برامج كوميديا الرعب في رمضان: إفلاس فكري أم تعبير عن الواقع؟

04:57 مساءً الأربعاء 13 مايو 2020
صلاح سليمان

صلاح سليمان

صحافي وكاتب ورحالة من مصر، يقيم في ألمانيا

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
كاتب المقال : صلاح سليمان

كاتب المقال : صلاح سليمان

باتت ثقافة الموت والخوف جزءً من حياة الناس في العالم العربي، نتيجة لبيئة الحروب والصراعات التي تشهدها المنطقة ، حتى أنها أصبحت السمة الرئيسية التي ميزت الكثير من برامج رمضان لهذا العام في كثير من القنوات الفضائية العربية لاسيما المصرية.

كل البرامج والدراما الرمضانية حملت سمات الرعب والموت والخوف والقتل، حتى البرامج الفكاهية التي تسعى لإضحاك الناس لم تسلم من ذلك العنف، مثلا برنامج ” رامز مجنون رسمي” هو برنامج تقوم فكرته على محاولة إضحاك الناس بممارسة تعذيب الضحية، قد لإيكون التعذيب فعليا، لكن الفكرة في حد ذاتها أن تبحث عن حيلة التعذيب للإضحاك هي فكرة مخيفة ومرعبة ، فاي نوع من البشر هذا الذي سيضحك علي صراخ الضحية وهو يتوجع ويتأوه من التعذيب.

إن فكرة الاحتيال علي الضحية بالعنف فكرة بائسة، وغير ناضجة فنيا ولا مهنيا، وتؤكد أن هناك فقرا كبير في أبداع الكوميديا  المعاصر، علاوة على ذلك كل البرامج المضحكة الأخرى، مثل برنامج حد فاهم حاجة، وبرنامج فيفي عبده وهو أتفه البرامج الكوميدية على الإطلاق، صراخ، وعراك، وصفع بالأيدي، أما برنامج “كريزي تاكسي” رغم وجاهة الفكرة التي يحاول مقدم البرنامج أن يتقمص فيها أدوار أشخاص من واقع المجتمع المصري،  إلا أنه أيضا يحاول استفزاز الضحية عن طريق الاشتباك باليد.

رامز مجنون رسمي: بؤس كوميديا الرعب

رامز مجنون رسمي: بؤس كوميديا الرعب

للأسف إن أي محاولة للإضحاك على حساب مشاعر الخوف والرعب التي يبذل المقدم فيها جهدا باستخدمه أسلوب الوقاحة لإثارة الضحية هي فاشلة، لأن استخدام الذكاء في نصب الفخاخ حول الضحية هي الأجمل، أما تغييب العقل في خلق محاورة مضحكة بين المقدم والضيف على غرار ما نشاهده في القنوات الأوربية فهو أمر مهين .

 لكن لماذا تشترك كل الكوميديا في هذا العنف المبتذل ؟ ولماذا الإصرار عليها رغم كل الانتقادات التي وجهت لتلك البرامج؟

لا شك أن خلفية كل هذا العنف الذي نراه ما هو إلا انعكاس للواقع اليومي لحياة الإنسان العربي، فالعنف و الموت يشكلان لوحة يومية في حياته، ألوانها مخضبة بدماء  الحروب التي لاتتوقف، وأجساد ضحاياها المشوهة من جراء التعذيب بأسواط الجلادين في السجون والمعتقلات. لوحة أبدع كل الطغاة، وقساة القلوب، ومنعدمي الضمير، في تشكيل تقاطعات خطوطها، فزادوا من قتامتها وبشاعتها. فانعكس ذلك فعليا على حياة الإنسان وفنونه وأحلامه وصناعته وتجارته.

أتذكر أنني شاهدت معرضا فنيا في ميونيخ عن أفغانستان، ورأيت كيف أثرت الحرب في وجدان  الفنانين  الأفغان، فجاءت كل  فنونهم  تحمل صور للحرب، حتى أن السجاد الأفغاني المعروف كان يحمل صور دبابات وبنادق ، وكل لعب الأطفال الفنية كانت عبارة عن مسدسات وآليات عسكرية.

وكنت شاهدت أيضا معرضا لرسومات أطفال سوريا وفلسطين، وكانت كلها أيضا عن طائرات تقصف مدن من الجو، وعربات إسعاف، وقوارب اللاجئين في عرض البحر.

إن هذه الفنون المرتبطة بالموت تذكرنا بمشاهد فنون الموت في العصور الوسطى في أوروبا، والتي ولدت من رحم الحروب، والنزاعات الطائفية الدينية، والأمراض والأوبئة التي فتكت بملايين البشر وقتها، واستمرت مرتبطة بحياة الناس حتى عام 1770 .

The Dance of Death in the Chapel of St. Mang Monastery in Füssen impresses with 20 individual scenes painted in pairs on wooden panels in Tempera (total size 516 x 344 cm). In 1602 the Allgäu painter Jakob Hiebeler was commissioned to restore and furnish this funeral chapel.

The Dance of Death in the Chapel of St. Mang Monastery in Füssen impresses with 20 individual scenes painted in pairs on wooden panels in Tempera (total size 516 x 344 cm). In 1602 the Allgäu painter Jakob Hiebeler was commissioned to restore and furnish this funeral chapel.

أحد أشهر اللوحات المعبرة عن تلك المرحلة هي لوحة “رقصة الموت ” الموجودة في دير “مانج” في ولاية بافاريا،  والتي رسمها الفنان الألماني جاكوب هيبلر في سنة 1602 بطلب من رئيس الرهبان في دير “مانج” آنذاك، واللوحة مقسمة إلى 20 قسما في كل قسم منها صورة للموت الذي يجسده هيكل عظمي وقد أمسك بيده شخص من شرائح المجتمع المختلفة، يرقص معه، مستدرجاً إياه ليترك الحياة الدنيا ويرحل معه إلى النهاية المحتومة،
فيها أيضا صورة الهيكل العظمي وهو يرقص مع البابا، ثم أحد القياصرة، ورجل أرستقراطي، وآخر من عامة الشعب ثم طفل وأمه حتى نصل إلى رئيس الرهبان في الدير.

 فكرة هذه اللوحة جاءت من كثرة أعداد الموتى في ذلك الوقت، وكان الهدف منها هو الإيحاء بأن الموت رفيق الإنسان ، ويجب عدم الخوف أو الذعر منه بعد أن فتك بملايين الأوروبيين من جراء الحروب والأمراض والفقر.

كانت هذه الفترة من التاريخ الألماني قد امتلأت بلوحات الموت التي تشكلها الهياكل العظمية الموضوعة في توابيت خشبية، وكانت تعتبر كذلك ذكرى للموتى وللفناء الإنساني، وبأن الموت لا ينفصل عن الحياة.

في بداية القرن التاسع عشر كانت فنون الموت قد توقفت، ويمكن رصد ذلك في كثير من اللوحات التي رسمت في تلك الفترة، فقد اختفي منها تماما موضوع الموت، و ابتعد عن حياة الإنسان، أما على صعيد الحياة اليومية  فقد فقدأهميته أيضاً، فصحة الإنسان بدأت في التحسن بفضل التقدم في علوم الطب واكتشاف الكثير من العقاقير التي نجحت في شفاء الكثير من الأمراض، ومن ثم بدأ متوسط عمر الإنسان الأوروبي في الارتفاع.

عودة الموت إلى الفنون مجددا في الوقت الحالي  لا تخطئه العين ، وكل هذه البرامج التي نشاهدها ما هي إلا ترجمة حقيقة لشعور الإنسان الخائف المرعوب ، فهناك من يصرون على وضع فيديوهات مرعبة على اليوتيوب، لأعمال قتل أو انتحار مرعب، وهناك أفلام داعش التي تفننت فيها وفي تصوير القتل والإعدامات لبث الرعب في النفوس ، وليس ببعيد حرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة أمام الكاميرا.

حتى هنا في ألمانيا فإن الحركة الفنية تحاول مجددا أن تعيد فن الموت إلى الساحة الفنية، فمثلا نرى أن الفنان الألماني جريجور شنايدر يعتزم تصوير إنسان يلفظ أنفاسه الأخيرة في غرفة خاصة قام هو بتصميمها، من أجل أن تصبح فكرة الموت عادية وتخرج من المحرمات في ظل الصرعات العالمية المحتدمة والهجرة غير الشرعية عبر البحار وآلالاف الأموات من جرائها يوميا.

 لا أحد يعرف إلى أي مدى يمكن أن يتطور هذا الفن في عالمنا العربي، لكن بات من المؤكد أنه أصبح جزءا من حياة الناس كما كان في وقت الإغريق، والرومان في الصور الوسطى . ومن المؤكد أن محنة كورونا ستضيف فصلا جديدا من فصول الخوف والموت إلى فنون الرعب الإنساني وكأننا في سباق مع الزمن للعودة إلى العصور الوسطى!!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات