الدولة والجماعة والنخبة…

12:10 مساءً الإثنين 25 نوفمبر 2019
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فى البوست السابق عن “الأساطير المؤسسة لجماعة الإخوان واردوغان” تناولنا بعض من تعامل الدولة المصرية الخاطىء مع ملف الجماعة الإرهابية المحظورة وكيف أن المساحات التى تخلت عنها الدولة أو حرمت منها القوى الوطنية الشرعية احتلتها وتحركت فيها الجماعة حتى أصبح الملف أكثر تعقيدا لتشابكه مع قوى إقليمية ودولية داعمة لتيار الإسلام السياسى وأذرعه من جماعات العنف المسلح فى دول الإقليم…

galal
إذ كيف لدولة أن تقضى على فكرة تمنح المواطن البسيط “تأشيرة دخول” مجانية “للجنة” وتمنح أملا “كاذبا” وتقدم حلولا مطلقة بعد أن فشلت بالنسبة له كل التجارب والحلول والايديولوجيات يمينا ويسارا فى إصلاح حاله وأحواله بل زادت معاناته وإفقاره وتبعها فقْدٌ نسبى للولاء والإنتماء لأرض قست عليه وضاع فيها حلمه حين يرى أن فاسدا أو جاهلا يغتصب هذا الحلم ويعيشه بديلا عنه…
تَعَامُلُ الدولة مع تلك الظاهرة أو الحالة منطقيا هو أن تقدم لهذا المواطن فكرة بديلة تكون براقة مقبولة وحلولا واقعية ودنيوية تنتشله من هذا الوهم الكبير وتعيد له الأمل المفقود ليعود معها الولاء والإنتماء ونبذ الأفكار الغريبة؛ والدولة هنا بمفهوم كل القوى والتيارات السياسية والفكرية داخل نظام الحكم وخارجه من معارضة على أرضية وطنية.
وبعد أن ألقينا بالكثير من اللوم على الدولة فى بعض أوجه القصور فى الحياة السياسية المصرية بحكم الدور والتشريع والممارسة والمناخ والنظام العام حان الوقت للمكاشفة مع التيارات السياسية والفكرية على أرض الواقع إن وجدت حيث جرى إعتقاد خاطىء لدى الدولة وبعض من يطلق عليهم “نخب” أن وجود مقار لأحزاب كرتونية أو تاريخية أمر كاف للقول بأن لدينا أحزابا وحياة سياسية وانتخابات وتمثيلا نيابىا؛ وغيرها من مفاهيم ومصطلحات علم السياسة.
إن إحدى الجرائم الكبرى التى ارتكبت بحق هذا الوطن وشاغليه من أهل المحروسة هى قتل السياسة والفكر السياسى وغياب كل روافد التجديد للفكر والدور وضخ دماء وكوادر فى أرض اصابها الجفاف وأخشى القول بأنها أصبحت تربة غير صالحة لنمو أى من الأفكار وتحتاج لسنوات من التقليب والحرث والتمهيد كى تعود لها عافيتها وخصوبتها.
لقد جاء ما يسمى بالربيع العربى إلى ارض خالية من أى تيارات فكرية فانقلب إلى خريف قاس ازاح نظما قمعية معبرا عن حالة غضب مكبوتة بحكم قوة الإندفاع الجماهيرى وحالات الفوضى المصاحبة ولم يجد تربة خصبة لبدايات جديدة ولم تنمو وتنضج فى الصوب الفكرية أى تيارات تقود هذا الحراك فسيطرت عليه جماعات الإسلام السياسى وروافدها المسلحة كبديل حاول السيطرة على المشهد الفوضوى الذى يناسب استراتيجيتها وتكتيكاتها للزحف نحو السلطة ولكن سرعان ما تساقطت من فوق الكراسى ومناطق الاستحواذ لان تركيز الضوء على ممارستهم كشف عن الوجه القبيح لتلك الجماعات.

Desmoulins rallying protestors. Courtesy of Larousse.

Desmoulins rallying protestors. Courtesy of Larousse.

تاريخيا؛ مهد لكل الثورات أفكار فلاسفة ومفكرين تختلف أو تتفق مع أفكارهم ولكن كانت هناك قواعد راسخة وتربة ممهدة؛ فالثورة الفرنسية التى يتغنى بها منظرو الثورات رغم مسيرتها ونهايتها المأساوية على مدار 10 سنوات جاءت معبرة عن فترة تحولات سياسية واجتماعية كبرى في التاريخ السياسي والثقافي لفرنسا وأوروبا بوجه عام. ابتدأت الثورة سنة 1789 وانتهت تقريباً سنة 1799. حيث عملت حكومات الثورة الفرنسية المتعاققبة على إلغاء الملكية المطلقة، والامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية، والنفوذ الديني الكاثوليكي وكان الزعماء لتلك الثورة افكار مونتسكيو الذي طالب بفصل السلطة وفولتير الذي انتقد التفاوت الطبقي في حين ركز جان جاك روسو على المساواة؛ ولكنها انحرفت عن الافكار وتحولت الممارسات بعد ذلك إلى مذبحة وخيبات متوالية وهزائم انتهت باحتلال فرنسا بالكامل فى الحرب العالمية الثانية ولم تسترد سيادتها إلا على أيدى الجنرال شارل ديجول مع الجمهورية الخامسة.

الثورة الفرنسية

الثورة الفرنسية

وكذلك كانت الثورة البلشفية ومن بعدها الصينية التى عبرت عن أفكار لفلاسفة ومفكرين ولكنها مرت بذات المصير من الخيبات والمذابح وسقوط الضحايا بالملايين تبعهما موجات من الثورات والإنقلابات فى عدد من دول العالم وصولا إلى أشكال فكرية وسياسية لمعسكرات ودول ما بين اشتراكى وشيوعى ورأسمالى وصولا إلى طرق مسدودة تطلبت البحث عن طريق ثالث بعيد عن الاستقطابات الحادة فظهر مصطلح ومفهوم “الطريق الثالث” فى محاولات فكرية سعيا لطرح حلول للأشكاليات التى تعانى منها النظم الاشتراكية المتهاوية والنظم الليبرالية المستأسدة على حد سواء.

Marquis Childs, correspondent for the St. Louis Post-Dispatch (1937)

 Marquis Childs, correspondent for the
St. Louis Post-Dispatch (1937)

وكانت البداية عام 1936 على يد الكاتب الأمريكي “Marquis Childs” الذى فتح الطريق الوسط بين مفهومي الليبرالية الاقتصادية والاشتراكية الماركسية، فهو أسلوب يوائم بين رأسمالية السوق الحر والمفهوم الكلاسيكي عن الأمن والتضامن الاجتماعي. وتنبع جاذبية هذا المفهوم من كونه لا يتبنّى السقف الأعلى أو الحد الأقصى لكل نظرية، أي أنه جسر بين الأيديولوجيات.
تلك الجولة بين الايديولوجيات والأفكار والتيارات من المهم سردها للإشارة إلى ما وصلنا إليه من طرق مسدودة وعقم فكرى حاد ومزمن بسبب أننا فى بيئتنا العربية نعيش مأزقا منذ نصف قرن يتمثل فى عدم القدرة على إستلهام أى نموذج سياسى أو إقتصادى يلائم الظروف والطبيعة والثقافة الخاصة؛ حيث فشلت فى تبنى السياسات الاشتركية الماركسية وكذلك الليبرالية الديموقراطية لغياب كل العوامل والمكونات اللازمة لترسيخ ونمو أى من تلك الافكار فى مجتماعاتنا؛ وظلت تلك النظريات حبيسة مقار الأحزاب والقوى السياسية وبعض الكتب على أرفف المكتبات ولم تخرج يوما خارج مقارها ولم تنجح فى تشكيل رأى عام يقبل بأى منها وهنا يجب الإشارة إلى أن الدولة فى فترات حاصرت تلك التيارات داخل مقاراتها ومنعتها من أن تخرج إلى الشارع والمدن والقرى والجامعات إلا فى أضيق الحدود ولبعض الوقت لاحتواءها والقيام بدور يساهم فى الشكل الديموقراطى للانظمة السياسية؛ بينما لم تنجح محاولات الدولة فى منع أفكار تيار الإسلام السياسى من التوغل فى المجتمع حتى انها فى مرات استخدمته فى حربها مع تيار اليسار خاصة داخل الجامعات فى فترة السبعينيات.
810s-Vwi8ZLإذا نحن أمام مناخ شبه خال من كل الايديولوجيات والافكار البديلة لتيار الإسلام السياسى؛ وهى لمن يدرك ويعى ورطة على الدولة وما تبقى من نخبتها أن تتعامل معها بجدية دون أدنى استخفاف، لان هناك جناح فى الدولة والنخبة يرى أن الأجدى هو المضى فى تحقيق مخططها التنموى دون الإلتزام بالإنحياز لاى فكر وايدولوجية ما فى الوقت الذى تنفتح فيه على الأسواق وتحرر الاقتصاد وتخصخص المشروعات وتريد أن تلعب دور فى الإقتصاد الإقليمى والعالمى؛ وهو ما يجعل الحديث عن عملية إصلاح سياسى وإعادة الروح والأمل للاحزاب وما تبقى من قوى سياسية مدنية درب من الخيال لا يمت للواقع بصلة.
وعلى كل الأطراف أن تعمل على فتح المجال العام والاجتهاد السياسى من أجل خلق تيار فكرى يلائم التربة المصرية يقدم حلول وبدائل وممارسات تقضى على أسطورة الجماعات المتأسلمة التى تلعب بمفردها أمام الجميع دون أن يشعر أحدهم بالخزى؛ وعلى ما يسمى بالأحزاب السياسية أن تراجع أوضاعها وهياكلها وافكارها وبرامجها لتجد أنها فى معظمها لا تضيف ولا تعبر عن أى قطاع فى المجتمع ولا تقدم بدائل أو حلول أو كوادر وأن دورها أصبح فقط يقتصر على بيانات الإدانة والشجب والإشادة فى بعض الأحداث عندما يطلب منها، فضلا عن أن فكرة القوائم التى يتم تشكيلها بعيد عن القواعد الجماهيرية لخوض العمليات الإنتخابية لا يمكن أن تصلح بديلا وتحديا حقيقيا أمام تيار عقائدى دون دعم ومساندة الدولة ومؤسساتها وهو أمر يضر بكيان الدولة على المدى البعيد لانها حلول مؤقتة لامراض مزمنة ومتجذرة.
مع التأكيد أن أى عملية فوقية لهندسة المشهد السياسى لا يمكن أن تعكس عملية إصلاح حقيقى فى ظل كل المحاولات الفاشلة التى مرت علينا وشكلت خبرات وتراكمات لم يهتم أحد بدراساتها والتحذير منها ومن نتائجها الكارثية التى اوصلتنا إلى المشهد السياسى الحالى وخلفت فراغ كبير حتى داخل اقدم الأحزاب وأعرقها لانها تأتى دائما على حساب الكوادر والأفكار والبرامج الحقيقية ولا تقدم بدائل تليق بمصر وطموحاتها وقدراتها…
وللحديث بقية…

القاهرة | 24 /11/2019

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات