيء ضروري كمأوي آمن يأويه هو وأسرته إذا لم تعدل به الأيام وجار عليه الزمان. ولكن يظل هذا الحلم في عيون كثير من المغتربين حلم بعيد المنال، يراود خاطرهم، ويداعب وجدانهم، ويلامس خيالهم إلى حين.

فالننظر لواقع السودانيين في وطنهم القريب: ما هو الشيء الذي حدث في حقبة ثلاث عقود مضت، وما وصلنا إليه بسبب الصبر على ضروب الذل والهوان؟ نكران الجميل للمنتجين، الترفع الإقتصادي على أعتاب الرعاة والمزارعين والعمال، وأخيرا إجبارهم على الهجرة والنزوح من أريافهم، ليمتهنوا حرف هامشية أخرى لا علاقة لها بما عملوا به من قبل، أو ما ورثوه عن أجدادهم. تشريد الأسر البريئة من مواطنها الأصلية، تهجير المتعلمين والحرفيين والمهنيين والعمال إلى كل بلاد العالم. البطش بالرؤوس المفكرة، وتهجيرها قسرا إلى بلاد أخرى في أمل عدم رؤية تلك الوجوه مرة ثانية في دار الأصفياء. نفي الكادر المؤهل إلى بلاد، منها من يحترم العقل المفكر، ومنها من لا يعرف ولم يعي بعد، ما هو وكيف يكن التفكير. نشؤ طبقة فوق العليا “أرستقراط سودان جديد”، منبعجة من أرضية الهرم المتهالكة، قائمة على سواعد البسطاء، ونائمة على أضلع الكادحين. إنتشار الفساد وتفشي المحسوبية والغنى الفاحش والتدرج الوظيفي المدعوم بكل قوام البناء المائل. المشي على هياكل المحرومين والجوعى من أطفال “في ظلام الليل”، بين الطرقات، وفي الأزقة، وعلى أرصفة الشوارع، وداخل  الأوكار المهجورة. الزج بأهل الرأي الصواب وصوت العقل في المعتقلات، وكان مآلهم الرزوح في السجون، والتعذيب في الزنازين. بل كان هناك أبرياء قتلوا من غير حق، أو رمي بهم أحياء في نهر النيل الخالد، مثلهم، مثل الذين زج بهم من قبل في حروب الجنوب وجبال النوبة وإقليم دارفور – هم الشهداء، وأنتم أهل الشهيد. بل كنا نحلم بالمستقبل، ولم نفتأ أن نرى إشراقة نور الصباح الباكر، حتى ولج لنا نور زمرجدي آخر باهر ووضاء – في وضح النهار. وبه توجت البلاد بتاج مرصع بالماس الناصع. ونحن المواطنين: لقد ألبسنا الجبة مقلوبة، والمركوب عن خلاف، في يد سيف مكسور، وفي يد درقة مقدودة. وكان هذا بفصل البلاد إلى جزئين (تفصيلة ترزي ماهر – في أسكيرتي جنوب، وبلوزة شمال، ونحن فرحين بالأثنين)، في وقت يعمل فيه العالم جاهد على التوحد، على سبيل المثال المساعي المبذولة لوحدة شبه الجزيرة الكورية، أو لوحدة مجموعة الدول الأوروبية.

 ولننظر لواقع السودانيين في مهجرهم البعيد: هم ” السودانيين أنفسهم، لم يتبدلوا، ولم يتحولوا” موجودين في كل مكان. نجدهم يعملون في الفيافي والصحاري، نجدهم يؤدون واجبهم في أعماق البحار وعلى الأراضي المغطاة بالجليد. نجدهم يعيشون في بلاد بعيدة  وجزر نائية، وفي خواطرهم ذكريات طفولة في بلاد بسيطة، بسيطون أهلها، وبأهلها الطيبين يحيون. وبالرغم من مجهودات الأسر المهاجرة في توفير أكبر قدر لأطفالهم من سبل المعرفة عن هويتهم المفقودة، وعن بلادهم المهجورة، وعن وأهلها المنسيين، نجد أن هناك فجوة كبيرة قد حدثت للأيفاء بحقوق هؤلاء الأطفال في التعرف على بلدهم الأصل “السودان” ومواطنهم الأصلية فيه من قرى وبوادي. فمن الأجيال من أخرج يوما من هذا البلد الآمن مجبرا مع والديه، ومنهم من ولد هناك في غربته، ولا يعرف الكثير عن بلده الأم. منهم من لم يتعلم الكثير عن لغته، أو فشل في تعلم لغة والديه، ومنهم من لم تطأ ارجله البلاد بعد. كل هذا بسبب الظروف التي مهدت لكل مهاجر لكي يهاجر، ويختم على هويته أبديا، ولكي لا يجرأ على العودة مرة أخرى لبلاد ولد وترعرع فيها، في ظل حكم القمع والطغيان. وكما للإنسان ذاكرته، فمنهم من طرد ذليلا وهو في أوج تقدمه المهني، أو أحيل بين يوم وليلة لصالح عام، لم يمر على خاطره في المنام. أحيل دون أن يدري عما كان السبب، ودون النظر إلى ما كان يقدمه المحال من عمل لوطنه، أو قام بتقديمه في مجاله بوفاء وتفاني مهني وإنساني ولعدة سنين.

للتذكرة لكل من تراوده نفسه على محاولة الخداع مرة أخرى: إذا رأيت الأسد مغمض العينين، فلا تطنن أن الأسد نائم. السبل التي تتبع لكي لا تمضي أهداف الثورة في طريقها، بل تجهض قبل أن تنضج نواتها المخصبة، هي سبل غير مجدية على المدى البعيد “بتودي مهندسيها للتوج”. فهنا لا سبيل للأنظمة أن تستهين بالخارجين والمنادين بأهداف الثورة، ومن أجل نيل حقوقهم المهضومة. هذا حق للمتظاهرين، للإيماء بمتطلباتهم الحياتية، والنضال من أجلها حتى الوصول إليها. لقد باد عصر الحكومات العسكرية، والأنظمة الشمولية دون عودة، وساد عصر الحكومات المدنية، وأخذ الحقوق من أفئدة هاضميها في الملأ ووضح النهار. من هنا يبدأ التطلع للمستقبل المشرق، في عصر صارت فيه البندقية محور سؤال، وعلامة إستفهام  كبيرة، وصارت رمز للعدوانية والبطش والتخلف في معالجة الأمور. وكما هو الحال، من يحمل أو يشهر بندقية في دول العالم المتحضر، في مركبة عامة (سيارة، بص، قطار أو طائرة) أو في منزل أو شارع أو مؤسسة، يعرض نفسه للموت العاجل، وهذا لأن رجل الأمن في الدولة مكلف بقتل حامل البندقية في الحال، ومفوض لإنهاء حياته، وهذا حتى لا يعرض حياة الغير من المدنيين للخطر. وهنا من صميم القلب، ومن دون تملية لأولي الأمر: واجب الدولة اليوم تجاه المواطن، هو ألا تكن أبواب العدالة موصدة أمام المواطن المظلوم. أن تأخذ العدالة طريقها في إنصاف حقوق المظلومين من الناس. ألا نعطي فرصة لكل من ظلم، للهروب من البلاد قبل المحاكمة العادلة. ألا نترك الطريق مفتوح لكل مال منهوب، على أن يجد طريقة لخارج البلاد، والتي هي الآن في أوج حوجتها لكل عائد مادي من منتجاتها الذاتية. ألا نعتمد على العون الخارجي الذي يملى علينا بتلقيه شروط لا يمكننا الإيفاء بها. مراجعة كل الترقيات والدرجات العلمية الممنوحة من قبل المؤسسات التعليمية، لكل من يتم التشكك في تأهيله أو توظيفه أو ترقيته. وألا ننسى بأننا في فترة تقع فيها كل عيون العالم على هذا البلد المسكين، والذي تراقبه دول بأكملها، في طريقة إدارته لشؤنه، وكيفية إنجازه للعمل في فترة إختبارية شفافة وشاقة.

 الواقع في مسرح الأحداث: أولا الشيء الذي يتبع في محاربة المواطن في غربته ليس هو بما ينتظره المغترب من القائمين على زمام الأمر في البلاد. هذه المحاربة تتلخص في قطع سبل التواصل الإجتماعي، وهو ليس بحل لمعالجة المواقف. أن يأتيك الخبر اليقين عن بلدك وأهلك مباشرة، خير لك من أن تتلاقه من الغير. يجب ألا نستهون بقوة “الكمبيوتر”، التي استهين بها من قبل، وسميت “كلام الكيبورد”. فهي سلاح المستقبل، الذي يدك حصون الأستبداد، ويرمي بها في هوة التاريخ المظلمة من دون رجعة. وثانيا محاربة المواطن في وطنه ليس بشيء تحمد عقباه. المحاربة التي تتمثل في قطع تيار الكهرباء، شح مصادر الماء، أو شح مصادر الوقود لا توصل البلاد لحل “بل يزيد من الطين بلة”. هناك وبجانب المواطن، أيضا المهاجرين في دول الشتات، والذين يقفون جنب بجنب، وبجوار أهلهم المتظاهرين، ويهتمون بأخبارهم وأمورهم. فهم دمهم ولحمهم، ولم يفروا بجلدهم، بل لهم أصول وجذور باقية في البلاد، ومسرح الأحداث اليومي. فيجب عدم الأستهوان أكثر بالبلاد وأهلها في متطلباتهم. فبما أن لحقوق الإنسان من مكانة كبيرة في هذا القرن الحادي والعشرين، نجد أن هناك أشكالا وألوانا من السحق والمحق لكل من يتجرأ على المطالبة بحقوقه، أو قول كلمة الحق أمام حاكم ظالم. الكل يعي ويتابع أحوال بلاد الطيبين، التي صارت تقتل فيها البراعم، وتحرق فيها الزهور من أجل مآرب التسلط ونهب ثروات البلاد، وإعادة نفس التماثيل “تماثيل الشؤم” التي صنعت نفسها بنفسها، ونصبتها على أعتاب التعابى وأعتاق الكادحين. الكل يتابع وعن قرب كل ما يحصل لأهله أو جيرانه أو أصدقاءه في البلاد، ولو كان هذا من بعيد، فكم هو قريب. فالعاقل من يتعظ بغيره، والسلطة كما يقال هي مثل ظل الضحى لا تدم لأحد. الشيء الذي يدم هو الوطنية الخالصة، والإنجاز في العمل، وكيفية تجويده وإتقانه لسمعة حسنة. ومن يظن أن الثورة قد أنتهت، فهو غافل عن نفسه وعن غيره، فهي ما زالت نارها موقدة، تلتهب في النفوس والصدور في كل يوم وليلة. فيجب ألا نضيع الوقت في المحاصصات والإنقسامات، بل نضحي به في تفعيل العمل وتجويده. فمن يظن أنه يلعب لعب أولاد كبار على المواطن، فعليه أن يتذكر أن الوطن بمواطنه هو الأكبر. وهذا حتى لا ينتهي بنا هذا اللعب كعبط ولعب عيال موقت، وندخل للزجاجة مرة أخرى عبر عنقها الضيق، لربع قرن آخر من الزمان أو نيف.

 

 

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات