القضايا الوجودية ومصائر البشر وحياتهم المعيشية
في نصوص السيد إبراهيم المسرحية
المسرح .. ذلك العالم المدهش، المغري والجاذب لكثير من الكتاب، يمثل منطقة إبداعية شائكة، فبالرغم من دخول الكاتب إليه طواعية، وبكامل إرادته وبذائقته الإبداعية الخاصة طمعًا في التحقق الإبداعي، نظراً لأنه على خشبة المسرح تتعانق الفنون لتصنع لمشاهده تلك الحالة الممزوجة بالمتعة والخيال والرسائل المتنوعة، ولكن تظل مقولة كثير من نقاد المسرح الكبار أنه ليس بالضرورة كل كاتب بارع خارجه يكون على نفس قدرته الإبداعية في الكتابة المسرحية، وأن من استطاعوا أن يثبتوا جدارتهم هم هؤلاء الذين يعلمون جيداً كيفية التعامل مع مساحات الممثل المسرحي، الذي يصفه بعض حكماء اليونان بأن الممثل المسرحي العظيم هو ذلك الذي يعتمد على صوت مرن وذاكرة ممتازة، وكما اتفق كثير من النقاد أنه لن يخلد المسرح سوى كاتب ملم بماهية (الحبكة الدرامية، وأبعاد الشخصية، وجودة الفكرة، وإجادته للغة المستخدمة، مع علمه التام بالمنظورات المسرحية).
يلعب الكاتب لعبة الثنائية الفارقة بوضوح، فالنص يقوم على البطولة الثنائية بين اللص “عذرائيل” وصاحب الشقة “مشروع الميت” ، والثنائية الثانية نجدها في الصراع الدرامي القائم على فكرة الحياة والموت، والثنائية الثالثة نجدها في الحديث عن الحي الغني والحي الفقير، وتتبلور الثنائية في طبيعة دور البطل في مسرح العبث بشكل عام، وهي تخليص العالم من الشرور أو وقوع العالم في الشرور ونجد ذلك على لسان اللص، حينا تمني بأن يكون مَلكًا للموت ليخلص العالم من الأشرار أو من الفقراء لرؤيته أن حالهم أكثر بؤسًا من الأشرار، كما يختم النص بنهاية فارقة أيضًا؛ فاللص ينصرف ولكن كلماته عن ملك الموت تتمكن من صاحب الشقة كما يتملكه الخوف وهو ينظر إلى الستارة المتحركة متخيلاَ ملك الموت خلفها فيزداد خوفه وصراخه، ولا تكف الحركة ولا يصمت الصراخ إلا بسقوطه على الأرض في نهاية مفتوحة جيدة.
“العائد الذي ما عاد”..
في هذا النص نجد قدرة الكاتب في الجمع بين أكثر من شكل مسرحي؛ ففيه يجمع بين قسوة وقوة المسرح التسجيلي، وثراء لغة المسرح الشعري بالإضافة لروح الكوميديا الساخرة، وحسب قول “مارجوري بولتون” في كتابها الشهير “تشريح الدراما”، بأن المسرحية ليست في الحقيقة قطعة من الأدب للقراءة وإنما المسرحية الحقيقية أدب يمشي ويتكلم أمام أبصارنا، وهذا كان انطباعي لحظة قراءة هذا النص الماتع، فهو نص سياسي اجتماعي بامتياز، لا يخلو من روح الدعابة الساخرة، رغم جدية الفكرة كونها فكرة تسجيلية لانعكاسات ثورة 25 يناير وتداعياتها في مدينة السويس وتحديدًا في حي الأربعين، إلا أن تمكن الكاتب من عرض عناصر النص المسرحي من (رسم جيد للشخصيات، وتنامي الحبكة الدرامية بمنطقية تتوائم وتتوازى مع إجادته للغة المستخدمة التي وردت على لسان الشخصيات موحية ومعبرة، غير مركزة لدرجة الإلغاز والإبهام، وغير فضفاضة لدرجة الترهل والملل، بل جاءت معبرة بلسان شخصيات العمل غير مفصحة عن شخصية الكاتب، وهنا وجدت قدرة الكاتب في استخدام اللغة فلم أشعر بفكره الشخصي بقدر ما كانت اللغة سلاح ولسان حال أفكار شخصياته داخل العمل، الذين عكسوا الكثير من الرؤى والأفكار المطروحة دون مباشرة متعمدة ، ولكن في دلالات وإشارات من داخل السياق السردي حيث عبر النص عن مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية داخل سياقه السردي منها قضايا (الفساد، إغراق مصر في الديون، الخصخصة، قضية خضوع الصحافة والإعلام للقيادة السياسية في كل مرحلة من مراحل الحكم، كما نجد فكرة تحميل الرئيس السادات مسؤلية اختيار نائبه، وفكرة معاناة أهالي السويس وقت التهجير، وإدانة كثير من الشخصيات التي ظهرت على الفضائيات وقت وبعد أحداث ثورة يناير تحت مسميات الناشط السياسي والمحلل الاستراتيجي والفاهم في الدستور) والمدهش هو طريقة طرح كل هذه القضايا المهمة من خلال السياق المسرحي على ألسنة شخصيات العمل، حيث أجاد الكاتب في رسم ملامحهم الشكلية وبيان تنوعهم الثقافي واختلاف مستويات الحوار على ألسنتهم وتنوع حالاتهم الشعورية وانفعالاتهم النفسية، كما طرح النص المسرحي بذكاء قضية عدم تحديد المسؤوليات وتشعبها وقت الثورة، ونستدل على ذلك من سؤال سناء الأم الحائرة الملهوفة على غياب ابنها بقولها: (ابني عند مين؟! الشرطة، الجيش، الإخوان، البلطجية!”، كما يطرح النص قضية فكرية من أهم القضايا وهي الفجوة الواسعة بين ما يقدمه شيوخ الجوامع على المنابرمن خطب وما يحتاجه الناس من مناقشة أمور دنياهم ، وبصفة عامة من سيطلع علي نص العائد الذي ما عاد سيكتشف الكثير من النقد اللاذع لفترات الحكم في مصر منذ ثورة 52 حتى ثورة 25، سيجد حضورا فاعلاً للشباب داخل العمل، سيجد أربعة من القصائد الشعرية الموظفة توظيفاً جيداً داخل النص، سيجد تحقق وتوفيق من الكاتب واهتمام بفكرة العدالة الاجتماعية أكثر حتي من مسألة الرصد السياسي للقضايا السياسية، سيجد تحقق مدهش لمبدأ مسرحي مهم وهو أن الدراما في وجهها المتكامل لابد أن تتضمن على الفعل والمشاهدة، وقد تحقق لهذا النص تلك الميزة بدرجة كبيرة ليختم بختام موحي ومفتوح أترك للقارئ العزيز فرصة التعرف عليه من خلال قراءة النص المسرحي.
عزة أبو العز
القاهرة 20 نوفمبر 2020
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.