مجلة نزوى: مائة عدد من العزلة!

05:33 مساءً الإثنين 16 ديسمبر 2019
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بدء فعالية الاحتفاء بربع قرن على صدور مجلة نزوى.. مقهى هوملاند – مسقط، من اليمين: طالب المعمري، د. سعود الزدجالي، سليمان المعمري، سيف الرحبي، هدى حمد (المصدر: صفحة المبدع سليمان المعمري)

بدء فعالية الاحتفاء بربع قرن على صدور مجلة نزوى.. مقهى هوملاند – مسقط، من اليمين: طالب المعمري، د. سعود الزدجالي، سليمان المعمري، سيف الرحبي، هدى حمد (المصدر: صفحة المبدع سليمان المعمري)

 

لا يختلف متابع للدوريات الثقافية على قيمة وفرادة وريادة الدور الذي أدته مجلة (نزوى)، منذ صدورها قبل ربع القرن، وحتى اليوم.

وقد استقت المجلة هذه القيمة من محتواها الدسم كمًّا وكيفًا، مثلما جاءت فرادتها حينما ولدت في تلك البقعة النائية عن المركز في عاصمة سلطنة عُمان، لتصبح هي مركزا، بينما أخذت مكانة ريادية بمخاطبتها لوعي مفارق، لازَمَ صانعيها، والمنتسبين إليها، ووسّع من فضاء التلقي لها ولا يزال، متخطية تحديات ربما يصعب حصرها في سطور.

كانت عودة الشاعر العماني سيف الرحبي إلى وطنه مبشرة للنخبة المثقفة هناك، بقدر، ولكنها كانت مقلقة لقسم منهم بالقدر نفسه!

فمن يعرف شخصية الشاعر الفذ سيدرك أنه يملك روحًا ثائرة، مغامرة، ومتمردة، وهو الذي اعتاد السفر إلى أوطان أصبحت وطنا له في أزمنة سابقة، فعامله أهلها كأنه منهم، فهو مصري في مصر، وفرنسي في فرنسا، وأردني في الأردن، ولبناني في لبنان، وهكذا، أنت أمام أكثر من سيف، قد تقرأ افتتاحيات نزوى كل فصل من فصول العام، فتعرف أنه الشتاء إذا قسا على من يخالفه، وهو الربيع لمن أحبه، كما يتحول خريفا إذا هجر، وصيفا إذا غضب!

سيف الرحبي، عدسة الفنان هلال البادي (المصدر: صفحة القاص سليمان المعمري)

سيف الرحبي، عدسة الفنان هلال البادي (المصدر: صفحة القاص سليمان المعمري)

ولوهلة سيقع خطأ على الكاتب، أي كاتب، يتناول سيرة مجلة نزوى، حين يماهي بين المجلة ومؤسسها ورئيس تحريرها لربع قرن، لأن الحكمة تقتضي الفصل بينه  وبين المجلة، مثلما تفرض الحكم على التجربة بمعزل عن الأهواء الشخصية.

لكن، كيف أروي قصتي مع نزوى، بعيدا عن حكايتي مع سيف، وقد كانا بالنسبة لي كيانا واحدا كالعملة وجهها وظهرها، أو كصندوق الكنز، والكنز ذاته؟

في قلب السنة الثانية من ظهورها التقيتُ الشاعر في مبنى المجلة، وكان يشغل فيلا أنيقة من طابقين، تلاصق دار الشاعر والرحالة الراحل محمد الحارثي، من جانب، وعلى بعد خطوات من فيلا المركز الثقافي المصري، في حي مدينة السلطان قابوس؛ الشارع المارد الأهم الذي يربط مطار السيب بفندق قصر البستان، شارع السلطان قابوس.

على مرمى حجر من ذلك المكان كنتُ أعمل مترجما في الشركة العربية للإعلانات، وهي إحدى شركات مؤسسة سهيل وسعود بهوان، ولمن عاش في السلطنة يدرك هذا الاسم تمامًا؛ بهوان، حيث كانت مشروعات الترجمة التي أعمل عليها تغطي إنشاء الكتالوجات، وكتابة الإعلانات، للصحافة والتلفزيون، وإعداد برامج المنتجات؛ السيارات على نحو خاص، فضلا عن مشروعات أخرى كثيرة.

بعد لقائي بسيف، وجدت الكيمياء التي جعلتني أحب الإنسان والمكان كليهما، وعلى الرغم من أن وقتي في شركة بالقطاع الخاص كان يأخذ جُلَّ النهار، إلا أن الغروب كان يعني بدء يوم جديد حيث أخرج من مكتبي في الشركة، إلى فيلا مجلة نزوى، التي استمدت اسمها من المدينة التاريخية، مشيرة إلى نهر من العلماء عاشوا في رحابها. آنذاك كان يُخرج المجلة فنيا الراحل الدكتور محمود عبد العاطي، الأكاديمي بالجامعة والفنان التشكيلي، بعد أن وضع تصميمها الأول الفنان العراقي اللندني الكبير ضياء العزاوي. وقد كوَّن أربعتنا(سيف الرحبي والشاعر الصديق طالب المعمري، الذي حافظ على مكانه كمدير تحرير للمجلة، والدكتور عبد العاطي، وكاتب هذه السطور)، علاقة فريق لأسرة واحدة، سقفها أحلام بلا حدود، فكنا كمن يغرس وردة في رمال وهيبة على طرف ثوب الربع الخالي، ونحن نؤمن أن الوردة ستصبح يوما بستانا يود ولفريد ثيسجر أن يرتاح به حين تعود روحه لعبور الرمال العربية مجددا.

كانت تجربتي في الصحافة قد ولدت أيام الجامعة، مع نشري ضمن تيار الماستر مجلة (شباب 2000)، التي صدر عددها الأول في أكتوبر 1983، ثم استمرت التجربة مع صحيفة القليوبية المحلية، وقد خرجت بعد هاتين التجربتين إلى فضاء مصري أوسع بعد تخرجي في الجامعة مع مجلة (المنار) التي كان يصدرها المفكر الراحل أمير إسكندر، كمترجم وسكرتير تحرير، ولكن بدت نزوى لي تجربة عربية متكاملة، إذ لن تكون علاقتي بها باعتبارها مجرد مجلة أرسل لها موادا لتنشرها، كما فعلت في (المجلة العربية) و(الحرس الوطني) و(الجسرة) وغيرها، ولكنها ستكون بيتي، مجازا وفعلا.

مكتبي في مجلة نزوى، ركن للعمل وآخر للقاءات، والصورة مع رسام أمريكي حل ضيفا

مكتبي في مجلة نزوى، ركن للعمل وآخر للقاءات، والصورة مع رسام أمريكي حل ضيفا

لم تنشر المجلة بعد أعدادها الأربعة الأولى، التي تمثل السنة الافتتاحية، كشافا وثبتا للمحتوى، فاقترحت أن نصدر كشافا أقوم بإعداده ليلحق بختام أعداد السنة الثانية، وقد كان. وبحكم اهتمامي فقد كنت أقرأ كتابا ممتعا لسلفادور دالي عن اعترافاته السرية، وعرضت على الرحبي نشر أحد فصوله، وقد فعلت، فصدر الفصل الأول في العدد التاسع بين النصوص بعنوان: كيف تحيا مع الموت؟

ثم فجعنا جميعا بوفاة الدكتور محمود عبد العاطي، ولم تدُم تجربة إخراج المجلة بعده مع أحد الأصدقاء الفنانين المبدعين سوى عدد واحد، وكانت المسافة التي أمضيناها معا كأسرة قد جعلت رئيس التحرير يدرك قدراتي على إخراج المجلة، فتوليت مسألة الإشراف الفني، بجانب سكرتير التحرير، بدءا من العدد الثالث عشر، وظل اسمي على المجلة منذ ذلك الحين، حتى مغادرتي سلطنة عُمان في ختام الألفية الثانية.

في الفترة الأولى كنت أعمل بدوام جزئي يبدأ ـ كما أسلفت ـ بعد الغروب، وقد ينتهي في العاشرة مساء وبعدها، وقد رأى الرحبي أن يسألني الاستقالة من عملي كمترجم بالشركة لأتفرغ تماما للمجلة.

issuesراقت لي الفكرة، ولكن على الصعيد العملي كان الأمر يشبه مؤامرة كونية، لأن نظاما كان معمولا به في السلطنة، آنذاك، لا أعرف إن كان معمولا به اليوم، يمنع من يغادر من العودة للعمل بالسلطنة قبل مرور عامين، خشية كشف أسرار القطاع الذي كان يعمل به. كانت مغامرة، أن أستقيل، وأغادر، دون أية ضمانة سوى كلمة شرف من سيف، وهي الكلمة التي جعلتني لاحقا أحتفظ بأسرار سيف التي ائتمنني عليها، بعد أن تعمقت صداقتنا بشكل بالغ، لأنه التزم بكلمته معي. لذلك لن تحتوي هذه المقالة على أية معلومات شخصية لا نفضل أن يعلمها أحد.

بعد عودتي للسلطنة، بتأشيرة زيارة تتجدد، وبراتب عبارة عن سلفة حتى يتم التعيين، بدأت حرب شركة سهيل وسعود بهوان ضدي في محاولة لإبعادي، واستمرت هذه الحرب شهورا توازت مع إصدار عدة أعداد من نزوى، فكان سيف يقول لي: “أنت عجيب، هم يريدون ابعادك، وأنت تعمل وكأن هذا آخر عدد، فتضع فيه كل جهدك”.

كانت متعة العمل في مطبخ نزوى الصحافي الثقافي بلا حدود، إنها الأحلام التي بدأت وأنا صبي صغير أصنع من القصاصات مجلات، وأرسم صفحات أضمها معا، لتكون مجلة، حتى مراسلاتي مع صديقاتي وأصدقائي في مصر وخارجها، كانت على هيئة مجلات!

الشاعر طالب المعمري (عدسة الفنان هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

الشاعر طالب المعمري (عدسة الفنان هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

بدأ عالم جديد لمجلة (نزوى) يبني عزلة محببة، فأنت في المجلة بعيد عن السائد، مبتعد عن المكرور، باحث عن الجديد، منقب عن الفريد، ننشر كتبا داخل كل عدد، وكنت أتحايل على عدد الصفحات، بتصغير حجم الحرف، كي يتسع، فنحن نقدم ألف صفحة كل سنة، ولكنها بحيل الإخراج وتحجيم الفضاءات دون الاعتداء على الجماليات البصرية كانت الألف صفحة لو نشرت بفونت أكبر لأضيف إليها مائتي صفحة على الأقل. أما الأسماء فلن أعددها، ولكن ما إن تذكر اسما عربيا أو عالميا ذا قيمة، فسأقول لك لقد نشرنا له في نزوى!

أمام المحيط الذي كان يتسع لنقاشاتنا في أي وقت: طالب المعمري وأشرف أبو اليزيد

أمام المحيط الذي كان يتسع لنقاشاتنا في أي وقت: طالب المعمري وأشرف أبو اليزيد

كان أول استطلاع أنشره بالمجلة نصا مشتركا مع الشاعر طالب المعمري، بعنوان (سوق الظلام)، وعنينا به سوق مطرح التاريخي العتيق. وتوالت الاستطلاعات الفردية، وكان منها نصوص مترجمة تقدم كغالبية الاستطلاعات أحد وجوه السلطنة، ويدرك المتابع للمجلة على مدى ربع القرن أنها كانت معرضا حيا لصور بعدسات العمانيين، وهي عدسات حازت إعجاب القراء، وتقدير العالم، وكشفت عن روح وثابة توثق مجتمعها الثري والمتنوع بكفاءة وقدرة كبيرتين. لذلك فتأريخ التصوير في سلطنة عُمان بالكاميرا لا بد أن يتخذ من مجلة نزوى مرجعا له،  مثلما يجب أن تؤخذ صفحاتها مرجعا للحياة التشكيلية، ليس في السلطنة وحسب، وإنما في العالم كله، إذ دأبنا على اختيار أعمال دالة تصاحب النصوص، ناهيك عن سرد سيرهم وعرض تجاربهم.

مجلة نزوى، اليوبيل الفضي

مجلة نزوى، اليوبيل الفضي

سليمان المعمري وسيف الرحبي (عدسة الفنان هلال البادي)

سليمان المعمري وسيف الرحبي (عدسة الفنان هلال البادي)

تعيدني كلمات القاص والإعلامي الصديق سليمان المعمري، إلى أجواء نزوى، حيث سأستعير هنا بين أقواس، من صفحته على فيسبوك، محاور الاحتفال بالعدد المائة ورحلة ربع قرن في حياة نزوى، يقول سليمان المعمري: (ربع قرن، ومائة عدد. إنها لمناسبة تستحق الاحتفاء. خاصة إذا ما علمنا الظروف الثقافية والسياسية والاجتماعية التي صدر فيها العدد الأول من مجلة نزوى في نوفمبر من عام 1994. هذه المجلة التي ظهرت في وقت كانت فيه المجلات الثقافية العربية تعاني وتجاهد من أجل البقاء على قيد الحياة. توقفت “مواقف” أدونيس في نفس عام ولادة نزوى. وتوقفت بعدها بسنوات “كرمل” محمود درويش. أما “الآداب” العريقة فقد وصل بها العوز المادي حدّ توجيه رئيس تحريرها “نداء استغاثة إلى كل محبي الثقافة العربية الجادة” لدعمها ماديا. في هذه الظروف ظهرت نزوى، واستمرت، ووصلت بعد خمس وعشرين سنة إلى العدد مائة بدون أن يتوقف صدورها ولو مرة واحدة. ولقد صارت اليوم بحق وجهًا مهمًا من وجوه عُمان الثقافية، بها نُعرف كعمانيين، وبها يُشار إلينا في كثير من البلدان العربية وغير العربية. وإذا كنتُ قلتُ قبل قليل “مواقف” أدونيس، و”كرمل” درويش فإنني أكاد أقول الآن “نزوى سيف الرحبي”، فقد ارتبطتْ المجلة بهذا المثقف العُماني منذ نشأتها وحتى اليوم، وباتت تُعرف به، ويُعرف بها، دون أن يعني هذا طبعا انتقاصًا من قيمته الثقافية والإبداعية كشاعر مهم من رواد القصيدة العُمانية الحديثة. صحيح أنه ما فتئ يردد في حواراته المختلفة بأنه يتعامل مع كل عدد من “نزوى” كما لو أنه العدد الأخير، إلا أن هذا “الأخير” لم يأتِ إلى الآن لحسن الحظ، وإن كان من سبب في ذلك فهو دأبه وإصراره – هو وطاقم نزوى الصغير الذي لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة- على تحدّي كل العقبات والخروج بكل عدد في موعده مهما كان العمل في ظروف صعبة ولامهنية. واليوم إذْ نحتفي هنا في مقهى هوملاند بيوبيل نزوى الفضي فإننا سننظر في اتجاهين : الماضي، حيث سيستذكر طاقمها الظروف التي واجهتها في بداياتها بدءا من الفكرة ووصولاً إلى الإنجاز، والمستقبل حيث سنقف من خلال ملاحظاتكم على أهم ما نجحت فيه المجلة، وأبرز ما لم يحالفها فيه النجاح بعد، من خلال مداخلاتكم المثرية كجمهور، ومن خلال ورقة الدكتور سعود الزدجالي).

د. سعيد الزدجالي (عدسة الفنان هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

د. سعود الزدجالي (عدسة الفنان هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

كانت تلك الكلمات التي قدم بها سليمان المعمري للجلسة الثقافية التي نظمها مقهى هوملاند بالمعبيلة   بمناسبة مرور ربع قرن على تأسيس مجلة نزوى الثقافية ووصولها العدد 100، وقد نشر القاص المبدع صور الحفل ووضع في التعليقات عليها عروضا موجزة للآراء التي تداولها الحضور في نقاشاتهم وتعقيباتهم، وأزعم أن هذه الآراء عمرها يوازي عمر نزوى نفسه، لذلك عشت معها كما لو أنني أجلس مع رئيس تحرير نزوى ومدير التحرير نتساءل كيف يرى الآخرون تجربة نزوى؟

يكتب سليمان المعمري: (إلى أي مدى أعربت المجلة بوضوح تام عن فلسفتها ورؤيتها ورسالتها في الأعداد الأولى واللاحقة وأبانت عن هويتها؟ وهل كانت المجلة قادرة على الوفاء بمتطلبات تلك الفلسفة عبر المحتوى وأثره في المشهد الثقافي العماني وإشكالاته؟ هذان السؤالان هما جوهر الورقة التي قدمها الدكتور سعود الزدجالي بعنوان “مجلة نزوى بين الغايات والواقع”.

فردا على الدكتور الزدجالي، والاقتباس بين الأقواس دومًا من صفحة المعمري: (أرى أن المجلة أوقعت نفسها في التناقض بين دعاوى التنوير والحداثة وجمود التقليدية المفرطة أحيانا؛ ولذلك لم تقاوم السائد واكتفت بالنهي عنه قلبا بأضعف الإيمان في المسكوت واللاوعي الثقافي دون مساءلته وتعكير صفو راحته المقدسة). يقول (سيف الرحبي تعقيبا على سعود الزدجالي : “لا يمكن الحديث عن الدعوة إلى التنوير والحداثة دون النظر إلى ظروف المكان الذي تدعو منه، والمؤسسة التي تنضوي مجلتك إليها”.)

تسجيل الأمسية من صفحة سليمان المعمري

والواقع أن الحديث بهدوء أجواء المكان مختلف عن الأجواء التي كانت تصدر فيها نزوى، فقد كنا نخوض حربا، ولا أقصد حربي الشخصية التي انتهت بإيعاز من شخصية متنفذة بعد تدخل شخصية مرموقة تعمل في مؤسسات بهوان، قدمت تعهدا خاصا بأن أشرف أبو اليزيد لن يفشي أسرار المؤسسة ولا خوف منه على أعمال بهوان ببقائه في السلطنة، ولكنها الحرب ضد المجلة نفسها، والتي بدأت بتقليص الأعداد المطبوعة.

ومن يعمل في مجال النشر يدرك أن نسبة المبيع ليست مائة بالمائة دومًا، وهي نسبة تتراوح بين 50 و70 بالمائة للمجلات الرائجة، وكنا نحقق هذه النسبة لأن نزوى رغم تكلفة شحنها بسبب ثقل وزنها إلا أنها وصلت إلى أطراف العالم العربي، وأصبحت سفيرة حقيقية للسلطنة، بها يفخر كل عُماني، وإليها كان يفد أقطاب الثقافة العربية والعالمية، لذلك كانت جسرا عملاقا بحارتين اثنتين؛ حارة تأتي بثقافات العالم إلى مسقط، وأخرى تذهب بالثقافة العمانية إلى العالم، ولا أرى الحضور الجلي للأدب العماني في المحافل العربية والعالمية اليوم بمعزل عن تلك الغرسة الأولى في 1994، عام ميلاد مجلة نزوى.   لذلك كان الطلب المؤسسي العجيب والغريب بخفض الأعداد المطبوعة بآلاف النسخ والاكتفاء بطباعة الآلاف التي توزَّع فقط، وبدون شك أسفر ذلك عن نقص في التوزيع، رغم أننا عرضنا إتاحة غير المباع في مجلدات كنا على يقين بأن هناك قارئا ينتظرها ويبحث عن اقتنائها.

أقتبس هنا من سليمان المعمري سؤالا سمعناه كل عدد من أعداد نزوى، بالتأكيد وأنا فيها، وبعد رحيلي عنها، جاء على لسان  المصور الفنان البارع (هلال البادي: لماذا تتكرر بعض الأسماء في قائمة من ينشرون بمجلة نزوى؟)، وردُّ رئيس التحرير في السابق واللاحق كان حقيقيا (سيف الرحبي: “قضية تكرار الأسماء هذه غير صحيحة”.). والحق أن من أسباب إصراري على نشر الكشاف، وقد أصبح سنة سنوية في (نزوى)، هو ذلك الثبت، لأنه بالأرقام وحدها يمكن أن نرد على مثل هذا السؤال.

فقد كتبتُ في الكشاف الأول |يناير 1997|: “يجد القاريء لهذا الكشاف ثبتا بأسماء الكتاب والمواد يغطي الأعداد الثمانية الأولى للمجلة، وقد استطاعت “نزوى” خلال العامين ومن صدورها، أن تجد قارئها الباحث عن ثقافة عربية شاملة ومتخصصة في آن، تكفي الإشارة إلى أن عدد كتابها قد بلغ 286، من بينهم 36 كاتبة، وأن الدراسات زادت عن المائة، واحتفت بالإبداع نصوصا (74)، وشعرا (92)، هذا عدا أبواب السينما والمسرح والفنون التشكيلية والعلوم وعشرت من المتابعات الثقافية، والاستطلاعات المصورة، واللقاءات الخاصة عبر رسائل من مختلف عواصم العالم”.

ويدرك القاريء كيف يمكن لمجلة أن تقدم أكثر من 36 مساهما مختلفا في كل عدد، وهو ما تعجز عنه دوريات كثيرة، أكبر عمرا وأوسع انتشارا، لكن (نزوى) كانت تتحدى نفسها.

أما في تقديمي للكشاف الثاني في العدد الثالث عشر |يناير 1998، فكتبت: “دونما رتابة تواصل نزوى دورها بتعميق التواصل الثقافي بين الكاتب والقاريء عبر ثقافة شاملة ومتخصصة. في عامها الثالث قدمت المجلة 203 كتاب، نشروا 57 دراسة في الآداب واللغة والتاريخ والجغرافيا، و11 مادة في السينما والمسرح جمعت ما بين الإبداع والترجمة والحوار وعرضت 4 مداخلات في الفن التشكيلي وتوقفت في 4 محطات علمية متميزة، وأجرت 8 لقاءات مع أعلام الثقافة المعاصرة، هذا عدا احتفائها بالإبداع الشعري 54 نصا)، والنثري (53 نصا)، مع التحفظ على التقسيم القسري، واختتمت أعدادها مع 55 متابعة ثقافية حفلت بها رسائل من مختلف عواصم العالم.”

سيلاحظ القاريء أن عدد الكتاب والكاتبات زاد بمعدل كبير من 36 إلى أكثر من 50 مشارك ومشاركة كل عدد، وربما يعود ذلك إلى مسألة الكم النوعي الذي زاد فتطلب زيادة في الأسماء المشاركة.

وعلى ذكر الرسائل، فقد كانت لي معها أكثر من أمر غريب وعجيب، فكوني مسؤولا تحريريا كانت الرسائل تردني من الجميع، لأفتحها، وأعدها للنشر وقبلها للمراجعة والمناقشة، فلكي ننشر نحو ثلاثمائة مادة كل سنة، كان هناك مثل ذلك  العدد يردنا كل شهر، وهو أمر أكبر من طاقة فرد أن يتصفحه، لذلك وقعت بين يدي رسائل تنتقد عملي تارة، وتشكوني لسيف تارات، وكأن هناك ثأرا، سواء بالإخراج، أو المتون. فقد كنا مثلا نتحايل على الرقيب بتغيير عنوان، أو كلمة في المتن، بعد نقاش مستفيض، ونحن نفضل أن ننشر الذي يستحق، أكثر من تجنب نشر مادة بأكملها بسبب مفردة مرفوضة قد توقف المجلة برمتها، ولم يكن ذلك تطوعا مني، بل بشراكة داخلية يعرفها المسؤولون عن التحرير في مجلات العالم كله. كنا نمضي فوق الشوك، ومن يريد إرضاء الجميع، سيُغضب الكل!

وتذكرت الرقابة مع الأسئلة التي مستها أمسية الاحتفال بالعدد المائة وربع قرن على ميلاد نزوى، فقد قرأت في متابعة سليمان المعمري حول منع المجلة (حسين القلهاتي: ” ما قصة المجلة مع الرقابة في الكويت؟”. .) (سيف الرحبي : “الكويت كحكومة لا تمنع. ولكن الرقيب الكويتي متخصص على ما يبدو في منع نزوى”)،
هدى حمد: “في العدد الأخير سمح الرقيب الكويتي بالمجلة ومنع كتاب نزوى”! )، (سيف الرحبي ردا على سؤالي إن كان ثمة دول عربية أخرى تمنع نزوى غير الكويت: “أخبرني أحد الأصدقاء في السعودية أنه في أعداد قديمة من نزوى لم يكن الرقيب يمنع المجلة، ولكنه فقط يمزق الصفحات التي لا تروق له ثم يسمح بتداولها”.)

في الليلة الهادئة، في مقهى هوملاند – مسقط، والتي نقلتي إليها صور الفنان هلال البادي،  أواصل نقل اقتباسات سليمان المعمري بين الأقواس لمناقشات الحضور، وردود المنصة: (فوزية الفهدي تعقيبا على اتهام سعود الزدجالي مجلة نزوى بأنها لم تستطع خلق بيئة نقدية متميزة في المشهد الثقافي العماني خلال فترتها الطويلة : “الشخصية العمانية تحتاج إلى وقت طويل حتى تقارب النقد”.)، (حميد الحجري للدكتور سعود الزدجالي : “في ضوء نقدك للمجلة بأنها لم تخلق بيئة نقدية متميزة وأنها انزوت خارجَ دائرة النقد الثقافي وضمن “التراثيات المتحفية”، وبما أن لك أوراقا نقدية لهذه التراثيات، لم لم تختر أن تنشرها في نزوى؟” سعود الزدجالي : “ممكن نجرب وننشر هذا المقال”.)، (البروفيسور أحمد يوسف: “علاقتي بعمان هي علاقتي بمجلة نزوى. ويمتد عمرها لنحو عشرين سنة”.)، (حمد الرشيدي : أتمنى أن تكون افتتاحيات نزوى تتناول قضايا ثقافية عمانية لا نصوصا لسيف الرحبي”.)، (سيف الرحبي: “أنا طرحت في افتتاحية نزوى أكثر من مرة قضايا تتعلق بالوضع الثقافي في عمان، ولست ملزما أن أطرح دائما قضايا في الافتتاحيات، كما أنه ليس ثمة قاعدة ملزمة أن تكون الافتتاحية قضية”.)، (بدر العبري: “أنا أرى أن المجلة ضعيفة في وسائل التواصل الاجتماعي”)، طالب المعمري: “موقعنا على الانترنت ضعيف ووجودنا في وسائل التواصل الاجتماعي ضعيف، لأن طاقمنا محدود، والاشتغال على الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي يحتاج طاقما أكبر”.).

أعادني رد طالب المعمري إلى حكاية الموقع الإلكتروني، فقد أردنا تأسيس موقع لم يكن يسبقنا إلى تلك الفكرة في عالمنا الثقافي القريب غير موقع قاسم حداد، الذي كان موقعا ثقافيا شاملا ونموذجيا، وقررنا أن نخاطب الشركة المصممة، وطلب سيف الرحبي أن تكون المراسلات باسمي، حتى نختار أقل  الأسعار، وحينها نعرض على المؤسسة الفكرة الضرورية، وهي وضع (نزوى) على شبكة الإنترنت. فوجئنا بالسعر الذي طرحته الشركة البحرينية، ثم أنقذتنا شركة شابة لشباب عمانيين قدمت عرضا أقل من خُمس القيمة التي طلبتها الشركة. وعليه فقد بدأ الشباب العماني الفذ رحلة تحويل النصوص المصورة إلى  نصوص مكتوبة يسهل بها البحث باستخدام قاريء   التعرف البصري على النصوص (OCR)، واحتفلنا مع مدير التحرير طالب المعمري ورئيس التحرير سيف الرحبي، بانطلاقة الموقع، خاصة بعد أن انتقلنا من الفيلا الأولى إلى الموقع الذي أصبح جزءا من مؤسسة عمان للصحافة والنشر.

لم تخلُ جلسة الاحتفالية من أصوات منصفة، ليس فقط على المنصة، فقد سجل سليمان المعمري رأي حمود الشكيلي: (علاقتي بمجلة نزوى طويلة. وهي التي أخذت اسمي إلى الخارج. عدد إبريل هذا العام اشتريته من مراكش)، ونقل تعقيب بدور الريامي على سعود الزدجالي : (من الظلم أن نحكم على توجه مجلة من خلال الحكم على افتتاحياتها فقط، وليس كل الافتتاحيات، فأنت استشهدت في ورقتك باثنتين فقط. كما أنه تم الحكم على المجلة من خلال سيف الرحبي فقط). لكن الزدجالي نفسه لم يفته تقرير واقع (يظهر في المحتوى الملمحُ العماني بقوة سواء أكان الظهور موضوعاتيا، أم كان بتقديم الكاتب والمبدع العماني، وبهذا فإنه لا بد من تسجيل إشادة وتميز عن مشروع مجلة “التسامح” أو “التفاهم” في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الذي لم يستطع أن يعبّر عن هذه السمة؛ فظل الكاتب العماني مقصى عن محتويات المجلة؛ بينما واكبت نزوى ميلاد الكاتب العماني وبذلت لاحتوائه ومتابعة تاريخه دون إقصائه وتصنيفه). ولعل الدكتور الزدجالي كان يجب أن يأتي على ذكر عدد نزوى الذي خصص بكامله، من الغلاف إلى الغلاف، للأدب والثقافة العمانيين.

هدى حمد تتحدث في المسية الاحتفالية (عدسة هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

هدى حمد تتحدث في الأمسية الاحتفالية (عدسة هلال البادي ـ صفحة القاص سليمان المعمري)

لذلك أحببت ما قرأته صباح يوم الاحتفال بصفحة الكاتب الصديق حمد الصبحي. فتحت عنوان “مجلة “نزوى” في ربع قرن.. وماذا بعد؟ هل ستموت الشمس و”نستمتع بهواتفنا الكريهة “؟!” كتب الصبحي: لو كتبت مذكراتي عن مجلة “نزوى” لكانت أصعب بكثير عن مرحلة التشرد والصعلكة والحياة التي عشتها في المنافي بأوربا، هكذا كان يقول سيف الرحبي وهو يجهز العدد الأول في مسقط، هكذا كان يقول بعد أن بدأت فكرة المجلة كمزحة في لندن، كان يرى في هذه التجربة تحديا فردا صعبا خاصة وأن البلاد تفتقد إلى أي مرجعية في صناعة المجلات الثقافية، يعمل خطوة بخطوة في صناعة الفكرة وفي تحويلها كوجه ثقافي نيٌر يسهم في تحريك الجمود الثقافي ودفع بهذا الوجه إلى إشراقته الأولى، إلى منبع الأسلاف. يجهز العدد الأول مع أسرة أدبية صغيرة وسط هدوء في مكاتب جريدة عمان القديمة بروي، وهو الذي لم يخصص له مكتبا بعد، سوى إنه يجلس كغريب في مكان مثقل بتركة الضغينة والتنمر، يجهز العدد الأول بفرح يغرق روي المسكونة بإقدام الآسيويين، يمد يده إلى آخر العالم ووهج الثمانينيات بكل اضطراباته وحساسياته وانحيازاته للكتابة الجديدة لم يخمد بعد، جنون في الفكرة والمعنى، وفي تجاوز الخط المرحلي الذي يرزح تحت الأنماط التقليدية في النظم والدسائس.
دفعت أرحام المطابع بالعدد الأول، الذي خرج بإسئلة كبرى وكثر الحديث والجدل، بدءا من الإسم الذي لم يسلم من النقد في الضفة الأخرى الأكثر حساسية في انزلاق المجلة المرابط الأولى ومعقلها الذي لا يتجاوز مفهوم المدافن والترب وفضاء القلعة والحصن، كثر النقد في الداخل عن انحيازها للقشرة، كونها الممول والدافع بها إلى أرض المعرفة ونقد آخر هب من لندن، مريض بالمال الخليجي، وشرٌع حراس المرحلة ببيانات مقيتة لوأد التحربة في مهدها، وهي التي خرجت بعملية قيصرية، في غياب أي مرحعية ثقافية يمكن أن يستند اليها هذا المشروع الوليد، القابض على جمر المعرفة والرافض الوقوع في فخ الكذب والمسؤول الواحد التي عرفته المجلات السبعينية التي صدرت مع صعود البيان الأول.

صدر العدد الأول وسط تراجع مرحلي بإغلاق أهم المجلات الثقافية الرصينة، كتب لها النجاح عدد بعد عدد، تدفعها المخاوف من كل الزوايا، وفرضت عليها إعلانات تجارية لا تليق بها وبمشروعها، لكن سيف الرحبي الذي جاء بثقله من التجارب العربية ومن مختبره الثقافي الكبير وحضوره المدهش عربيا إستطاع أن يتصدى لهذه الحرب المجانية وراهن على استمراريتها ومشروعيتها بأسرة أدبية صغيرة، لا تتجاوز أصابع اليد، شكلت معه هذا المشروع الوليد الذي انتشر عربيا كالنار في الهشيم، وفي الداخل، كانت المجلة بين النخب، وهي التي اختارت في أن تكون وسطية دون أن تحمل خطابا او تحيزا، ربما لأن العالم العربي لديه خلفيته الثقافية ولديه عاداته وسلوكه المعرفي ولديه أرصفة تحمل الكتب والمجلات، مع أول اشراقة للشمس وكأن المعرفة هنا تختفي بضوء الشمس، وهي كذلك، كتب عن هذا المجلة الكثير حتى عرفت نزوى، المدينة العريقة، مسقط رأس السلطة الدينية، وبما تحمله هذه المدينة من عراقة تاريخية مدفونة تحت كل حجر، كتب عنا من قبل نخب عربية، لها تجاربها، وتساءلت، كيف إنها صامدة في وقت أغلقت فيها المجلات العريقة، ونزوى تواصل الصدور دون توقف، عبرتها تجارب عربية في التأسيس بدءا من ضياء العزاوي الذي خططها وعبده جبيرل، الرجل العجوز، صاحب القلب الطيب الذي تولى تحريرها والسينمائي بندر عبد الحميد وطالب المعمري واشرف ابو اليزيد ومحمد اليحيائي وبدر النعماني الذي ساهم في إخراجها وفي تصوير مفاصل نزوى، المدينة، في أول استطلاع اشتغل عليه اليحيائي بروح التفاصيل المعرفية وآخرين من العمانيين والعرب الذين ساهموا في هذا التكوين الأولي.

الكاتب حمد الصبحي

الكاتب حمد الصبحي

الآن وبعد هذا العمر وبعد مائة عدد، هل ستصمد نزوى وسط زحف العيون إلى العالم الرقمي المخيف الذي ينذر بإغلاق الحياة وتفاصيلها الحميمية، من صحافة يومية ومجلات ثقافية ومسارح وابوبرا واذاعات وتلفزة، هل ستصمد مع هذا الزحف الكاسر ومع الأزمات المالية المثقلة بالتركات والقسمة ألا محدودة، هل ستصمد بعد إن كانت مزحة في شمس لندن، أم ستموت هذه الشمس، وحتى لا نقول ” استمتعوا بهواتفكم الكريهة”، هذا مايفترض أن تجيب عليه أمسية “هوم لاند” ،هذا المقهى الكبير في أفقه كقلب صاحبه حمود الشكيلي، المهجوس بأن تكون “المعبيلة” محيطا ثقافيا ومعرفيا، آملين بأن تطبع تفاصيل هذه الأمسية في صحافتنا اليومية قبل أن تغرب وترحل.”

أردت إيراد الأسئلة والاقتباسات وبعض من ملامح الذكريات ، كي أستعيد معكم الرحلة التي ولدت مختلفة.

قبل أن يطوي القرن العشرون أوراقه، وبالتحديد في نوفمبر 1999، كتبتُ في مجلة نزوى”تستكمل مسيرة نزوى: المجلة /المشروع الثقافي ، بإصدار كتاب نزوى. وتأتي أهمية هذا الاصدار الجديد لكونه خطوة في طريق النشر الثقافي بالسلطنة ، والذي كان قبل صدور هذا الكتاب مجرد محاولات فردية، فلم تكرس دار نشر خاصة أو عامة لمثل هذه المحاولات الجادة، ربما استسهالا للنشر خارج عمان عبر دور النشر المتحققة في مصر ولبنان وغيرهما.

لكن مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والاعلان تطرح هذا المشروع الجديد لتدشن توجها فعالا يؤمن بأهمية الاصدار الثقافي – بداية – مثلما يؤكد قدرة المؤسسة على توصيل رسالتها الحضارية خارج الحدود، ولاشك أن نجاح مجلة نزوى وصداها كانا أهم الدوافع وراء هذا الاصدار الجديد.

حوار الأمكنة والوجوه، العدد الأول من هذه السلسلة هو جمَّاع نصوص ومقالات نقدية للشاعر سيف الرحبي ، نشر معظمها افتتاحيات خلال الأعداد العشرين لمجلة نزوى، عدا بعض المساهمات الأخرى التي ترفد نهرا نقديا يساهم في تأصيل تناول الواقع الثقافي والأدبي في السلطنة والعالم. هكذا تتنوع موضوعات الكتاب بين تناول المكان وأبعاده ، والابداع واتجاهاته والشخوص ومشاهدهم.

ويرى قاريء الكتاب في خاتمته إشارة لبعض عناوين الأعداد القادمة: ترجمة الاستعارة: دراسة للباحث عبدالله الحراصي، مغامرات عماني في أدغال افريقيا وهي ترجمة السيرة الذاتية لحميد الموجبي قام بها عن السواحيلية مستعينا بالمصدر الانجليزي الباحث محمد المحروقي. أما الشاعر طالب المعمري فيقدم في السلسلة ديوانه الثاني: مقاطع بيضاء للصمت ، ويقدم أشرف أبواليزيد دراسة عن الحركة التشكيلية في عمان (عنوان أولي)، ولتكن تلك الاصدارات نبتة تساهم في غرس مساحات ممكنة لتفعيل دور المجلة /المؤسسة / السلطنة الحضاري في المنطقة.”

بالطبع مع سفري، لم يصدر الكتاب الذي كنت أعتزم استكماله، ولا أعلم مصير الكتب الأخرى، لكن بقيت السلسلة، التي أفخر بتصميمها الأول، فقد كان يحمل بساطة ورشاقة وقوة تعكس المحتوى، وتبعد عن الثرثرة في الأغلفة التي كانت متداولة. كنت معروفا كمخرج، ومحرر، وقد رشحني سيف لتقديم كتاب عُمان، الذي تقدمه وزارة الإعلام سنويا،  فتعاقدت مع المؤسسة، لتحرير وتصميم كتاب عمان 2000 ، وكان ذلك قبل سفري من مسقط لآخر مرة، قبل نحو العقدين. وقد زرت السلطنة بعد ذلك بسنوات، لكني لم أزر مسقط،  فقد كانت الرحلة إلى صلالة مباشرة،  حيث تحتفل ظفار بالخريف البديع، واستضافني التليفزيون العماني، آنذاك.

نزوى بوك

في العدد التاسع، يفتتح سيف الرحبي العام 1997، والمجلة، بنص لا أجده إلا مرآة لعزلة الشاعر والمجلة نفسها، حتى بعد رببع قرن، بعنوان (يدٌ في آخر العالم):

“يد وحيدة تلوّح في البعيد

وحيدة من غير مسافرين

ولاأرصفة أو قطارات

يد وحيدة جاثمة بوحشتها

 تلوح في ليل الأجداث

وحيدة في غيمها الجريح

يد الشاعر أو القرصان

أو بائع اليانصيب

 وحيدة تحتفي بقدوم الغرقى

من محيط الهند

أو البحر العربي

محمولين على محفة طائر

يد نحيلة في غسقها الاستوائي

تحلم باجتياز المضيق

بالهند

الفاكهة وملامسة الرعد

يد الغرباء الذين قدموا من بلاد مجهولة

وطفقوا يسردون الحكايات

يد اليأس والندم

والمحبة

تلوح في البعيد

نحو جزر مستحيلة

ومد ائن، لم يبق من أرومتها

غير طعم الغياب

تمنحني مساءاتها الثقيلة ووجوهها

وتمنحني قهوة الصباح.

يد الهذيان الذي تجرفني وديانه

كل ليلة على أبواب الربع الخالي”.

هكذا كان سيف الرحبي، وربما لا يزال، يلوح باليد الوحيدة، تحمل في هذه المرة عددا جديدا من (نزوى)، احتفالا بمائة عدد من العزلة، فالمجلة تشبه الجزيرة التي اتسعت جغرافيا وديموغرافيا عبر ربع قرن، ولكن لا يزال كثيرون يفضلون الغرق عن اللجوء إليها، وهي التي تزداد شبابا وعنادا وجرأة واخضرارا بمضي السنوات.

79325293_975903682788570_9067518479820652544_n

عدسة الفنان هلال البادي، المصدر: صفحة القاص سليمان المعمري

عدسة الفنان هلال البادي، المصدر: صفحة القاص سليمان المعمري

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات