الأديب الدبلوماسي اللبناني توفيق يوسف عواد … “رغيف” الذاكرة

09:06 مساءً السبت 23 يناير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت: إسماعيل فقيه

بيروت ــــ إسماعيل فقيه :
أسوأ ما خلفته الحرب الأهلية في لبنان هو هذا التغييب (القتل) المأساوي لمبدعين كبار أمثال الكاتب الروائي الأديب توفيق يوسف عواد. فقد خسره وطنه وأهله بعدما قتلته فذيفة صاروخية في منزله وقتلت معه ابنته وزوجها السفير الإسباني في بيروت.
التقيت بالأديب الكبير الراحل توفيق يوسف عواد قبيل وفاته بأيام قليلة، وكان لقاء مميزا من حيث المضمون الذي تحادثنا بمجرياته. تحدث الراحل حينها عن هم اللغة في حياته وثقافته، واعتبر انها لغة عملاقة جياشة كثيرة القدرة على بناء الوعي والمعرفة. وقال لي: “اللغة العربية هي سيدة فائقة الجمال والدلالات ولا يمكن امتلاكها دون الرجوع الى أصل المعنى الذي يؤسس لهذا الجمال”.


رجل هاديء جدا،دائم الأناقة، حتى في نومه كانت الأناقة عنوان سهرته ونومه. وكما هي أناقته في اللباس والمعشر، كانت كتاباته أنيقة وكثيرة الشكل والمعنى. كتب القصة والرواية والقصيدة والمذكرات، وحافظ فيها على أناقة الوصف والتعبير، وأضاء دهاليز الأسئلة الحياتية والإنسانية.
ولادة الأديب توفيق يوسف عواد كانت في بحرصاف، وهي قرية تراثية عريقة من قضاء المتن في جبل لبنان وذلك سنة 1911 في 28 تشرين الثاني.
أما بداية دراسته فكانت مختلفة ،إذ بدأ دراسته تحت سنديانة دير ماريوسف ـــ بحرصاف، ثم في مدرسة سيدة المعونات في ساقية المسك فمدرسة سيدة النجاة في بكفيا حيث نال الشهادة الابتدائية. واستبد به ميله إلى الأدب منذ تلك المرحلة الزمنية، فكان يقضي الليالي في قراءة الكتب العربية والأجنية، ولا يحلم إلا بأن يكون في مستقبله كاتباً وشاعراً. وقد حقق حلمه رغم كل عوائق الزمن والسياسة والحرب.
في مراحل أولى من حياته أرسله والده إلى العاصمة بيروت وأدخله كلية “القديس يوسف للآباء اليسيوعيين”، وأثناء دراسته الثانوية فيها برزت مواهبه بروزاً لفت الأنظار، كان والده يعدّه للمحاماة، ولكنه أعرض عن هذه الرغبة وراح يكتب في الصحف نثراً وشعراً، فنشر في مجلة “العرائس” سلسلة مقالات نقدية حمل فيها على أدب التقليد، وألقى محاضرات في ذلك، داعياً إلى التجديد في أساليب التفكير والتعبير.


في العام 1928 أعد وكتب الراحل عواد محاضرة عن الشعر العامي ــ الزجل، عرض فيه لتاريخه وتقاليده ومزاياه، وقد نشرت هذه المحاضرة في مجلة “المشرق” وأصبحت منذ ذاك التاريخ مرجعاً لدارسي هذا الفن.
تميز بعلاقته بالكلمة اليومية والتعليق والنقد والرأي ، فبدأ الأديب توفيق يوسف عواد ممارسته للصحافة في جريدة “البرق” لصاحبها بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وفي دارها تعرف إلى خليل مطران (شاعر القطرين)، وإلياس أبو شبكة، وإبراهيم طوقان وغيرهم، وفي العام 1932 نشر في “البرق” سلسلة مقالات عن ميخائيل نعيمة العائد من نيويورك بعنوان “ناسك الشخروب”. وقد غلب هذا اللقب على نعيمة منذ ذلك الحين. وكان لتوفيق يوسف عواد إسهاماً كبيراً في الحركة الأدبية التي قامت بها مجلة “المكشوف” في الثلاثينات بمقالات دورية وقصائد وقصص، وكان من أركان هذه الحركة البارزين تأليفاً وتوجيهاً.
كما تميزت كتاباته الإبداعية ، فنشر قصته الشهيرة “الصبي الأعرج” ، حلقة أولى من سلسلة منشورات “المكشوف” فحياه ميخائيل نعيمة في رسالة نقدية بقوله: “يخيل إليّ أنك ما تعلمت الكتابة إلا لتكتب القصة”، وأتبع عواد قصته هذه في 1937 بقصة: “قميص الصوف” وفي 1939 برائعته “الرغيف”. فلاقت كلها رواجاً منقطع النظير، وكرسه النقاد العرب والمستشرقون على أثر ذلك رائداً لهذا النوع الأدبي، ودخلت كتبه هذه، وما تلاها في برامج الدراسة وأصبحت مادة تثقيفية للناشئة جيلاً بعد جيل.


الى جانب حرفته الأدبية المميزة والرائدة ،شغل في السلك الدبلوماسي ،وقد تنقل الأديب توفيق يوسف عواد في مناصب دبلوماسية كثيرة كان فيها سفيراً لبلاده في الدول الأوروبية انقطع في فترة منها عن التأليف إلا أنه عاد في العام 1962 إلى عطاءاته الأدبية بإصداره حوارية “السائح والترجمان”، فنالت جائزة “أصدقاء الكتاب” لأحسن مسرحية، كتب بعدها سلسلة خواطر يومية في جريدة “الحياة” بعنوان “فنجان قهوة” ،”عبيده”، نحا فيها النحو الذي اتبعه من قبل في “نهاريات”.
في العام 1963 نشر عواد “فرسان الكلام” وهو كتاب نظرات في الأدب والأدباء، بالإضافة إلى “غبار الأيام”، وهو مجموعة خواطر مستوحاة من الحياة اليومية. وكتب في العام 1969، وكان حينها سفيراً لبلاده في اليابان روايته الهائلة “طواحين بيروت”، ومجموعة قصصه الرابعة “مطار الصقيع” ولكن الرواية لم تنشر إلا في 1973، وكذلك المجموعة القصصية لم تنشر الا في العام 1982.
أصدر ديوانه “قوافل الزمان” أو قصائد البيتين في عام 1973 وفي العام 1974 اختارته منظمة الأونيسكو في لائحة “الكتاب العالميين الأكثر تمثيلاً لعصرهم”.
استقر عواد في أواخر حياته في بيته في بحرصاف ونشر في العام 1983 “حصاد العمر”، وهو عمل أدبي سطّر فيه سيرته الذاتية، متّبعاً فيه أسلوباً فريداً بناه على الحوار الذاتي، وفي عمله هذا لم يكتف الأديب بوصف مراحل سيرته، بل هو تعدّى ذلك إلى اعترافات حميمة تكشف عن كل شيء في حياته الخاصة والعامة…
نسج الراحل عواد حياة مليئة بالفكر الواضح والصريح ، وكانت كتاباته تضج بالحب والحنين والذكريات الخالدة،والحب الذي سلكه في حياته وفي رواياته وقصصه وأشعاره ومقالاته وكتاباته النثرية والصحافية لم تكن سوى اشارة تخرج من أعماقه لتلوح للحب بمعناه الإنساني الرحيب،للسلام الإنساني والعاطفي الذي يصنع مجد اللحظة الدائمة متغنياً بهذا الحب، نثراً وشعراً، بكل جوارحه.


كل ما كتبه عواد تميز به ،ويمكننا القول بأن أدب عواد امتاز بالعمق والشمول والتجديد والتفرد ،وقد بلغ ثورة في الوعي واللغة والمضمون المشتق من أفعال الحاضر والماضي وربما المستقبل. كل هذا استحدثه في نثره وشعره، كما أنه امتاز بحرارة التعبير وصدقه، وكان أسلوبه السردي، من السهل الممتنع، مع قوة في الإيحاء أضفت على كتاباته جواً أخاذاً بعيد المرامي.
المنجز الأهم في مسيرته الأدبية يكمن في وصفه لإنسان القرية وإنسان المدينة، في قصصه ورواياته، يصور الإنسان في كل مكان. نرى أبطاله في وجوه الناس من حولنا، نعايشهم في أفراحهم، ونشاطرهم صراعهم مع القدر. لذلك عرفه القراء عن ظهر قلب ، ولذك أغلب كتبه في المنهج الدراسي . فما زال توفيق يوسف عواد بين قرائه، لم يغب ولن يغيب ، رغم هذا الموت الظالم الذي لم يستحقه أبدا ، فالذي يرفع رأس وطنه عاليا ، لا تجوز عليه وصفة الموت العبثية .

One Response to الأديب الدبلوماسي اللبناني توفيق يوسف عواد … “رغيف” الذاكرة

  1. محمد درويش رد

    25 يناير, 2021 at 3:13 م

    مقال تاريخي للكاتب الكبير الشاعر اسماعيل فقيه انه موسوعة كاملة

اترك رداً على محمد درويش إلغاء الرد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات