لا يمكن أن يخرج أى اطار تحليلى لتحركات الرئيس التركى رجب طيب اردوغان عن حقيقة كونه عضوًا ناشطا فى التنظيم الدولى للأخوان المسلمين مضافا إليها التلاقى مع الجماعة المحظورة فى فكرة عودة الخلافة الإسلامية التى يحلم بها أردوغان ويطمح فى إستعادة عرش الخلافة والسلطنة المفقود على أكتاف تيار الإسلام السياسى وجماعات العنف المسلح المتأسلمة فهم جنود الخلافة الذين سينصبونه على العرش مجددا وفقا لما يعتقد العثمانلى “اردوغان” وعلى أنقاض شعوب وأنظمة المنطقة وجيوشها الوطنية…
لقد اقترب أردوغان من تحقيق حلمه مع بدايات ما أطلق عليه الربيع العربى الذى ضرب موعدا مع تيار الإسلامى السياسى ليحل بديلا لكل الأنظمة التى ستتهاوى تحت الضغط الشعبى والفوضى “الخلاقة” وسقوط كل الإيديولوجيات والسياسة والمؤسسات بحيث لا تبقى إلا مؤسسة واحدة تحكم إما بقوة التنظيم أو بحكم السلاح والسيطرة وإعلاء قيمة الخطاب الجهادى الشعبوى مع الترويج لنموذج الحاكم العادل المحارب للفساد المدافع الأول عن قضايا الأمة من أنقرة.
لقد نجح اردوغان وقيادات جماعة الأخوان المسلمين فى عقد إتفاق مع العواصم الغربية التى كانت ترغب منذ سنوات طويلة فى صعود تيار دينى براجماتى قادر على قيادة الشارع الإسلامى فى طريق مواز يحافظ على المصالح الغربية فى المنطقة وأمن واستقرار دولة إسرائيل من خلال توزيع مناطق النفوذ والثروات والتخلص من الأنظمة الديكتاتورية التى تروج لخطاب قومى معاد للمصالح الغربية، فضلا عن أن وجود انظمة حكم إسلامية تحت راية واحدة يحقق المبرر الاخلاقى والقانونى لقيام دولة يهودية بالمقابل ويسمح بوجود الهلال الشيعى فى مقابل التكتل السنى وأن يكون الغرب هو الحارس على تلك التركيبة والمكون الدينى والعرقى خدمة لمصالحه وتجارته فى الطاقة والسلاح وغيرها…
الاتفاق كان يدعم ويقبل بحل نهائى للقضية الفلسطينية وتفكيكها بامتداد جغرافى فى سيناء يستوعب كثافة سكان قطاع غزة ويستقبل اللاجئين الذين يرغبون فى العودة ويقضى على مطالب حق العودة فى أراض تحتلها وتيسطر عليها إسرائيل فى الضفة الغربية وداخل حدود إسرائيل ما قبل 1967؛ كما يقضى الاتفاق بأن تكون لقطر وتركيا والجماعة دور فى القضاء على النفوذ السياسى للمالك الخليج العربى وخروجها من ملعب السياسة إلى ملعب الإقتصاد فقط كممول للمشروعات الإقليمية وبرامج إعادة الإعمار والحل السياسى للقضايا تحت ضغط إيرانى مطلوب لا يسمح لها بالخروج عن الاستراتيجية الغربية والرؤية الخاصة للمنطقة…
دور اردوغان الوظيفى فى تلك التركيبة هو ضابط إيقاع تيار الإسلام السياسى وجماعات العنف المسلح وجماعات المقاومة التى تحولت أهدافها من مقاومة المحتل للعب ادوار إقليمية لا تخدم قضيتها ولكن تخدم تمويل قياداتها وإعاشة وتسليح كوادرها فهو يوجه خطاب شعبوى لاتباع تلك الجماعات وشيوخها ويدعى ما ليس فيه من عدل وإنسانية وطهارة وعفة وكاريزما ويوفر لهم المأوى والوطن البديل والتسليح والعلاج والتنقل من الموارد الذاتية للبلاد التى يخربونها ويشردون شعبها…
فى هذا الاطار يمكننا بعيد عن النرجسية والمشاعر الوطنية تفسير الإنزعاج الغربى والتركى والإيرانى والقطرى من ثورة 30 يونيو 2013 وكل ما تمثله من إحباط وخيبة لمشروع كبير وشلة المنتفعين منه دولا وافرادا وجماعات والكراهية الشديدة لكل من ارتبطت به الثورة من قيادات وافراد ومؤسسات وقد نال الرئيس عبد الفتاح السيسى والجيش الوطنى المصرى النصيب الأكبر من الكراهية ومحاولات الحصار والإفشال عقابا لهما على الدور الذى قاما به فى حماية إرادة شعب 30 يونيو وقيادة المرحلة الإنتقالية…
الكراهية التى يشعر بها اردوغان ولا يستطيع إخفاءها من الرئيس السيسى والجيش المصرى اللذين كانا وراء فشل مشروعه الامبراطورى وجهها كلها بإتجاه خطط تدمير وإفشال مشروع 30 يونيو و3 يوليو واستنزاف قدرات الجيش والشعب المصرى وإستهداف كل الموارد التى تصب فى مصادر الدخل المصرى بالاتفاق مع قطر والجماعة على فترات كلما سنحنت الفرصة من تدمير لتحويلات المصريين فى الخارج وضرب السياحة والاستقرار وتمويل وتدريب وإيواء الجماعات والتنظيمات التى تستهدف تنفيذ عمليات إرهابية ضد الجيش والشرطة والمؤسسات والمرافق الحيوية بالتوازى مع بناء منظومة إعلامية مكونة من قنوات ومواقع وصحف وفرق سوشيال ميديا مدربة ومحترفة للعمل ضد كل ما هو مصلحة مصرية ولتكذيب كل واقع وحقيقة مصرية والوقيعة بين المواطن المصرى وقياداته وكسر جسر الثقة بين المصريين وجيشهم واستهداف الروح المعنوية للجنود والضباط إضافة للنيل من الصورة الذهنية للدولة المصرية فى الخارج ومطاردتها فى المنظمات والهيئات الدولية مستغلة فى ذلك كل الثغرات التى تطفو على السطح من ممارسات غبية وبعض الأخطاء والخطايا التى كانت ستمر دون ضجيج لو كان فى مصر نظام حليف لتركيبة الشر الإقليمية والدولية…
واتباعا لنظرية شد الأطراف الصهيونية فإن اردوغان وجماعته يربطان كل تحرك لهما بحصار مصر وقيادتها طمعا فى سقوط السيسى وعودتهم للحكم على أى اكتاف كانت لذا تجده يتحرك فى أقصى الجنوب فى منطقة القرن الأفريقى داعما لسد النهضة الأثيوبى الذى سيؤثر حتما وبعد الاتفاق السلمى على حصة مصر ومواردها المائية والكهرومائية؛ وفى ديسمبر 2016 وقع إتفاق مع جيبوتى؛ البلد العربى الصغير على ساحل البحر الأحمر؛ لانشاء منطقة تجارة حرة مساحتها 12 مليون متر مربع مع قدرة إقتصادية متوقعة 1 تريليون دولار تمهيدا لإنشار قاعدة بحرية كبيرة جنبا إلى جنب مع القواعد الأمريكية والفرنسية واليابانية والصينية؛ وفى سبتمبر 2017 أعلنت عن أكبر قاعدة بحرية لها فى الخارج فى مقديشيو عاصمة الصومال وحاولت أن تقيم قاعدة مماثلة فى سواكن السودانية ولكن سقوط نظام البشير الإخوانى أفشل المشروع…
وفى ليبيا وجد اردوغان ضالته فى تمويل كل المليشيات الأخوانية المسلحة فى طرابلس والمدن والقبائل المجاورة فى غرب ليبيا ومصراته من خلال توفير الدعم السياسى لمجلس فايز السراج الذى تتحكم فيه المليشيات المسلحة الاإخوانية وتفرض وصاية على كل قراراته وتجعل منه خيال حقل لا يسيطر على الشارع الذى يقطن فيه إضافة لذلك يقوم جهاز حكم أردوغان بتصدير وتهريب السلاح لتلك الجماعات رغم فرض حظر التسليح على كل أرجاء ليبيا وجيشها الوطنى مع تسخير خط بحرى وجوى لنقل المقاتلين التابعين للأخوان وداعش والاعدة أى فصيل متأسلم يحمل السلاح إلى ليبيا والدفع بهم فى المعركة مع الجيش الوطنى الليبى بقيادة خليفة حفتر وصولا للهدف الأكبر وهو تهريب هؤلاء إلى مصر عبر حدودها الغربية ومن الجنوب لتنفيذ مخطط عودة الإخوان الذى لن يكون لا قدر الله إلا على أنقاض الدولة المصرية وجيشها وشعبها؛ مع الأخذ فى الاعتبار حسابات أردوغان وقطر والجماعة التى ترحب بصعود حكومات وبرلمانات ورئاسات إخوانية وسلفية أو لا تتعارض مع التوجه الإسلاموى فى بعض دول الجوار الليبى ولها رأى فى مسيرة المباحثات السياسية ودعم أى من أطراف النزاع داخل بلاد عمر المختار…
ولكن يظل ملف الإستفزاز الإردوغانى المستمر فى البحر المتوسط هو الطاغى على الأحداث والكاشف عن مخططات العثمانلى القذر والذى يمكننا من فهم توقيع إتفاقية عسكرية مع حكومة السراج الإنتقالية فى غرب ليبيا؛ حيث لا تمتلك بلاده أى موارد بترولية أو غاز فى منطقة شرق البحر المتوسط الذى تتشاطر أوروبا ودول شمال افريقيا وغرب أسيا العربية شواطئه وموارده فراح يعربد بمجموعة سفن بحرية لا يمكنها أن تواجه الأسطولين المصرى واليونانى أو تقف فى وجه غضبة قد يقدم عليها الناتو لمساندة نيقوسيا وأثينا طمعا فى الوصول إلى صيغة تسمح له بإقتسام الغاز مع الدول التى تستخرجه والتى سبقت ووقعت إتفاقيات ترسيم حدود بحرية دولية معترف بها؛ تلك الاتفاقيات التى تمنع تركيا وإسرائيل من الإنضمام لها أو الاعتراف بأى حقوق لهما لانهما دولتا إحتلال؛ إسرائيل التى تحتل فلسطين وتركيا التى تحتل شمال قبرص لذا يصعب تحديد مناطق ونقاط الترسيم النهائية والفعلية بحرا وبرا…
بعد كل ما سبق ما يزعجنى فعليا هو عدم وجود الكثير من مساحات الفهم والإدراك داخل منظومة الإعلام والصحافة التى تشكل وعى المصريين وإدراكهم لتلك الملفات وتشابكها حتى ولو على الهامش دون مبالغة يكفينا الرصد والربط وترك مساحات التحليل حرة وكاشفة لانها معركة مصير وإستنزاف…
وللحديث بقية…
جــلال نصـار
4 ديسمبر 2019م
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.