سميرة توفيق … مطربة البادية: ذاكرة خصبة … وأصالة صافية

08:27 صباحًا الجمعة 15 يناير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت: إسماعيل فقيه

بيروت ــــــــ إسماعيل فقيه :

لا أعرف كيف يمكنني تقديم الفنانة القديرة والأصيلة المطربة المميزة جداً سميرة توفيق؟ فهي لا تحتاج إلى الكلام الذي يرسم شأنها ومسيرتها الفنية الزّاخرة. لا تحتاج هذه الفنانة التي تمثل ذاكرة الأصالة إلى الكثير من الكتابة عن رحلتها الفنية الغنية، والكلام المزخرف يبقى أقلّ في حضرة وصفها والحديث عن تاريخها الفني الطويل ـــــــ المستمر. يكفي أن نذكر اسمها، حتى نجد الكلام والصوّر والدلالات الشتّى التي تستحضرها. ما إن يُذكر إسم سميرة توفيق حتى يتبادر للذّهن والمخيلة، تلك الأغاني البدوية الرّنانة التي أنشدها صوتها وحفظها عن ظهر قلب. كيفما استمعنا إلى الصوت ـــــــ صوت الفنانة، تلاحقنا بهجة الطّرب الأصيل وتعصف في ذاكرتنا صور الماضي الجميل بكلّ ما يحمل من وهج الجمال والنّغم.

“عالعين موليتين”، من أشهر الأغاني التي غنتها سميرة توفيق، كانت هذه الأغنية بمثابة النشيد اليومي الذي لا يغيب عن السمع، ومازالت إلى اليوم تعيش هذه الأغنية في ذاكرة الأجيال. وباقي الأغاني التي أنشدتها فنانتنا، حملت وحمّلت نفس الذاكرة بطاقةٍ لا تنفذ. مئات الأُغنيات الشهيرة إمتلأت بها حنجرة سميرة توفيق، لا يمكن حصرها، كما لا يمكن حصر عذوبتها، ومن هذه الأغاني نذكر ونتدكّر: “حسنك يا زين”، “أسمر خفيف الروح”، “بيع الجمل يا علي”، “يا هلا بالضيف”، “رفّ الحمام”، “لا باكل ولا بشرب”، “تنقّل يا غزالي”، “بردى بردانه”.. وتطول اللائحة الطربية الصافية.

اشتهرت الفنانة وأبدعت بغنائها باللهجة البدوية، ولا ننسى مسلسلها الشهير “فارس ونجود” مع الفنان الراحل محمود سعيد، الذي رفع اسم سميرة عالياً وجعلها تدخل إلى كل بيت، في زمن لم تكن فيه الشاشة الصغيرة (التلفزيون) متوافرة في كل بيت.

مازالت سميرة توفيق محافظة على عهدها الفني والطربي، تعيش حياتها على مهل، ولا تكف عن الأمل والإبداع، وتتحدث بكل شاردة وواردة تخطر على بالها، وفي لقائي معها تقول: “الفن والغناء تحديداً هو لغة الحياة الأجمل، لا يمكن للفنان أن يخرج إلى الضوء وإلى الهواء من دون أن يحمل في قلبه وروحه وثم في حنجرته، ذاك الصوت ـــــ الذي هو حاجة ماسة للدلالة على الإنسان وفرحه. الغناء هو الحاجة وهو الضرورة لإستقامة جمال الحياة”.

سميرة توفيق التي برزت موهبتها في أولى سنوات عمرها، (7سنوات)، ثم بدأت بإحياء حفلاتها الفنية في بيروت والمناطق في عمر (13 سنة)، مازالت على درب هذا النشاط الفني الذي لا يتكرر إلاّ معها، مازالت في قلب الميدان الفني، ورغم غيابها عن الأضواء، إلاّ أنها تكشف عن مشاريع فنية قادمة:

“سأعلن عنها في حينها، فانتظروني”.

منزل الفنانة لا يشبه أي منزل مماثل، فهو أشبه بمتحف فني لافت، حيث تحتفظ بأرشيف غني يحضن تاريخها الفني، صورها من الطفولة إلى يومنا الحاضر. صورها تزين الجدران وتحولها إلى مشاهد جمالية بالغة الدّقة، كأنها لوحات فنية نادرة. في كل صورة من صورها تاريخ حافل وذاكرة صاخبة. وتشرح الفنانة دلالات هذا التاريخ وتقول:

“هذا تاريخ من الصور، وصور من التاريخ. تاريخ فني حافل عشته على مدى سنوات كثيرة. وأكثر ما تعطيني هذه الصّور، هي تلك الذاكرة التي لا تغيب أبداً. وأرى في الصور مجد الفن وعظمته، وأسمع همس الزمن وهو يبتسم، لأنه يحتفظ بما لا يغيب وما لا يُمحى.. الغناء هو هذه الذاكرة المحصّنة والتي لا يمكن إلاّ أن تتضاعف وتحضر أكثر كلّما امتدت مساحات الزمن والأيام والسنوات”.

سعيدة جداً لأنها  جسّدت حضوراً فنياً على مدى سنوات كثيرة، وتقول :

“حضوري الفني هو حضور حياتي. كل إنسان يحضر في الحياة لكنه يتمايز عن سواه بالحضور، وحضوري الفني يخضع لنفس المعنى، انفس المعيار. والخصوصية التي أرساها غنائي وفني هو أساس من كلّ قائم في ذاتي وذائقتي وإبداعي. وأشكر الله على هذه النعمة التي نعمت بها في الغناء والطرب والفن.. أكثر ما يريحني هو أنني رسمت خطاً في الغناء، تميزت ومشيت نحو ذاتي بخطى ثابتة. السّعادة تكتمل حين يصل الفنان إلى خصوصية متمايزة، وسعادته أكبر حين يؤسس لنهج طربي ولون فني ثابت لا يتحرر من (قيوده) الجميلة الصارمة.. غنيّتُ كل الكلام، ونَعِمَ صوتي بألحان خاصة جداً، وكان هذا الإنجاز هو فرحي الدائم”.

سميرة توفيق مطربة البادية التي أبدعت بلونها الغنائي البدوي لا تزال هي المبدعة والمحافظة على هذا اللون الطربي الخاص والأصيل، وحنجرتها التي اختزلت الصوت إلى أبعد مداه مازالت محتشدة بكل طبقاته، فمن يستمع إلى كلامها، إلى حديثها العابر يلاحظ هذه الرّخامة في الصوّت، وقدرة الطنين في حباله الصوتية على إيصال إيقاعاته إلى المساحة الأكبر والأوسع وربطه بتدفق الأحاسيس الجياشة والوجدان النابض. وعن هذا الصوت الرخيم القوي الفاعل بطبقاته العالية تقول:

“صوتي هو مرآة حضوري، كلّما أنشده أجد نفسي ملزمة بالمحافظة على حمايته من أي دخيل، إن في التذوّق والأكل وإن في مدّه بالغذاء والتمارين. الصوت يعني الحنجرة، والحنجرة تحتاج إلى غذاء وحماية وتمرين يومي، فلا يجوز أن تتوقف العناية والاهتمام بالصوت مهما بلغ الفنان في مساحة العمر والغناء.. اللون البدوي في صوتي هو حداء الصحراء في ليل الحب والعاطفة، وهو نغم السّعادة وأطيافها في المكان الممتد من الصحراء إلى أقصى المدينة، والعكس بالعكس”.

ولدت سميرة توفيق في قرية “أم حارتين” في محافظة السويداء (سوريا). والدتها نعيمة، ربة منزل ووالدها غسطين كان يعمل في ميناء بيروت. ولها خمسة أشقاء، ومازال الزمن يعدّ خطواتها ومازالت تسير على نفس الخطى، خطاها الأولى، خطوات الفن الأصيل:

“لا يمكن للفنان الأصيل إلاّ أن يستمر في وعيه الفني الأصيل، لا يحيد عن هذه الأصالة مهما تغيّر الزمن، فالأصالة هي في أساس الفنان، كلونه وجماله وبشرته وحركاته. الأصالة الفنية هي شخصية قائمة تولد مع الفنان، مع الإنسان الفنان”.

تتميز الفنانة ويكاد يختفي أي مقلِّدٍ لفنّها، ذلك أن هذا التميّز هو عنصر المفاجأة الإبداعية المستمرة في حياتها الفنية:

“لا أجد أي فنانة أستطيع الإتكال عليها لتأدية لوني الغنائي، رغم أنني على قناعة تقول بأن الحياة مستمرة لا تتوقّف. إنشاء الله تأتي من تواصل هذا اللون الفني الذي أرسيته، والله ولي التوفيق”.

تستمع الفنانة إلى الأعمال الغنائية الجديدة والحديثة، وترى أنها ،

“تحمل في تلقائيتها النجاحات والإخفاقات.. الحالة الفنية اليوم، أو الوضع الفني ــــــ الغنائي اليوم هو بخير وإنشاء الله يستمر بهذا الخير في ظل تلك الأوضاع الصعبة التي تخيّم على البلاد والعباد”.

لم تحضر أُغنيات سميرة توفيق في الذاكرة فحسب، بل حضر أيضاً الكثير من أطيافها، في التمثيل والسينما. لم يكن صوتها وحده هو النبرة الجميلة التي تذكرنا بالجمال، ولم يكن جمالها الصورة الصافية التي نرى فيها خير الجمال فحسب، كل هذا الجمال (التوفيقي) حضر ولمع وبرق، وحضورها السينمائي لمع وبرق أيضاً. إضافة إلى مسلسل “فارس ونجود” الذي ألهب حضورها، فإن أعمالها السينمائية أيضاً ألهبت الحضور. عشرات الأفلام السينمائية قدمتها الفنانة خلال تاريخها الفني، ومنها: “أيام في لندن”، “عروس التحدي”، “الغجرية العاشقة”، “عنتر فارس الصحراء”، “عروس من دمشق”، “بنت الشيخ”، “غزلان”، “بدوية في روما”، “بدوية في باريس”، “عتاب حسناء البادية”… وسواها من الإفلام ـــــ التي هي اليوم جزء من تحفة فنية تمتع القلب وتسعد النظر.

تقول سميرة توفيق :

“الصورة والصوت والحركة، مشاهد هامة في حياة الفنان، ومن يتميز في الغناء والطرب عليه أن يتميز في الصورة أي الحركة والنشاط، والسينما هي جزء هام من هذا الوحي الإبداعي”.

الفنانة الكبيرة سميرة ذاكرة تتوسطنا، نعيش معها وحولها في مدينة جميلة، وتستحق كل تكريم، لأنها هي الوعي الجميل في ذاكرة ممتدة، فقد شاهدنا دموعها الحنونة أثناء تسلّمها الدرع التكريمية من بلدية الحازمية (محافظة جبل لبنان)، وبكت أكثر حين تبلّغت بأن شارعاً في منطقة الحازمية سيحمل إسمها.. تستحق فنانتنا هذا التكريم وهذا التقدير عن جدارة.

تبقى الفنانة الكبيرة رمزاً عالياً في حاضرنا، كما كانت على مدى تجربتها الطويلة. تبقى الصوّت والصورة والنغم والإحساس والنّبرة التي ترسم خارطة الوعي الجميل الذي إمتد على طول وعرض الزمن الجميل. والزمن أجمل بحضورها وحضور أطيافها المفتوحة على نواحي الحياة والإبداع.

تعترف فنانتنا بأنها تعيش في قلب الحنين، في قلب الزمن الذي أعطاها وأعطته فكان ما كان وحدث ما حدث وما سيحدث. وتعول كثيراً على ذلك الزمن الجميل الذي خرجت من أبوابه ونوافذه الكثيرة، وانطلقت في المدى الرحب والأرحب:

” قد تكون ذاكرتنا الفنية صاخبة ومحتشدة بالكثير من وعي الجمال والفن والحياة والإنسان، وهذا أمر واجب وحق مبرم لنا وللأجيال. الا ان الذاكرة الفنية الغنائية التي عشناها في مرحلة من مراحل حياتنا، ما زالت تمثل لنا صورة الأمل المستمر، الأمل الذي لا يتوقف عن التبشير بحياة أجمل وأمتع.. وما زلت شاهدة على هذا الزمن، وانشالله ستكون شهادتي على نحو اخر وجديد، بما فيه من الجديد والتجدد في الفن والغناء، والعمل على حفظ التراث الفني الأصيل”.

بعد جلسة صافية مع سيدة الصوت والكلمة واللحن، تخرج من بيتها وأنت على يقين بأن الفن الأصيل بألف خير، وأن السيدة التي تصون هذه الأصالة، ما زالت على عهدها الإبداعي، ولا خوف ولا خشية، فالزمن الجميل مستمر باستمرارها ووجودها: حضورها الفني الكبير، صوتها الصافي، وحنجرتها الذهبية.. كل الأمل، الضفة الأخرى من الزمن الجميل.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات