مدن الحرير ودروبه: «السُلطانية»… مدينة ملوكية جديدة تنافس كُبريات مدن الحرير

07:52 صباحًا الجمعة 4 سبتمبر 2020
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

2B71E906-F517-4B18-986F-392586B9B569

شهدت الخريطة الجغرافية والتجارية في القرن الثالث عشر الميلادي تحولات كثيرة؛ نتجت عن ميلاد مدن جديدة واعدة وأفول مدن أخرى. وكان القاسم المشترك بين هذه الأحداث هو إعادة تشكيل النفوذ السياسي والأمني في آسيا الوسطى وشمال بلاد فارس والعراق إثر سيطرة المغول على هذه البقاع. الأمر الذي كان له مردود قوي على طرق التجارة الدولية وتحديدًا طريق الحرير البري ودروبه المتفرعة والمتوغلة في بلدان كثيرة. فبعد أن هدأت وطأة الحروب، وضجيج المعارك، وتبلورت الدول السياسية المغولية التي آل إليها إرث جنكيز خان وحفيده هولاكو وتوطدت أركان دولتهم؛ أخذت حركة التجارة الدولية دورها مرة أخرى في النشاط والاستمرار؛ فظهرت العقبات وتجسدت الخسائر أمام أعين التجار وقوافلهم، فهنا كانت مدينة مهمة لم تعد الآن تلبي حاجتهم في المبيت والاستراحة والتزود لمواصلة الرحلة. فاستمرارية الحياة لن تسمح لهذه القوافل أن تقف طويلاً منتظرة تعافي المدنالمنكوبة من جديد. فسرعان ما اتجهت القوافل يمينًا ويسارًا بحثًا عن البديل .. مدن جديدة تلبي احتياجاتهم في تلك المناطق التي هجرها أهلها إلا قليل، عوضًا عن المدن التي تحولت من مركز تجاري وسوق رائج بضاعته إلى مدن محلية فقيرة لا رواج فيها لبضاعتهم ولا مبيت لهم فيها. ولعل في «أُترار» و«الري» شواهد كثيرة على مآلات بعض المدن التي لم تتمكن من ألتقاط أنفاسها مرة أخرى على طريق الحرير.

381A006E-83E3-48D6-B2A4-744F691B8649

ومحطة اليوم على طريق الحرير موضع جدل ونقاش؛ ففي إحدى المرات أثناء نقاش علمي ثري جمعني بالأستاذة جابرييل فان بيرج (أستاذة التاريخ والتراث في آسيا الوسطى وإيران بجامعة ليدن بهولندا) حول التحولات التي شهدتها هذه المنطقة وانعكاساتها على عمران وعمارة مدن الحرير؛ تطرقنا إلى أمر هذه المدن الجديدة التي انضمت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين في صفوف مدن الحرير. فاكتسبت مكانة مميزة سريعة جعل لها اسم متداول دوليًّا. بعض هذه المدن كانت مدن قائمة بالفعل وعلى مقربة من المدن التي أفل نجمها والبعض الآخر تأسست وشُيِدَت لتكون محطة تجارية مهمة على طريق الحرير؛ ومنها محطتنا اليوم في مدينة «سُلطانية».

«سُلطانية»؛ مدينة أسسها المغول الإيلخانيين في شمال فارس/ إيران على الطريق التجاري الدولي الرابط بين قزوين وتبريز. واتخذها السلطان محمد أولجايتوخدابنده عاصمة لدولته في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي/ الثامن الهجري. وانتقلت عاصمة الدولة من مدينة «تبريز» صاحبة المكانة التاريخية إلى «سُلطانية» تلك المدينة الوليدة التي تحبو في أولى خطواتها على طرق التجارة الدولية؛ لتجد نفسها أمام منافسة قوية واختبار حقيقي لأهميتها المحلية ومكانتها الدولية.

وهنا كان النقاش والجدل العلمي القيم الذي دار بيني وبين دكتورة جابرييل؛حول مدى صحة موقع المدينة الجديدة «سُلطانية» على طريق الحرير البري؟! وكانت شرارة هذه التساؤلات والبحث المستفيض حولها؛ هو المعرض الفوتوغرافي الذي نُظم في جامعة ليدن بهولندا في سبتمبر 2019 حول مدن الحرير من خلال توثيقها بمجموعات أرشيفية من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية التذكارية. وتم تضمين مدينة «سُلطانية» كواحدة من محطات طريق الحرير في القرن الرابع عشر الميلادي! والسؤال هو: هل شُيدت «سُلطانية» لتكون محطة على طريق الحرير؟ أم أن طريق الحرير هو من سعى جاهدًا لضمها إلى مدنه؟

5DB04C63-5208-4E91-9237-7D3A6ABFF06B

بالرجوع للمصادر التاريخية المعاصرة لبناء المدينة وازدهارها، وتحديدًا لما أورده الكاشاني في «تاريخ أولجايتو» وحافظ آبرو في «زبدة التواريخ»؛ نجد أن أسباب اختيار الموقع لم يكن أساسها هو الطريق التجاري الدولي.. ولكن، ساهم موقع المدينة وجهود أولجايتو ومن بعده أبي سعيد بهادرخان في جعلها محطة تجارية مهمة وذلك عندما توفرت البيئة الملائمة لتحويل المدينة من مدينة يدار منها شئون الدولة والحكم بصفتها مقر الحاكم وحاشيته وقادة جيشه وعلية القوم، ويسكنها كذلك العامة، واجتُذب إليها التجار والحرفيين والعمال ومهرة الصناع، مع وجود بازارت وأماكن مبيت للتجار الرحل، وهي جميعها عوامل تضافرت معًاوساهمت في تحويل المدينة لمحطة تجارية مهمة. ويؤخذ في الاعتبار أيضًا أن المدينة تقع في نقطة مفصلية وموقع متميز في الطريق بين قزوين وتبريز وفي الطريق الواصل بين همدان وأصفهان وقراها. ولكن، لم تكن يومًا في خط سير القوافل التجارية قبل بناء المدينة.

وقف أبواب البر

وقف أبواب البر

من العوامل المهمة أيضًا التي ساهمت في جذب قوافل تجار الحرير؛ عمارة المدينة الجديدة وبهاء مساجدها وبيوتها وأسواقها وحماماتها ومتانة أسوارها. فكانت عامل جذب مهم للوقوف بها والمبيت فيها للتطلع لعمائرها المزدانة والمكسية ببلاطات الخزف الفيروزية الزاهرة والتي تعكس أشعة الشمس اللامعة على مسيرة كيلومترات منها. فإلى اليوم ما زال ضريح السلطان أولجايتو وقبته يبدو بهيًا من مسافة كيلومترات قبل الوصول إلى المدينة. فأصبحت المدينة قبلة الزوار والصناع والحرفيين والتجار، لا سيما وأن السلطان أولجايتو أسس بها «أبواب البر» وهي مؤسسة خدمية مجانية متكاملة، تضم مبانٍ عدة منها «دار ضيافة» يُقدم فيها الطعام بالمجان للمسافرين، وكذلك «دار الشفاء» التي تقدم العلاج والاستشارات الطبية بالمجان. وكان الصرف على هذه المؤسسة من ريع أوقاف عدة أوقفها السلطان للصرف على أبواب البر والمنتفعين بها. وهو تقليد اتبعه من قبل أخيهمحمود غازان خان في ضاحية بالقرب من مدينة تبريز – عاصمة الدولة قبل بناء السلطانية وعندما شرع أولجايتو في بناء المدينة الجديدة التي ستصبح عاصمة مُلكه بعد ذلك اتخذ من أبواب البر نهجًا لجذب العابرين إلى المدينة، ولخدمة أهل المدينة في الوقت نفسه. فتحولت «سُلطانية» من عاصمة محلية لدولة المغول الإيلخانيين إلى قبلة للتجار ومحط قوافلهم في مسيرتهم الطويلة بين المدن والبلاد المختلفة. ونافست سُلطانية مدن كبرى لها جذور عميقة في طريق الحرير كمدينة يزد وتبريز وهمدان وأصبحت محل اهتمام من قبل الحاكم لترتفع مكانتها الدولية سريعًا وتنضم كواحدة من محطات طريق الحرير البري الواعدة والمبشرة بمستقبل جيد.

ولكن.. أتت الرياح بما لا تشتهي سفينة المدينة الوليدة «السُلطانية»؛ لتعصف بها وبطموحات أهلها إلى قاع الاهمال؛ فتدخل سريعًا في مرحلة أفول لنجمها التجاري والدولي إثر وفاة حاكم الدولة السلطان أبي سعيد بهادر خان في عام 736ه 1335م، ويتولى من بعده حكام ضعاف، وتتشرذم الدولة وينشب الصراع بين رجالها؛ ففقدت السلطانية مكانتها الدولية بنفس السرعة التي اكتسبتهابها. وإن كان اجتياح قوات الأمير تيمور لشمال فارس ولمدينة السُلطانية تحديدًا إيذانًا بخراب المدينة وبنيتها التحتية التي مثلت عامل جذب مهم قبل ذلك. فقد عاث ميران شاه الذي تولى إدارة شئون السلطانية بأمر من أبيه الأمير تيمور؛ فسادًا وتخريبًا في المدينة وأبنيتها ومساجدها وأسوارها وأبوابها؛ ففر أهلها هربًا وهجرها الصناع والتجار المحليين. وسرعان ما توقفت غارات الأمير تيمور وأبنائه التدميرية؛ لتجد السُلطانية نفسها مدينة مهترأة تعاني ويلات الهزيمة التي لحقت بها.

رغم ما أصاب المدينة من خراب عمراني جعلها تفقد مكانتها الدولية لصالحمدن أخرى كتبريز ويزد وهمدان؛ إلا أن «السُلطانية» كانت محط الرحالة والجغرافيين والمبعوثين الدبلوماسيين على مدار مئات من السنين التالية لخرابها.وأول من زارها في طريقه إلى «سمرقند»كان المبعوث الإسباني كلافيجو (1401- 1404م) والذي يعد أقدم من وصف المدينة في بدايات طور أفولها، ووصفها بدقة تبين مدى الضرر الذي أصاب المدينة. كما زارها بترو ديلا فيلا في مايو عام 1619م، وهو رحالة إيطالي الجنسية، كتب تقرير عن مدينة السلطانية أشار فيه إلى تهدم أسوار المدينة وانتشار كومات الأطلال حول المدينة بشكل يُرثى له. والزيارة الأهم في وجهة نظري هي زيارة تافيرنير Tavernier(1076ه/ 1665م) في عام 1665م وكتب عنها أنها: «على بعد نصف فرسخ من الطريق الرئيسي، بالقرب من الجبل؛ يوجد مبنى (مسجد) جميل يبدو من أطلاله المطموسة وعناصره المندثرة أنه كان بناء جميل». وتأتي أهمية هذه الزيارة والكلمات المقتضبة التي أوردها تافيرنير هنا إلى إفادتنا بإشارة واضحة بوجود طريق رئيسي (ومن المرجح أنه طريق دولي استخدم كممر آمن للمسافرين وبالتالي للتجار)، ويؤكد أن زيارة مدينة سُلطانية يحتم على المسافر الانحراف عن الطريق الرئيسي لطريق آخر فرعي يصل الزائر/ المسافر بالسُلطانية. ومن الزيارات المهمة أيضًا زيارة شاردين Chardin (1082ه/ 1671م) الذي وصف حال المدينة في عبارات معبرة قائلاً: «تبدو مدينة السلطانية من على بعد مسافة طويلة؛ جميلة جدًا وحسنة البناء، فتولد لدى الزائر الرغبة في أن يتمتع برؤية أكثر قربًا. ولكن عندما يقترب الزائر فالوضع مختلف تمامًا».. رحالة كُثر تعاقبوا على زيارة المدينة وعلى رأسهم باسكال كوست الذي سجلها بقلمه في لوحة معبرة وحزينة .. مؤكدين جميعهم على أن بقايا هذه المدينة وأطلالها تشهد بماضيها القصير والذي كان يُبشر بمستقبل واعد لم يتحقق .. لتخرج «السُلطانية»سريعًا من المنافسة الدولية، وتنحرف عن طريق الحرير وقوافله، تاركة أثر طيب ومبهج أسعد كل من زارها في سنواتها الزاهرة المعدودة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات