الصحفي والسلطة

07:46 صباحًا الخميس 28 نوفمبر 2019
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

B76E992C-1535-40CB-949F-4F712D4BD596من حين إلى اخر نجد أن هناك تساؤلات عديدة يطرحها الرأى العام عن علاقة الصحفى بالسلطة الحاكمة فى أى زمان وأى مكان؛ والإجابة كانت ولازالت بالنسبة للنموذج المهنى من الصحفيين هى الوقوف على يسار السلطة والنظام الحاكم وهو وصف يشبه إلى حد كبير ذلك الذى يحمل همومه على عاتقه ويسير بها على طريق من الأشواك وقد أتخذت تلك الهموم صورة علامة إستفهام كبيرة يحملها الصحفى على ظهره ويجوب بها الشوارع والميادين والمعارك والصراعات والمؤتمرات الصحفية والندوات والمنتديات يحاول أن يخفف هذا العبء عن كاهله بأن يطرح السؤال تلو الأخر ويضع العديد من علامات الإستفهام كى يحصل على أكبر قدر من الحقائق والمعلومات التى يضعها أمام القارىء والمهتم والمتابع برؤية موضوعية مهنية غير منحازة…

galal
وقد يفهم البعض من الوهلة الأولى أن وقوف الصحفى على يسار السلطة هو نوع من المعارضة المطلقة أو العداء لها او مجرد شغب وأنه موقف سياسى وليس مهنى؛ حيث جرى على مدار فترات طويلة تشويه لهذا الموقف وعدم فهم دقيق لماهية ودور الصحافة والصحفيين وطبيعة المهنة ومتطلباتها كى تلبى حاجة ضرورية لدى القارىء الذى يشترى ويتابع الجريدة ويعلن فيها وهو صاحبها ومالكها الفعلى؛ لان جوهر عمل الصحفى هو ان يكون عين وعقل القارىء فى كل التغطيات أو الأحداث التى يكتب عنها وينقلها ولا تكتمل الصورة لدى القارىء إلا إذا كان الصحفى ينقل الصورة صادقة وكاملة ويضيف عليها إجابات عديدة على علامات الإستفهام التى يطرحها فيحصل على معلومات وحقائق وآراء تكمل الصورة من كافة الزوايا ووجهات النظر وفق قاعدة راسخة أنه لا يوجد قرار صحيح بنسبة 100% أو أن هناك سياسة وإفتراضات لا تقبل النقد أو أن هناك مشروع وخطة لا تحتاج إلى رؤى مختلفة كى تعم الفائدة وينصهر الجميع فى تنفيذها بتسبة نجاح وتأييد تشيع حالة من الرضا العام…
الصورة ووجهات النظر حولها ينقلها الصحفى الذى يقف على يسار السلطة فينقل وجهة نظرها ومن مكانة يمكنه نقل وجهات النظر الأخرى؛ وهو ما يريده القارىء فى كل مكان وفى كل زمان والذى بطبيعته يرفض الصوت الواحد والرؤية الواحدة بل ويقاوم تصديقها ويبحث هو عن مصادر مغايرة تكمل له الصورة والمعلومات الناقصة وهن هنا ينفذ من يريد أن يخترق القصة ويضيف إليها ويزيف الحقائق وينشر الشائعات ويهدم الصورة بأكملها.
وكما أن هناك صحفيا على يسار السلطة، فهناك مثقفون وفنانون وأدباء ومبدعون كانوا ومازالوا على يسار السلطة وقد كانت الفنانة الراحلة الكبيرة تحية كاريوكا نموذجا لهذا كما وصفها المفكر الكبير إداورد سعيد الذى كان معجبا بفنها ومواقفها السياسية والوطنية…
بدرت إلى ذهنى فكرة تلك المقالة عندما شاهدت اليوم فيديو قصيرا للقاء الرئيس السيسى وعدد من الصحفيين على هامش إفتتاح عدد من المشروعات القومية فبدا لى الرئيس فى صورة متألقة تعكس شموخ مؤسسة الرئاسة بينما الصحفيين على الجانب الآخر فى هيئة لا تعكس شموخ وكبرياء المهنة ودورها فلم يرد فى المقطع أي سؤال أو طرح يعبر عن علامة الإستفهام الكبيرة التى رمزنا لها ويحملها الصحفى على عاتقه كلما ذهب واينما وقف والتى رغم ثقلها فهى ما تمنحه القوة والشموخ، لانه فى ذلك الموقف لا يعبر عن نفسه ولا عن طموحه الشخصى بل تعبيرا عن جموع القراء وتساؤلاتهم… فجاء محتوى الفيديو عبارة عن تعليق مطول من الرئيس مطالبا الصحفيين بدور لزيادة وعى المواطنين بالمشروعات القومية بينما غاب عن محتوى الفيديو تساؤلات المواطنين التى تحمل الإجابات عنها نتيجة مباشرة تزيد من وعيهم المنشود لان حامل تلك الأمانة وقف صامتا أو كما بدا فى الفيديو يتحدث بلغة إنشائية لا تضيف أو تحقق الهدف من وقفة الرئيس معهم جميعا…
إننا جميعا نحصد ثمار تدهور حال المهنة وأبنائها وإنصراف القارىء عنها بعد سنوات من مطاردة تلك النوعية من الصحفيين الحقيقيين الذين أختاروا الوقوف على يسار السلطة وتركنا لرعاع المهنة وصغارها محاربتهم وإضطهادهم وتركنا القطيع هنا وهناك ينهش فى أجسادهم ويفتش فى ضمائرهم وكأنهم مرض كان قد أصاب المهنة ومن الواجب التخلص منه؛ وجاءت كل الإختيارات والتعيينات بعيد عن هذا المربع حتى فقدت الصحافة دورها فى المجتمع كسلطة رقابية شعبية تساهم فى ترشيد القرار والحكم وتقضى على الفساد وتساهم فى التنمية يستفيد منها الحاكم والمحكوم وخاصة الحاكم الذى يسعى إلى زيادة أدواته الرقابية على التنفيذيين والمؤسسات والفاسدين…
لقد نجح البعض من أعداء الصحافة فى شيطنة المهنة ورموزها حتى يتم القضاء عليها وتحييدها فى معارك الوطن ومحاربة الفساد وسيادة دولة القانون: تارة بأنها السبب فى كل ما عانته وتعانيه مصر من مشكلات وجرائم؛ وتارة أخرى بتصدير التافهين والصغار للمشهد فتكعس ممارساتهم واقوالهم وكتاباتهم حالة من الإستياء والقرف العام من المهنة والمنتمين لها؛ وفى مراحل تالية أضحت فريسة يطالب الرأى العام براسها والقضاء عليها وتجفيف منابع تمويلها الإعلانية والتوزيعية وزيادة تكاليف إنتاجها ومعايرتها بالخسائر والإنحدار تمهيدا لضربة قاضية تطيح بها وتقضى عليها بالتوازى مع خلق بدائل شبه صحفية تستعد للقيام بدور لا علاقة له بالمهنة من الحيث الشكل والمضمون.
لقد نجح هؤلاء فى تشويه صورة الصحافة القومية بمفهومها القومى الذى يعبر عن كل ألوان الطيف السياسى وكل مكونات الدولة: نظام الحكم والحاكم والحكومة والبرلمان والمجتمع المدنى والأحزاب والقوى السياسية والفكرية والمؤسسات والنقابات والاتحادات. الصحافة القومية التى لو لعبت دورها كما يجب ستكون هى الضمان لعودة دور الصحافة فى المجتمع لانها بطبيعة توجهها ستعكس كل وجهات النظر حول كل القضايا والملفات والسياسات ولن تقف فى صف السلطة فقط بل ستقف على يسارها فى مكان يسمح لها بنقل بقية وجهات النظر وتكشف نواقص وعورات القرار والسياسة والقانون وتكشف الفساد وتطارد الفاسدين.
قد يرى البعض أن هذا الكلام نظرى وغير واقعى ولكننى اراه هو الأصح وهو الواقع الذى يجب ان نسعى جميعا إليه؛ وعلى طرفى المعادلة فى السلطة والمهنة أن يسعيا إلى الوصول إلى نقطة فى الحوار تكون إستعادة المهنة ودورها ومكانتها واجب وحتمى وعمل وطنى يحمى المجتمع؛ ولقناعة بأن الممارسات الحالية لا تفيد المصلحة العامة وتفقد الدولة المصرية أهم أسلحتها فى منظومة قوتها الناعمة.
وللحديث بقية…
جلال نصار

27 نوفمبر 2019م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات