منى السعودي تطوع الحديد والحجر وترفرف مثل منديل الوداع

12:32 مساءً السبت 28 نوفمبر 2020
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 بيروت-اسماعيل فقيه

الفنانة الاردنية منى السعودي تعيش لتنحت، فتجسد الشكل (الخشبي والحجري) كما تراه عينها وكما يسمعه قلبها وروحها. تعيش لتنحت، وتنحت لتعيش. هكذا هي دائماً، كانت وستبقى، وستواصل بناء الشكل واستحداث الهيكل الذي يرضي نبض وعيها. فنانة متميزة الخيال والفعل، تستعمل القوة البدنية والعضلية في سبيل الرهافة والشفافية الفذة. تطوع الصلب حتى يلين ويصير نسمة تدوم وتدوم. تنحت الشكل، تستولده من الحجر، ترسمه بالخشب والحديد، وترفعه الى أعلى الأعلى.- النحت ربما هو عمل شاق وصعب كما تقول، لكنه بالنسبة لمنى هو عمل هادئ ومريح ويساعدها على الراحة والاستراحة.

تقول السعودي: حين اخترت أن أكون نحاتة، اخترت طريقة في الحياة. ولكي تكون نحاتاً، ينبغي أن تكون عاشقاً للأرض وما عليها، وأن تلمس نبضها الحي… النحت لدي هو تجسيد للشعر، قول ما لا يقال، لمس ما لا يُلمس، هو الكلام الصامت، الحركة في السكون، الكشف والسر، الطيران بلا أجنحة، مزج الكوني بالأرضي، إدخال الزمن في المكان. – كيف تبلورت مشاهد انطلاقتك مع الحياة؟ كانت عَمان (العاصمة الأردنية) حيث ولدت عام 1945، مدينة صغيرة نشأت على سفوح سبع تلال، بينها وديان وسيل ماء يتحول نهراً في الشتاء، وجدولاً في الصيف. قيل أنها كانت تُسمّى «ربّة عمّون»، ومن ثم فيلادلفيا في العهد الروماني. ثم هُجرت المدينة في القرن السادس عشر إثر زلزال وأوبئة، وغابت عنها الحياة والبشر، حتى أتاها في نهاية القرن التاسع عشر مهاجرون من الشراكسة وتجار قوافل من سوريا بدأوا يستقرون حول ينابيعها وآثارها المهجورة ويقيمون بيوتهم من طين وحجر…

كنت ابنة عائلة هاجرت من دمشق واستقرت في عمان في ذلك الزمن. كانت اللهجة الشامية هي السائدة في عائلة كبيرة من الأعمام والخالات، عائلة تقليدية متدينة، إلا أنه كان لدي شعور عميق بأنني ابنة الأرض. كنتُ أنمو في حلم آخر، غامض وبعيد. – كيف سطعت الصورة في مخيلة الفنانة النحاتة، وما الذي جذبك الى ما أنت فيه من اهتمام بالشكل والصورة والمشهد؟ كان من حظي أن أذهب باكراً الى مدرسة بعيدة عن البيت، فقد أتاح لي ذلك أن أمشي على قدمي يومياً ذهاباً وإياباً، وكنت أترك الطريق المعبدة وأسلك طرقاً ترابية عبر تلال عمان اللولبية، وكانت سفوح الجبال حقول قمح أحياناً، أو بقايا مقالع قديمة. وكان هذا السير يقربني من الشجر والأرض والحجر، ومن الناس والطبيعة، وكان مسافة للحلم والتأمل.

بدأت أتأمل جسد الأرض، استداراتها، تداخل الوديان والجبال، أشكال الغيم، فجوات الصخور… هذا كله ساهم في تفتّح الوعي المبكر لدي. ثم بدأت أبحث عن منابع الإبداع الإنساني عبر كتب الفن والشعر. كما بدأت أدخل هذا العالم النابض، مع بداية محاولاتي في الرسم وكتابة الشعر. وبدأ الحلم بالسفر الى العالم الكبير، من أجل أن أحيا وأتعلم وأعرف. وكانت باريس مدينة هذا الحلم، وكان لا بد لي أن أكسر تقاليد العائلة وأمضي في طريق الحلم.

 هل شغلتك الأفكار القلقة في بداية تكوُّن وعيك الفني، وماذا تقولين عن هذه الأفكار؟

 في طفولتي شغلتني أسئلة ميتافيزيقية عن الخلق والتكوين، من أين تأتي والى أين تذهب… عرفت الموت باكراً بفقدان أخي فتحي. كان شاباً مولعاً بالأدب والشعر، قرأ لي «نبي» جبران خليل جبران، أخبرني عن احتلال فلسطين، وحكى لي قصة جلجامش. كان هذا الأخ نسيجاً مختلفاً في عائلتنا التقليدية، وكان صديقي. كنت في العاشرة من عمري حين أخذه الموت بعد مرض غامض. حين سمعت بخبر موته في الصباح، غرقت في البكاء ولكنني حين رأيت وجهه مسجى في التابوت الخشبي، وكان مبتسماً كأنه ينام بعمق، عرفت أن الموت تحوّل وليس نهاية فاجعة، بل إنه من نسيج الحياة. تركت المأتم في البيت وخرجت أمشي في شوارع المدينة وسفوح التلال… وكان ذلك أول وعيي بأن الزمن الذي نعيشه هو رحلة ونكون فيها نبضاً فاعلاً، وعلينا أن لا نخاف من المجهول، ونحيا في المغامرة والحلم والحرية

. – هل فتنتك الأعمال الفنية مثل المنحوتات التاريخية الشهيرة وسواها؟

طبعاً. عشت هذا الشعور الكبير. فتنتني المنحوتات منذ طفولتي، وأول ما عرفت منها المنحوتات المبعثرة في ساحة المدرج الروماني في عمان، وكان ملعب طفولتنا. أما بيتنا، فكان جزءاً من الموقع الأثري المسمى «سبيل الحوريات»، الذي كان يشكل بأعمدته المنقوشة وأقواسه وينابيعه ساحة بيتنا الأمامية. لقد عشت طفولتي في مكان أسطوري، بين هذه الحجارة المنحوتة مسحورة بجمالها وديمومتها.

– لك منحوتات يظن من ينظر اليها أنها تتكلم وتتحرك، خصوصاً منحوتاتك «أمومة الأرض»، كيف تفسرين هذا؟

لا شك في أن المنحوتة المستخرجة من جوانية الإحساس لا بد أن تترك أثراً في عين الناظر إليها. أبعد ما أذكره في طفولتي، أنني كنت أذهب مع أمي لزيارة إخوتي في السجن، أحمل سلة فاكهة صغيرة، وأقف لأتحدث معهم من وراء القضبان. كانت أمي تبكي، وتهمس لي أنهم في السجن لأسباب سياسية تتعلق بفلسطين. بعد أشهر قليلة عام 1948، وصلت الى بيتنا عمتي وعائلتها، جاؤوا من غزة، وكانوا يحملون بضعة أكياس فيها حاجات وملابس، عرفت يومها أن الإسرائيليين قد احتلوا فلسطين وطردوا الناس من بيوتهم ووطنهم، وانتشرت مخيمات اللاجئين في أطراف عمان، وكان هذا أول وعي لي بالمأساة الفلسطينية، ومنذ ذلك اليوم تسكن فلسطين في قلبي ومنها ستولد منحوتاتي «أمومة الأرض». – صداقة الحجر كيف يمكنك وصفها؟ عشت أكثر من نصف قرن مع هذا الفن، وما زلت أعيش في كنفه راضية مطمئنة. أحيا لأنحت، وأنحت لأحيا. مسيرة طويلة مثيرة ورائعة ما زالت مستمرة مع النحت. مسيرة صداقتي مع الحجر والنحت. فقد أنجزت خلال هذه المسيرة مئات المنحوتات، لكني ما زلت أشعر بأنني في بداية الطريق وأن مخيلتي مليئة بالتكوينات، وأن الحجارة ما زالت حبلى بأشكال تولد في الأيام المقبلة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات