حكايات شهرزاد الكورية: كنائس وموتيلات … بوابات وأسواق

04:23 مساءً الأربعاء 12 ديسمبر 2012
إيناس العباسي

إيناس العباسي

شاعرة وكاتبة وصحفية من الجمهورية التونسية، مقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كنائس…وموتيلات

  صوت ما  يتسلل لرحم حلمي الضبابي…صوت أجراس يتسلل في موسيقى  ناعمة…أفتح عينيّ بفضول نهم للاكتشاف …يمتد صوت الأجراس الذي أيقظني لدقائق…وبعذوبة الحنين إلى شيء مجهول، بعيد وغامض…أندفع للنافذة وأفتحها…بعد ليلة أولى باردة (لم أكن وقتها أعلم بوجود نظام التدفئة الأرضي التقليدي، في المباني الحديثة) أتطلع من الطابق السابع لسماء نصف متجهمة-نصف مبتسمة….متتبعة الموسيقى الأخيرة للأجراس، التقطت عينيّ الكنيسة الكبيرة نسبيا وقريبة من المبنى مسافة نصف شارع…أتأمل المشهد من عل: طلبة مسرعون وأناس مجهولون يمضون بسرعة باتجاه حياتهم اليومية ومشاغلهم وتفاصيلهم التي لا أستطيع أن أكون جزءا منها …تلتقط عيني لافتة مبنى كُتب عليها  Amour(حب بالفرنسية)…سأرى بعد أيام على واجهة المبنى كلمة “موتيل” بخط أصغر…

حقائبي مازالت بعد على الأرض، نصف مفتوحة، علبة المريميّة عالقة بين الحقيبة والأرض ومن الجانب الآخر تطل أطراف من كيس القهوة التي نسميها في تونس “قهوة عربي” ( “قهوة تركية”) لتشكل مؤونة لي لأنني أعرف مسبقا أنهم في كوريا، لا يعرفونها البتة…

أتطلع في البيت بغرفتيه ثم أتجه للنافذة من جديد…أتطلع في المباني القريبة وأسأل نفسي: “لكن ماذا أفعل هنا؟ بعيدا في أقاصي الأرض…” وضيق خفي يكبلني: “ماذا لو أشعر بأنني سجينة في كوريا، ستة أشهر مدة طويلة وماذا إن تلاشى  شعوري بفرح المغامرة وببهجة اكتشاف أرض جديدة، وتحول إلى شعور بالندم؟” …

سأستيقظ كثيرا في ما بعد على موسيقى أجراس الكنيسة نفسها…وسأُشرع نافذتي على المشهد الصباحي ذاته مع تنويعات مختلفة: صباح بسماء متجهمة حد المطر العنيفة أو سماء مبتسمة بشمس حادة الأشعة…وسأسأل نفسي الكثير من الأسئلة وسأبتسم وسأختنق اشتياقا عند نفس النافذة وسأنجح وأخفق على حد سواء بارجاء التفكير في مستقبلي وحياتي بعد الستة الأشهر…لكنني في ذلك الصباح الأول لم أضع وقتي في التفكير: لقد كانت سيول خارجا في ارتقابي تهدر بالحياة…

وفي كوريا، سواء في سيول أو في مدن أخرى، قد لا تلتقط عين الغريب منذ الوهلة الأولى العدد الهائل للكنائس الصغيرة والمتقاربة .. لكنه إذا ما نظر من سطح بناية سينتبه لوجود العديد من الكنائس المتجاورة وفي نفس المنطقة…تفصل بين الكنيسة والأخرى، كنيسة ثالثة…. كلها متكونة من مباني صغيرة بحيث تشعرك بأنها بُنيت على عجل …

والمسيحية دين دخيل على كوريا…عمرها الكوري بالكاد تجاوز الربع قرن ببضعة سنوات…وأكثر من مرة تستوقفني احداهن وبلغة انكليزية ممتازة تبدأ في الحديث معي عن السيد المسيح والجنة، محاولة اقناعي باعتناق المسيحية…حجج كثيرة ما أجبت عنها بأننا في الاسلام نؤمن بالسيد المسيح وأنني لا أحتاج لتغيير ديني كي أثبت ذلك…

وإن كان تفسير كثرة الكنائس هو حداثة المسيحية في كوريا فتفسير كثرة الموتيلات في كوريا مختلف تماما…هي المتنفس الوحيد للعشاق الهاربين من نظرات مجتمع محافظ لا يقبل بالعلاقات الجسدية قبل الزواج…

والموتيلات منتشرة  بكثرة في سيول وفي بقية المدن الكورية …حتى اننا دأبنا نحن المشاركون على القول أن بين الكنيسة والثانية موتيل والعكس بالعكس…

“موتيلات” صغيرة …بتصميماتها البنائية بسيطة جدا… تبدو هي أيضا وكأنها بُنيت على عجل، لإرضاء عشاق ….مستعجلين!

بوابات و أسواق

في الأيام الأولى، قبل أن يبدأ برنامجنا المشترك، أمشي في الطرقات  القريبة من السكن…أترك خطواتي تأخذني دون هدف …أدخل الأسواق الشعبية القريبة محاولة أن لا أضيع والكتابة على اللافتات مجرد أشكال مبهمة…لا أستطيع فكها…ولن يفيدني سؤال الناس في الشارع…فلا أحد يجيد غير الكورية…لن تفيدني سوى الاشارات…أتأمل الوجوه من حولي…أحاول التقاط الاختلاف فيها…

خضار وغلال وعربات أكلات سريعة على الأرصفة، وعلى جانبي الطريق…أدخل للسوق…تحيط بي رائحة جديدة وغامضة …

أتأمل سيدات السوق: ملكاته اللاتي تٌدرنه بسلطة خفية، تدرنه من وراء بضائعن المعروضة أمام محلاتهن المزدحمة بالبضائع…أو جالسات على الأرض منغمسات في تقشير حبات الثوم ووضعها في أكياس بلاستيكية للبيع… منهمكات تماما، بالكاد ترفعن رؤوسهن وأخريات تنظفن الفلفل الأحمر بصبر مرتديات قفازات بلاستيكية..أخريات تجهزن أشياء مختلفة للتجفيف: حبات فطر، سمك وبحريات بمختلف الأحجام …أدقق النظر في سمك صغير يكاد لا يُلتقط الا بملقط خاص، أوراق نباتات مغمسة في ماء قوارير بلورية ..والفلفل الأحمر المعلق في شرائط  يلوح مثل زينة خاصة بالمكان… خضار وغلال ولحم طازج وأكياس توابل وكستناء وأكياس من “البي يُو” -النبتة البحرية-  الداكنة الخضرة والثرية بالأملاح المعدنية والخفيفة حد الهشاشة، يٌلف فيها الأرز عند اعداد  أكلة “الكنباب” وتستعمل في أكلات أخرى…

 في الصيف سيتصدرالعنب المشهد اليومي، بنفسجيا حد السواد ومتخمرا حتى تكاد تعتقد أن مذاقه متغير والباعة ينادون على بضائعهم دون توقف وكعك الأرز الملون معروض في الشوارع وفي المحلات…و الباعة ينتظرونك عند البوابات الخارجية لمحطات الميترو القريبة، عارضين غلال الموسم أو أشياء أخرى كالمطريات والدفاترو الجرابات والقبعات…

وفي الأسواق تلوح حبات اللفت كبيرة الحجم بطريقة مدهشة والخضار نفسها مختلفة …خضار ونباتات لا أعرفها…أقول ربما كان هذا بقدونس لكنني أكتشف مذاقا آخر..وجذور نباتات لا أعرف اسمها، تُستعمل كثيرا في حساء بالكاد يُوضع فيه قليل من البصل مع لمسة خفيفة من الملح والتابل والكثير من الجذور. والجذور نفسها تُستعمل كثيرا في الصلصات الثقيلة والحارة التي ترافق بعض الأكلات البحريات…

والبائعات وراء صناديق البضائع يتحدثن في ما بينهن بأصوات عالية، لايغطين أفواههن حين يضحكن ولايدعين الحياء مثل ما تفعل الشابات الكوريات…

و مع الوقت، تبدوالرائحة أكثر ألفة: تداخل روائح الكيمتشي واللحم الطازج المقطع المعروض وراحة أفترض أنها رائحة السمك المجفف، وتتموج بين كل هذه الروائح رائحة خافتة…أتتبعها متذكرة رائحة بيتنا في الصيف في تونس، متذكرة أمي تجمع مكونات “التابل والكروية” (لن أعرف أبدا ماهو الكروية بالعربية لأنني لم أساعد أمي يوما في تنقيتها وتنظيفها) تنقيها وتغسلها وتعرضها للشمس على السطح …في أيام اغسطس غالبا ثم ترسلها في مابعد للطاحونة…أتتبع الرائحة ببطء لأصل أمام محل صغير أين توجد آلات قديمة تصدر سمفونية متداخلة من الأصوات…كانت مطحنة صغيرة في قلب السوق، تنبعث منها رائحة قوية: رائحة التابل المطحون وروائح أخرى أعجز عن تحديد مصادرها….أواصل طريقي صعودا…باعة الأدوات المنزلية اليومية من الفخار ومن البلاستيك.ثم مجددا السمك المجفف والتمر الكوري المجفف بالكاد أتبين أنه تمر…يُستعمل للتتبيل في بعض الأكلات ومذاقه يفتقد لحلاوة التمر العربي…

ولسيول أربعة بوابات كبيرة، تفتخر بها كوريا ضمن ارثها التاريخي…بُنيت منذ عصور لحماية المدينة من أخطار الغزاة، أجملها البوابة الجنوبية “سونغنييمون” ويطلق عليها “نامدامون” أيضا لأنها تقع في منطقة “نامدامون” وهي منطقة حية كثيرة فيها حركة المارة وفيها سوق” نامدامون شيجانغ” الكبيرة والشهيرة …ولأن البوابة تقع في قلب شارع رئيس ومحاطة بالمباني الشاهقة فهي وبشكل ما تجمع بين التراث والحداثة مما يجعلها الرمز الأصيل والأقرب للمجتمع الكوري…مجتمع محافظ ومنفتح في نفس الوقت، في تركيبة يصعب وصفها، لا تستطيع إلا أن تلامسها إلا إذا عشت قريبا من المجتمع الكوري لأكثر من شهر…

ويتجلى جمال “نامدامون” أكثر في الليل…حيث تبدو شامخة بكل جمالها وأصالتها في حين تنعكس عليها أضواء السيارات المسرعة مانحة إياها لمسة حداثة تكميلية في مشهد جميل …لكن نفس هذه البوابة المصنوعة من الخشب، خلّفت حرقة كبيرة لم تنطفىء بعد في قلب كل الكوريين…فهذا الكنز الوطني الثمين والكبير والقديم والذي شُيد سنة 1398، أحرقه في لحظة غضب كوري اسمه”تشاي”…لأنه خسر أمواله وبيته ورغم التماسه تعويضا من الحكومة إلا أنه لم يتلق أي معونة …”تشاي” الذي اعتذر رسميا في ما بعد من الشعب الكوري ترك في قلبهم نارا لم تنطفىء رغم أن البوابة قيد الترميم (ربما انتهوا من ترميمها حاليا). مررنا منها الكثير من المرات إلا أن العاملين فيها كانوا لا يتركونها مكشوفة أبدا، ملقين عليها بغطاء ثقيل وداكن اللون…

بالإضافة إلى “نامدامون” هناك بوابة “دونجدامون “…المعروفة بأسواق الملابس الكبيرة وبملعبها الرياضي الكبير. أماالبوابة الشرقية “تونغدامون ” فتقع جنب سوق “تونغدامون” المتمثل في سلسلة من المحلات الصغيرة التي تستقطب الكثير من السياح… بنيت “تونغدامون ” أول مرة سنة 1398 في بداية مملكة “يي” …وأعيد تجديدها بعد انتهاء الحرب الكورية سنة 1958. أما البوابة الرابعة فتحمل اسم “كيونغبوكونغ” وهي متصلة بالحائط المسور للقصر الملكي التاريخي “كوانغوامون”…

“كيونغبوكونغ” أعيد بناءها مؤخرا أيضا…حتى أنني لم أسطع رؤيتها عن قرب حين زرت القصر ومنها يمكن العبور للمتحف الوطني الكوري …الذي قمنا بزيارته في اطار “الأسبوع التوجيهي” الذي نظمه مكتب الcpi   في بداية البرنامج..ويوجد قبالة البوابة شارع “سيجونغ” الشهير أين تقع السفارتين الأمريكية والبريطانية ومبنى “كيوبو” الشهير بمكتبة “كيوبو” (المتنوعة والمعروفة بالكتب الأجنبية)  ومبنى الأوبرا، بالإضافة إلى العديد من الوزارات الكورية…

وقصر”كوانغوامون” الذي قضيت فيه أكثر من ثلاثة ساعات، حاملة معي دليلا صوتيا على شكل مسجل متعدد اللغات يقدم شرحا تفصيليا وتاريخيا حول المكان…استمعت له بضعة  دقائق ثم أغلقته وتركت لنفسي حرية  اكتشاف المكان ولعيني حرية التطلع في النقوش على جدران القاعات والمنمنمات الملونة في أسقفها…متطلعة في التماثيل الصغيرة المثبته على السطح القرميدي تماثيل حيوانات فاغرة أفواهها…

والقصر كبير ممتد لا ينتهي…القاعات الداخلية تأخذك لقاعات أخرى.. وما يبدو طريق عودة لنقطة البداية قد يلتف بك إلى قاعات أخرى.. و ترتيب البناء لا يعرف منطقه إلا الذين صمموا وبنوا القصر….والبنايات الحديثة للمدينة تطل من علوها على القصر مطوقة اياه بلمسة من الحداثة تتناقض مع عراقته….

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات