مدن الحرير ودروبه: قاشـــــــان …مدينة «البريق» و«الكاشي» المبهجة

09:21 مساءً الأحد 20 سبتمبر 2020
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

سوف تمنحك مدينة «قاشان» تذكرة مجانية لزيارة طريق الحرير في زمن مجده وتألقه في العصور الوسطى.. ففي قاشان؛ مدينة اليوم البهية؛ ستعشعر أن كل شيء على ما هو عليه منذ قرون طويلة.. وكأنها مدينة عصية على تقلبات الزمان وأعاصير التاريخ العاصفة بالبلدان.. فإلى اليوم ما زالت «الكرخانات» تعمل بجد وحماس، والبلاطات الخزفية تُزين الساحات والشوارع.. «بازارها» مازال عامر ومكتظ بالزوار، ورائحة الأكل الزكية تحيط بك في كل مكان؛ الحدائق المورقة وصوت المياة المنهدرة في عمائرها التراثية؛ ترسم لك صورة حية لمدينة تاريخية بامتياز، وتستعيدك في صحبة طيبة تجمعك بمن سبقك بالزيارة لهذه الدرة المكنونة في وسط الدرب الطويل القاحل.

Slide2مدينة استطاعت أن تحتل العالم بفنونها.. فما من متحف دولي أو معرض فني إلا وتردد ذكرها بقوة وفخر. في منزلك أيضًا ستجدها ماثلة أمامك في كسوة من الخزف عُرفت واشتهرت باسم مدينتها «القيشاني». وإن كنا هنا أهل الإسكندرية ولأسباب تاريخية صبغتنا بصبغة زمنها؛ حين نافست فيها بلاد المغرب مدينة قاشان، فالبلاطات الخزفية التي عُرفت في بعض بلدان المغرب باسم «الزليج» وتداولها أهل إسكندرية باسم «الزلزلي». وكان الزلزلي إصطلاحًا محليًّا في مدينة البحر المتوسط، تعرفه الجدات جيدًا وتردد على مسامعنا كثيرًا، قبل أن تعود كلمة «القيشاني» للتداول مرة أخرى لشيوعها.. ولكن، تُهزم بعد ذلك كلٌ من «قاشان» وبلاد المغرب أمام المصطلح الأوروبي «السيراميك» لتكون له السيادة والانتشار، والتداول الدولي إلى اليوم؛ تعبيرًا وإطلاحًّا للكسوات الخزفية التي تُزين الجدران والأرضيات.

Slide5 Slide6«قاشان» أو «كاشان» كما يكتبها أهلها.. مدينة مبهجة تقع في شمال إيران في الطريق الواصل بين طهران وأصفهان، عُرف إنتاجها باسم «الكاشي». وكان «الكاشي» ذو شهرة دولية واسعة؛ ساهم في جعل المدينة واحدة من أهم وأشهر محطات طريق التجارة الدولي آنذاك؛ طريق الحرير. فمن مدينة «قاشان» كانت البلاطات الخزفية تطوف العالم شرقًا وغربًا. ليس لأنها المدينة الوحيدة التي اشتغلت في صناعة الخزف؛ بل لأنها أكثر المدن شهرة، وإنتاجها الأكثر جودة وبريقًا، فأصبح من السهل التعرف على منتاجاتها دون مجهود يُذكر، فما أن تقع عينيك على الكسوات الخزفية بأشكالها وأحجامها المختلفة حتى تحدد بدقة أنها من صنع «قاشان».

ومدينة «قاشان» مثلها مثل المدن التي عانت من رياح الشرق العاتية التي آتت بجحافل المغول في الربع الأول من القرن الثالث عشر الميلادي/ السابع الهجري، وعاثت فيها خرابًا وتدميرًا؛ حتى تردد كثيرًا بين كتابات المؤرخين والدارسين للتاريخ المغولي؛ أن قاشان مدينة هجرها أهلها وصناعها وأُغلقت الكرخانات (ورش صناعة الخزف)، وتوقف الإنتاج الفاخر فيها، واقتصر إنتاجها على أطباق المائدة وأدواتها المحلية أو الشعبية. فإذا بهذه المدينة تفاجئ الباحثين كعادتها بالأدلة المادية التي لا تقبل الشك، بأنها لم تتوقف يومًا، ولم تستطع قوات جنكيز خان أن تقضي على صناعتها وتميزها.. فإذا ببلاطات خزفية مؤرخة، لا يفصلها عن هذا الدمار الذي لحق بها، سوى أعوام قليلة لا تمثل شيء في تاريخ المدن وتطور الصناعات اليدوية.

Slide4امتازت بلاطات «قاشان» بجودتها، وذاع صيت المشتغلين بصناعة الكاشي، إلا أن القرن الثالث عشر الميلادي كان بمثابة نقطة مضيئة في تاريخ المدينة وصناعتها وتألقها دوليًّا. ففي الوقت الذي كانت الأسر والعائلات العريقة في الصنعة، تتنافس بضراوة في هذا المجال، وتعمل جاهدة على حفظ أسرار مهنتها وتميزها وحصرها فقط بين أفراد العائلة فنجد الأب مهنته وحرفته وسره إلى ابنه، واستمر الحال هكذا على مدار أجيال كثيرة. حتى اكتسبت كل أسرة صيتها وأسلوبها. وفي هذا الصدد وصلنا توقيعات كثيرة للمخضرمين في هذه الصنعة، وأصبح توقيعهم بمثابة ختم ضمان لجودة العمل وتفرده. فتنافس رعاة البناء والفنون على بذل أموالهم الطائلة في سبيل الحصول على قطع خزفية من ورش بعينها. وأخذ البنائين يتباهون بأن هذا المسجد أو ذاك يزدان بمحراب خزفي من صنع يد المعلم فلان ومن إنتاج ورشته بقاشان.

Slide3ولكن .. ولحسن حظنا نحن المشتغلين والمهتمين بالعمارة والفنون، وبصناعة الخزف تحديدًا؛ أن فردًا من العائلات المشتغلة بصناعة الكاشي؛ لم يحفظ العهد وذاع السر. هو أبي القاسم عبد الله بن علي بن محمد بن أبي طاهر؛ تاركًا لنا رسالة بالفارسية في صناعة الخزف بعنوان: «عرائس الجواهر ونفائس الأطايب» في 700ه/ 1300-1301م. ليجلي الغموض ويزيح الستار عما كان يحدث داخل كرخانات قاشان، واصفًا بإسهاب آلية الصناعة ومراحلها، بداية من اختيار الطينة الجيدة ولونها وكيفية حرقها وتحضير الأكاسيد المعدنية التي تعطي البلاطات الخزفية بريقها الذهبي، والمينا التي تُطلى بها بعض المنتوجات فتكسبها بريق زجاجي يضوي في العين. لتصبح رسالة أبي القاسم بمثابة رسالة علمية بامتياز توضح معايير ونسب المواد وأماكن جلبها، وكيفية خلطها، والوقت المستغرق في كل مرحلة، وصولاً للمنتجات النهائية في صورتها البهية التي ما زال بعضها قائم في أماكن تثبيته بالمساجد والأضرحة والمدارس في بلاد فارس وآسيا الوسطى، والبعض الآخر أصبح قبلة للزوار في المتاحف الدولية الكبرى. ومنها متحف الفن الإسلامي ببرلين، الذي يحتفظ بواحد من أجمل المحاريب الخزفية الموقع باسم صانعه الحسن بن عربشاه في عام 623ه من إنتاج مدينة قاشان. وكذلك داخل أروقة متحف فكتوريا وألبرت بلندن، والمتروبوليتان بنيويورك… وغيرهم.

وإلى الآن ما زالت مدينة قاشان محافظة على إرثها الفني بجدارة، فقد استطاعت أن تنافس بشرف مدن أخرى لها باع طويل في تاريخ صناعة الخزف وإنتاجه لا سيما في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين؛ كمدينة الري ومدن إقليم مازندران وغيرها من المدن التي لم ولن تبلغ مكانتها. فقاشان تفردت بصبغ الصناعة باسمها لتكون كلمة «القشاني»  بمثابة جواز مرور للبلدان المجاورة القريب منها والبعيد. فإذا كانت المسافة تبعدك اليوم عن مدينة قاشان؛ توجه لأقرب متحف للفن الإسلامي في مدينتك؛ ستجدها في انتظارك.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات