رسمت مكانها الضائع بالشعر؛ الشاعرة صباح خرّاط زوين: قصيدتي هي جغرافية وجودي

10:22 صباحًا السبت 26 ديسمبر 2020
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
(بيروت-من اسماعيل فقيه)

بيروت – اسماعل فقيه:
شاعرة من طراز خاص جدا،كانت صديقتي المقربة الى روحي وزميلتي في الصحافة في جريدة النهار لأكثر من عشرين سنة. توفيت في صيف 2014 بعمر مبكر الى حد ما… وهنا استعرض مقتطفات من حوار قديم لم يُنشر كنت أجريته معها في مدينة مونبيلييه،جنوب فرنسا حيث كنا نتشارك بمهرجان الشعر الأوروبي.
صباح خراط زوين شاعرة بدأت الكتابة بالفرنسية، واصدرت فيها عدة مجموعات ثم كتبت بالعربية، ونقلت او ترجمت اشعارها الفرنسية الى العربية واصدرتها في كتاب بعنوان «بدءًا من. أو، ربما»، وكان صدر لها بالعربية: «كما لو ان خللا او في خلل المكان»، «مازال الوقت ضائعا»، «البيت المائل والوقت والجدران».
تتميز صباح بخصوصية وتفرد في الكتابة، ومفهومها للكتابة نابع من اصرار على «اختراق» السائد للوصول الى مسافة مفتوحة الى ما لا نهاية، وعند هذا الاصرار تبرز تجربة الشاعرة وتتميز، حيث نصوصها مطعمة بالصور والافكار الخاصة والغريبة. للتعرف اكثر على هذه الشخصية التقيت بـ«الشاعرة القلِقة» في حوار تناول التفاصيل والاعماق، وفيما يلي نص الحوار معها:

الشاعرة الراحلة صباح خراط زوين والشاعر زميلنا اسماعيل فقيه .
  • كيف اتيتِ الى الشعر وأين تصنفين حضورك الشعري وخصوصا انك كتبت عدة مجموعات شعرية بالفرنسية؟ كما يأتي الجميع، عبر شعور ملح بحاجة ما الى كتابة قصيدة، ثم قصائد، ثم ديوان، ثم الطبع، ثم التسويق، ثم البدء بالتفكير في كتابة قصيدة اخرى وقصائد غيرها فديوان آخر ثم الطبع ثم التسويق وهكذا دواليك.
    -هكذا فقط؟
    ربما كان علي ان ادخل الشعر من باب آخر، لكني لا اعرف هذا الباب. او بالاحرى دخلت الشعر عبر ما يسمى الشكل، والشكل هاجسي، فالمضامين سهلة أما الاشكال فهاربة منذ ديواني الاول بدأت اقلق على «كيف الكتابة» ومازلت حتى اليوم اسائل الكتابة كيف تريدني ان اكتبها. لم استطع. لم اتوصل. وكأني عجزت عن ايجاد الشكل، اذ كانت الكتابة كل مرة وكأني لم أجدها، لكن الشكل لاح كل مرة، لاح وكدت اهلك، لكن ا لمحاولة انتصار ايضا، فالبحث هو بمثابة الايجاد. عبر هذا القلق دخلت الكتابة. ليست الكتابة سوى محاولة. ربما دخلت الشعر من باب الريبة. دخلت عبر الخوف. الخوف كثير. ملحّ. يلاحقني في كل قصيدة تقريبا. اكرر انني خائفة..
  • ممَّ خائفة؟ لمَ خائفة؟
    كنت دائما خائفة. كلمة خوف تكررت كثيرا في دواويني الفرنكوفونية.
  • هل تميزين بين صباح الشاعرة باللغة الفرنسية والشاعرة صباح باللغة العربية؟
    أنا لا اميز بين صباح بالعربية وصباح باللغة الاخرى. انني واحدة، انني ذاتي، انني لغتي، انني كتابتي.. الفارق الوحيد بين قبل والآن، هو انني قبلا كدت اختفي في لغة الآخرين، فطردتها من كتابتي ودخلت حرة لغتي. قلت مرة اننا نكتب كي لا نموت. اما الان فأقول اننا نكتب لكي نوهم انفسنا باننا موجودون.
  • -اذن، ماذا تعني لك الكتابة، ماذا حققت لك والى اين اوصلتك؟
  • تعني لي الطلاسم والرموز والمأساة الاغريقية والآلهة بكل معانيها المعاصرة. اجيبك عن سؤالك بقصائد من كتابي «مازال الوقت ضائعا»، الكتابة تعني لي: 1 – مستحيلة بعد الآن وكيف الكلمة بعد الآن. الورقة خالية. اريد تجنب ما ارتكب حتى الآن. كيف تجنب الاوقات، كيف الدخول. خائفة من العري وفيه الخوف من حدودي. في العري اقترابي من الكلمة الاخيرة. والفاصلة. اني خارج الإمكان.
    2- الكتابة حققت لي: العودة الى الاشارات والاوشحة.
    3- الكتابة اوصلتني الى: مطرح اللانجاة، مطرح اللاموت.
    -ثمة قلق فوار في جوابك، ما مصادر قلقك؟
    مصدر قلقي، كما اعتقد، هو الرغبة. رغبة الكتابة، رغبة الغائها، رغبة الوصول اليها، رغبة عدم الوصول، رغبة المتابعة، رغبة رؤية الشكل المستتر، رغبة القضاء عليه، رغبة البقاء، وهم الرغبة.
  • هذا القلق المتزاحم – إذا جاز التعبير – يولد المزيد من القلق، كيف تواجهين هذا الاحساس؟
  • كنت دائما احلم بأن اخلد بضع مئات من السنين (فقط) اذ يصعب على خيالي الذهاب الى ابعد من ذلك وكنت في الوقت ذاته دائمة القلق على كتاباتي التي ستنعدم يوما ما مع انعدام الارض والحياة، مما شكل عندي تحديا لكل ما افعله بحياتي والرغبة في عدم الرغبة لكثرة الرغبة. غالبا ما كنت اتوصل الى التفكير بعدم جدوى كل ما نقوم به، اذ لن يبقى شيء، لن يبقى تاريخ ولن تبقى جغرافيا، كل شيء سوف يكون كما لو انه لم يكن. لكني كنت دائما اخجل من نفسي بسبب تفكيري هذا، وكنت اشعر بضرورة الاقلاع عن هذه الرغبة العبثية، الى ان قرأت مرة احد كتب سارتر حيث يقلق القلق ذاته، فطمأنت نفسي وتأكدت من نفسي وتأكدت من اني عادية جدا، مثلي مثله، ورغبتي ايضا هي رغبة غيري، فارتحت وهنئت. الاستقرار في لغة واحدة
  • قلت قبل قليل انك لا تميزين بين صباح باللغة العربية وصباح باللغات الاخرى، لماذا ترجمتِ اعمالك الفرنسية الى العربية؟
  • قررت نقل مجموعاتي الاربع الاولى الى العربية التي كتبت بالفرنسية اصلا، لرغبتي العميقة في ان «اكون» ضمن لغتي الاصلية والطبيعية وليس جزءا هامشيا في لغة قادمة من الكتب، هذا من ناحية. من ناحية اخرى، القصد من الترجمة، وهي ترجمتي، او النقل، هو محاولة مني في لملمة ذاتي، اي لملمة لغتي، لكي استقر في مكان واحد، مكان اللغة. الهدف الاساسي اذن، هو الغاء ما قمت به باللغة الفرنسية لعدم اقتناعي بوجودي خارج لغتي. في اي حال، عملية الترجمة تمت ضمن نطاق واحد فقط، هو نطاق الهوية اللغوية فحسب، إذ ان الروح لم تتغير. اي اني لو كتبت هذه المجموعات الاربع بالعربية منذ البداية لكانت جاءت حتما كما هي الآن، في صيغتها الحالية. فعلاقتي بالكتابة هي هي: هكذا كانت وما زالت هكذا، وقصيدتي تتواصل وتتواصل منذ كتابي الاول حتى اليوم، لذا اعتبر هذه المجموعات كأنها كتبت بالعربية اصلا. الوقت يصنع المكان
    -هل للمكان تأثير في حياتك، وكيف هي علاقة شعرك بالمكان؟
  • علاقة شعري بالمكان كالعلاقة بالزمان. ليس من وجود لمكان ما دون ارتباطه بالوقت، على ان يكون الوقت وقتا خاصا، مميزا، جارحا، عميقا، حزينا، مميتا، وماذا بعد؟ الوقت هو الذي يصنع المكان والعكس ليس صحيحا. المدينة، اي مدينة، لا تستطيع ان تعني لي شيئا ان لم يكن فيها وقت مميز مهما كان وجيزا. الوقت هو الذي يؤطر المكان والا يكون المطرح باهتا، سطحيا، فارغ المعنى، عديم الوجود، ان اكتب شعرا في المكان هو ان اكتب شعرا عبر الدقائق السريعة والازلية في آن، او ان اكتب شعرا عبر الدقائق المكدسة والجامدة، الشعر هو مكان الوقت، والوقت ليس وهما، بل هو الواقع والمكان، هو الوهم لأنه يتعلق اولا وآخرا بعيننا الانطباعية. لذا احاول في الشعر رسم حدود مكاني الضائع عبر اوقاتي الضائعة، اني احاول التقاط بعض مني من خلال محاولتي التقاط الاحرف الضائعة، التي تفلت مني دائماً.. الكلمة اذن هي جغرافية وجودي الوحيدة.
  • ثمة دلالات واشارات ملتبسة في لغتك، والمشهد الشعري في قصائدك مفتوح على احتمالات، هل لتأثير المكان عليك علاقة بذلك، او انه ناتج عن محاولتك مقاومة العدم؟
    في احدى مجموعاتي السابقة قلت «لم اكن يوماً في مكاني» مع اني كنت دائماً في وطني. للأسف، الغربة الدائمة اعيشها في داخلي والمكان الحقيقي الذي ابحث عنه لا اعتقد انه هنا او هناك. أما عن مقاومة العدم، فالتشتيت ناتج عنه دون شك ولو اننا لسنا عدميين. بل لأننا لسنا كذلك تولد المأساة، او «التراجيديا» التي نعيشها باستمرار بشكل من الاشكال الواعية واللاواعية، فناً وحياة، نوماً ويقظة، مأكلاً ومشرباً، حباً وجفاء.. ماذا في وسعنا ان نفعل في عجزنا هذا سوى محاولة الكتابة، محاولة القول في التباس القول، محاولة الرؤية في غبش الرؤية أو انعدامها. المنفى الفيزيكي بريء من هذا العذاب، لأن الهلاك في داخلنا يتآكلنا، يقتلنا، يربط لساننا، يكبل ايدينا.
  • تجربتك خاصة.. ماذا تقولين عنها؟
    ماذا اقول لك عن تجربتي سوى ما يقوله غيري.. فثمة من قال اني «ماسكة بلب ما بعد الحداثة العربية»، وثمة من قال «اني معاصرة»، وثمة من قال «ان كتابتها تصدر من منطقة الخطورة في الوعي والحواس»، ومن قال «انها صوت يستحق التنصت والرصد» ومن قال اني «سجلت خصوصية في الحداثة العربية»، ومن قال ان «تجربتها قاسية قاسية»، ومن قال «انها تحاول تقريب معنى جديد للاشياء»، ومن قال ان «اسلوبها خاص وخاص جداً»، ومن قال ان «شعرها يلفت ويفرض نفسه مسافة ما للتأمل بل حضور يستمد ملامحه من نفسه»، ومن قال ان «طريقة كهذه تعبر عن ازمة البحث عن شكل لم تطأه الكلمة»، ومن قال ان «هناك حزماً وجهداً لكتابة قصيدة جديدة»، ومن قال ان «طريقة كهذه تؤدي الى نسف المنطق الذي تقوم عليه الرؤية الاعتيادية للاشياء فينفتح الطريق الى تصور جديد»، ومن قال ان «هذه الكتابة غنية وعميقة لمن يحسن قراءة الشعر» ومن قال «انها احدث قصائد الشعر».. أو باختصار، الخصوصية هي ان تكون حراً، غير منتمٍ.
  • كيف تتعاملين مع الكتابات النقدية التي تقوم بتصنيف الادب: جيل رواد، جيل شباب، جيل نساء، ادب انثوي.. الخ؟
  • التصنيفات كما الشعارات الكثيرة من حولنا، كلها متعبة، وكلها نابعة من الحماقة المزمنة ومن الجمود والخمول.. انها نابعة من عدم الرغبة في القيام بأي شيء من عدم الامكان، نابعة من الفشل الضارب في الجذور، في خدر العقل والاحاسيس.. هذه التصنيفات نابعة من العجز، انها لغة العاجزين، او العجزة! تصنيفات طالعة من الرداءة، من الوهن.. انها لا تملك حتى وسائل المواجهة، ولا مواد الصناعة.
  • هل يهمك ان تصل قصيدتك الى العامة.. ولماذا؟
    الشعر ليس بياناً شيوعياً وليس مصلحاً اجتماعياً لكي يطرح نفسه على العامة.. ثم انه سؤال قبل ان يكون جواباً، والعامة لا يحبون الا الاجوبة وما شابه.
  • هل تعتبرين ان الكلمة او الشعر ما زال مؤثراً في زمن الحضارة التكنولوجية وغيرها مما يجذب العين والاذن والجسد؟
    المشكلة ليست في التكنولوجيا بل في الشعراء ذواتهم.. فالكلمة اليوم في ازمة بسبب التضخم في الكلام الاستهلاكي.. الكلمة تغيب عندما تتضخم. شعر.. وصحافة .
  • بما انك تعملين في الصحافة المكتوبة منذ فترة طويلة.. هل اخذت الصحافة من شاعريتك أو العكس؟
    لم اتوقف يوماً عن الصحافة منذ ان بدأت فيها، ولو اني تابعتها بشكل متقطع، وذلك في فترة اقامتي في القطب الشمالي لعدة سنوات.. وهذا يعني اني بقيت مدمنة على هذه المهنة التي لا علاقة لها بالقصيدة.. ان هدر الطاقة يومياً في كتابة «موضوعية» و«عامة» لا يساعد على حفر الانفاق في الأعماق. لكن على المرء العامل في الصحافة الذي ما زال امر القصيدة يهمه ان يجعل ثمة مسافة بينه وبين المهنة، اي ان يراقب ذاته باستمرار كي لا تقع هذه الذات في فخ السهولة.. إذاً كل ما استطيع ان افعله هو ان احفظ ذاتي الداخلية من الخارج ومن العام وهكذا اصونها من خداع العراء والعلو المكشوف، مما يجعلها تكتب هي من الداخل قصيدتها وانا اكتب من الخارج للخارج.. صار علي ان اطرق ابواب ذاتي الداخلية وابحث عنها في العتمة بينما كنت في الماضي اراها.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات