ساق البامبو: ساق الحرية، بين الرواية والدراما التلفزيونية

09:36 مساءً السبت 14 ديسمبر 2019
د. منى برنس

د. منى برنس

أكاديمية وناقدة وروائية ومترجمة من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
قراءة خصت بها د. منى برنس موقع آسيا إن

قراءة خصت بها د. منى برنس موقع آسيا إن

في مجتمعات يري معظمها أن القراءة فعل تخريبي، يغيّب العقول، و أن الكتب تفسد العقل، باستثناء القرآن الكريم، تأتي ساق البامبو، في نسختها الروائية و الدرامية، لتعلي من قيمة القراءة و الكتابة كأفعال تحررية. لم تتجذر ساق البامبو التي من المفترض أنها ساق حرة تستطيع التنقل من مكان لآخر فتنبت من جديد، ربما لأنها نبتة منفتحة، شبه استوائية، آسيوية في الأصل، لم تستطع أن تتجذر و تعلو قامتها في مناخ صحراوي منغلق على ذاته. لكنها، و إن لم تتجذر أو تنبت، إلا أنها استطاعت خلخلة التربة الصحراوية حتي دخلها هواء مغاير، لربما تنبت فيها ساق البامبو لاحقا.

سعود السنعوسي

سعود السنعوسي

أعتقد أنه و لأول مرة، يقوم كاتب عربي، كويتي، سعود السنعوسي، بخلق عالم روائي\درامي مغايرا لما ألفنا عليه. إذ بتوظيفه لمقولات و كتابات الشاعر و البطل القومي الفلبيني، خوسيه ريزال، التي ابتدأت بها أجزاء رواية ساق البامبو، و حلقات المسلسل الذي يحمل نفس الاسم، وخلق شخصية الراوي، هوزيه مندوزا، استطاع السنعوسي أن يُنطق الصوت المكتوم لفئة يتعامل معها الكثيرون على أنها ماكينات تؤدي عملها دون صوت، دون حكاية.

هوزيه مندوزا، كما كتب حكايته، أمه خادمة فلبينية و أبوه كويتي من عائلة كبيرة. اسمه في الكويت، في الأوراق الرسمية، عيسى راشد الطاروف. طوال الرواية و المسلسل، يعتذر هوزيه\عيسى عن كونه نفسه التي يبحث عنها، و يسكته الآخرون دوما. فيكتب. فتصبح كتابته فعلا تحرريا له و لقرائه في كل مكان، مثلما فعلت كتابات خوسيه ريزال بالنسبة للشعب الفلبيني أثناء مقاومته للاحتلال الاسباني. يكتب هوزيه\عيسى روايته بالفلبينية، لغته الأم، و تنشر مترجمة إلي العربية، حاملة اسمه الفلبيني هوزية مندوزا. طوال الرواية\ المسلسل، يحتل اسم العائلة، الذي تلوّث بسبب هذا الولد الكويتي الذي أنجبته خادمة فلبينية، مكان الصدارة في المجتمع الكويتي\العربي عامة. إلا أن الاسم الذي يبقى، و يتم تخليده حقا هو اسم الراوي المؤلف، هوزيه مندوزا، و ليس عيسى الطاروف.

190px-ساق_البامبو_(رواية)تنتهي رواية ساق البامبو، بنشرها في كتاب مترجم، و ينتهي المسلسل بقراءتها من قبل كل أفراد عائلة الطاروف، حتى الجدة غنيمة، التي تري في القراءة تخريبا للعقل. هؤلاء الذين كانوا يعملون على اسكات صوت هوزيه و يرفضون وجوده بينهم. يتحرر المؤلف في نهاية روايته من أزمة انتمائه و يتقبل هويته المزدوجة فيحقق لنفسه بذلك التوازن النفسي الذي كان مفقودا في تنقله ما بين الفلبين والكويت، ما بين عائلة أمه و عائلة أبيه. يعود هوزيه إلى الفلبين لأن ساقه لا تتجذر في بيت الطاروف في بلد أبيه. لكنه ينجب ولدا بوجه عربي و يسميه راشدا كي يستمر اسم العائلة في الفلبين. يشاهد هوزيه مباراة كرة قدم بين بلديه، الفلبين والكويت، الهدف الذي يتم تسجيله لا يشعر هوزيه أنه ضده، بل في مرماه، أيا كان الفريق. فالفريقان يمثلانه. و ينتهي المسلسل بتحرر العائلة من أوهامها و هواجسها و مخاوفها. تتزوج هند، عمة عيسى من غسان الذي يحمل وصمة “ البدون “ و تصرخ نور، ابنة خالته نورية، بحبها لعيسى الذي يحمل جنسية كويتية و وجه فلبيني، في وجه جدتها غنيمة و العائلة، رغم معرفتها بنتيجة ذلك التصريح الصاخب. و هو فعل نتج عن انفتاحها على ذلك الآخر المختلف عنها، فرأته كإنسان، له صوت و لغة و حكاية مختلفة. و يقرأ غسان من الرواية ما يقوله هوزيه\عيسي، “ أنا لا أريد إلا أن أكون حرا فيما أكون و من أكون و أين أكون، و لكن حرية البعض للبعض الآخر قيد.”

Bk8p7JnIcAAa0Dfقرأت الرواية في ثلاثة أيام متتبعة قصة حياة هوزية\عيسي، و شاهدت المسلسل في أربعة أيام، على شاشة الكمبيوتر، متتبعة دراما عائلة الطاروف. و كان قلبي يوجعني من الظلم الذي يلاحق هوزيه\عيسى. من منا لم يتعرض للظلم و شعر به. فالظلم، كما الموت، كما الفرح، تتعدد أسبابه و هو واحد. و أعتقد أن هذا أحد أسباب نجاح العمل اديبا و دراميا، رغم محليته، سواء الفلبينية او الكويتية، فقد تناول احساسا انسانيا نخبره جميعا في أي من مراحل حياتنا. و مع نهاية المسلسل تذكرت نهاية رواية دعاء الكروان للدكتور طه حسين، و نهاية الفيلم الذي يحمل نفس الاسم. و جدت تشابها ما، و إن كان معكوسا.

فطه حسن أنهي روايته بانتصار الحب على الفارق الطبقي\الثقافي\ الحضري، و الاحساس بالذنب، من خلال مباركته الروائية لزواج الباشمهندس المديني من آمنة الخدامة بدوية الأصل أخت هنادي الخادمة التي قتلها خالها بسبب علاقتها بالباشمهندس سابقا. انتصر طه حسين للقيم الليبرالية في عام ١٩٣٤ وقت صدور الرواية. في حين أن نهاية الفيلم انتصرت للقيم الاخلاقية و التقاليد المتزمتة فجعل الخال يقتل الباشمهندس. اذ لن يقبل جمهور السينما من الطبقة الوسطي المحافظة أن تتزوج الخادمة البدوية من الباشمهندس. أما في ساق البامبو، ٢٠١٢، وقت صدور الرواية، تحقق هوزيه\عيسي بقبول نصفيه الفلبيني و الكويتي، و أنجز رواية تسرد حكايته، كاشفا عن كل أشكال المسكوت عنه. لكن السنعوسي، في الرواية، و إن أشار إلى قضية “ البدون” لم يحلها، و لم ينتصر للحب بين هند الطاروف (الكويتية) و بين غسان (البدون). و لست متأكدة بطبيعة الحال، هل يعود ذلك إلى أنه ربما من السهل الكتابة عن مشاكل الآخر عن الكتابة عن مشاكل الذات، و أقصد الكويت البلد و ليس الكاتب. و مع ذلك، حملت ساق البامبو في نسختها الدرامية ٢٠١٦ و الذي شارك السنعوسي في تحويلها دراميا و تكويت لغتها، تغييرا ثوريا غير موجود في الرواية. فينتصر المسلسل للحب و الحرية. تتزوج هند من غسان رغم الفوارق الطبقية و الاجتماعية، و تظهر شخصية نور، لتقع في حب ذلك المختلف و تنضج من خلال تعاملها معه و ما تتعلمه منه، و هي شخصية غير موجودة في الرواية الأصلية.

و مع ذلك، و أيا كانت الاختلافات بين الرواية و الدراما التلفزيونية، يُحسب للكاتب أيضا إعلائه لقيمة الإيمان على التدين. فهوزيه الحائر بين المسيحية التي تربى عليها، و البوذية الشائعة في بلاده، والاسلام دين أبيه، يبحث عن الله، يبحث عن الايمان في قلبه، و لا يعبأ بالشكليات. يحمل صليبا على صدره، و يضم كفيه أمامه و يناجي الله بلغته في المسجد. لا يستطيع هوزيه أن يصلي كالمسلمين لكنه قد يكون أكثر صدقا في إيمانه منهم، و يثق بأن الله في قلبه يسمعه و يستجيب له.

و هكذا، أعتقد أن السنعوسي نجح في خلق وعي مغاير، على أصعدة مختلفة، لدى القارئ\ة و المشاهد\ة العربي\ة. وعي يستطيع خلخلة التربة المكتومة كي تنبت فيها ساق البامبو بحرية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات