آدْيُوخْ … قصة للنَّاشئة مستوحاة من التُّراث الشَّركسي

10:24 صباحًا الأربعاء 27 يناير 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية وكاتبة وأكاديمية، لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

آدْيُوخْ، تأليف د. إيمان بقاعي، هي قصة للنَّاشئة (12 –  15 سنة)، مستوحاة من التُّراث الشَّركسي، صدرت في سلسلة إبداعات طريق الحرير،رسوم: أحمد حاج أحمد، إخراج: غريد مصطفى جحا. القصة صدرت في 2014 للمرة الأولى

( 1 )

آدْيُوخْ تنتظر مارْجْ

تقولُ الحكايةُ:

في كوخٍ متواضعٍ  في أَعالي نهرِ (يَنْجِج)، أي: النَّهر الكبير، كان يعيشُ، شابٌّ نارتيٌّ شُجاعٌ وزوجتُه.

المرأةُ اسمُها: (آدْيُوخْ)، أمّا الرَّجلُ فاسمُهُ: (مارْجْ).

كان (مارْجْ) هذا رجُلَ غَزَواتٍ، يجلُبُ الكثيرَ من الخيلِ مِن بلادِ العمالقةِ وبلادِ الأقزامِ المجاورَةِ، آملاً –  من وراءِ غَزَواتِه هذه –  الحصولَ على الحصانِ المجَنِّحِ الذي يحلُمُ النَّارتيّونَ كلُّهم باقتنائِهِ، صِغارًا وكبارًا.

    وعندَ اقترابِ كلِّ عَوْدةٍ لـ (مارْجْ) ،كانت تنطلقُ مِن الكوخِ الصَّغيرِ أُغنيةٌ عَذبةٌ تُنشدُها (آدْيُوخْ) بفرحٍ غامرٍ، وبصوتٍ رخيمٍ، وبِلَحْنٍ لا أَحلى ولا أجملَ. وكانتْ تفعلُ هذا بينما تمدُّ ذراعَها النَّاصِعَ البياضِ من النَّافذةِ:

تمتدُّ ذراعيَ أَنتَظِـرُ                         عـودتَهُ إِليَّ يا قـَمَرُ

غـازٍ نـارتيٌّ يأْتيني                     بالفَرَحِ يكلِّلُهُ النَّـصْرُ

***

                                 آتٍ؟

أَسْمَعُ صوتَ الخيلِ قريبًا               لنْ أتركَ زوجيَ يَنْكسِرُ

                                 ***

                             أُبعِـدُ غَيْمهْ

                            أَجلُبُ صَحْوًا

أَمْحــو ليلاً

      انْهَضْ اسْتَيْقظْ يا قَمَرُ

     ***

آدْيُوخْ الحلوةُ مَشغولةْ               جِسْرُ الكَتّانِ يَنْتَشِرُ

      يَعْبُرُهُ العائدُ مُنْتَـصرًا               ثم تُخــفيهِ فينْدَثرُ

***

آدْيُوخْ الحلوةُ مشغولةْ              وعويلُ الرِّيحِ يَنْدَحرُ

لا الموجُ إِذْ يأتي هادرْ                  لا الماءُ يجرؤُ يَعْتَكِرُ

انهضْ، استيقظْ ياقمرُ

   ***

كوخٌ ؟

ما هَمَّ

مادامَ

في المعزفِ لحنٌ والزَّهَرُ !

  **

( 2 )

آدْيُوخْ وحدها تبقى

لم تكنْ (آدْيُوخْ) الحلوةُ تَفْخَر بنفسِها، ولم تكن مُدَّعيةً على الإِطلاقِ؛ بل إنها لم تذكرِ الكثيرَ من الأُمورِ التي كانت تصنعُها من أجلِ عودةِ (مارْجْ).

    عندما كانتْ (آدْيُوخْ) تمدُّ ذراعَها من النَّافذةِ، كانت صفوفُ الغمامِ الأسودِ الكثيفِ المحَمَّلةِ بالمطرِ تتدافعُ بعيدًا لتستريحَ في زاويةٍ من السَّماءِ.

    وكانتْ، فجأةً، تلتمعُ حُزْمةٌ من الضَّوءِ تمحو الظَّلامَ، فترتعشُ الظِّلالُ في المكانِ، وينتشرُ الفَرَحُ في الأَشجارِ والأَغصانِ والأوراقِ وفي قلبِ (مارْجْ) العابرِ تحتِ الضَّوءِ، ضوءِ (آدْيُوخْ)، والذي تطفئُهُ خلفَهُ حتى لا يراه أعداؤُهُ.

    ويستيقظُ القمرُ …

   ويضيءُ جِسْرَ الكَتَّانِ الذي تَنْشُره خِصِّيصًا كي يعبرَ فوقَهُ بقطيع الخيلِ الذي قد يكونُ الحصانُ المجَنَّحُ أحدَها، ثم لا تلبَثُ أن تخطِفَ هذا الجسرَ لئلاَّ يسقط زوجُها في يدِ أعدائِهِ الذين طاردوهُ.

    وتوقِفُ أَنينَ الرِّياحِ وهديرَ الموْجِ وارتجافَ الأَشْجارِ وزئيرَ العاصفةِ وخَوْفَ العتمةِ وصُراخَ الخمائلِ، فإذا بذَهَبِ الشَّمسِ ينتشرُ على رداءِ الأرضِ، وإذا بالأُغنيةِ تردِّدُها أَشجارُ الغاباتِ والطُّيورُ المُغرِّدَةُ والزُّهورُ والنَّدى والفراشاتُ والنَّحلُ بطنينه الموسيقيِّ الأَخّاذِ.

      وتقفُ كلُّها، تغنِّي مع (آدْيُوخْ)  عندَ بابِ ساحة الكوخِ للعودةِ المرْتَقَبَةِ.

    ويخِفُّ الإِيقاعُ، يخفُّ عند اقترابِ وقعِ أقدامِ ذلكَ المسافرِ العائدِ. وعند عودتِهِ، يغنّي الكُلُّ، الكُلُّ، الكُلُّ:

أَمْضَيْنا النَّهارْ

نُغنِّي الانْتِظارْ

فيضحكُ الفارسُ (مارْجْ) ضحكةً عاليةً، ويرفَعْ كتفيهِ غيرَ مُهتَمٍّ:

 –  لم أطلب منكم الانتظارْ !

     فيندهشُ الكلُّ، وأولهم  (آدْيُوخْ).

ويفترقونَ… وتبقى.

ويبتعدونَ… وتبقى!

( 3 )

البطلُ المزيفُ

   وقُربَ النَّار، يردّدُ لزوجتِهِ الجميلةِ:

لا أُحِبُّ الانتطارْ

إِنَّهُ فعلُ انْكِسارْ

لا أُحِبُّ الانتظارْ

إِنَّه فعلُ الصِّغارْ

***

ما تفعلينَ؟

ما تفعلينْ؟

تُمْضينَ حياةً سلبيّةْ

قربَ النَّافذةِ تنتظرينْ ؟

***

 آهْ!

شهقَتْ (آدْيُوخْ) الحلوةُ وهي تتأمّلُ زوجَها الجالسَ يأكلُ قربَ النَّارِ المشتعلةِ طعامَ (الشِّبس –  باستَه)، وفطائرَ (الحَلّفَة) الشَّهِيَّةَ السَّاخنةَ ويصبُّ الشَّايَ كالعقيقِ.

–  آهْ!

شهقَتْ (آدْيُوخْ)، ونظرتْ بعينينِ مُتَفَحِّصتين إلى قسماتِ وجهِهِ، محاولةً أن تكتشفَ أنّه يُمازحُها ويلهو كما يفعلُ المحِبُّون مع محبوباتِهم؛ لكنَّه ما كان يفعلُ هذا.

لقد كان جادًّا جدًّا!

     وراحَ يرتشفُ الشَّايَ وينفخ صدرَهُ، فتلمعُ عيناهُ السوداوانِ الواسعتانِ لمعانًا غريبًا عجيبًا، وقالَ:

–   يا آدْيُوخْ الحلوةُ المنتظرةُ على النَّافذةِ عودةَ البطلِ.. أَتعرفين ما يقالُ عني في بلادِ العمالقةِ؟ يقالُ: ذاكَ النَّارتيُّ الذي لا يُضِلُّ طريقَهُ وكأنَّ النُّورَ يرافِقُه. ولا يعرفونَ –   يا آدْيُوخْ  –  أنَّ البطولةَ هي النُّورُ!

    أَصْغَتْ (آدْيُوخْ) إلى زوجِها الذي تابعَ نافخًا صدرَهُ أكثرَ فأكثرَ:

–   وتعرفينَ ما يُقالُ عنّي في بلادِ الأقزامِ؟ يُقالُ: ذاكَ النَّارتيُّ الذي يَعبُرُ نهرَ (يَنْججْ) ولا يقدرُ أحدٌ على اللَّحاقِ به، وكأنَّ طريقًا يُفتَحُ أمامه ويُغلَقُ بعدَه. ولا يعرفونَ –  يا آدْيُوخْ –  أنَّ البطولةَ هي الطَّريقُ!

      وتركَ مكانَهُ، وراح يَصفِرُ لحنًا ويدور حول نفسِهِ راقصًا رقصةَ (الشِّشانْ) البطوليّةَ حتى غلبَهُ الحماسُ فاسْتَدْعاها لترقُصَ معه، لكنها كانت ترقصُ ببطءٍ.

توقّفَ فجأةً!

 كان وجهُهُ قريبًا من وجهِها، وكأنه أرادَ أن يقولَ أهمَّ جُملةٍ في العالمِ:

–   إنَّ ما يقولُه النَّارتيونَ صحيحٌ: فـ (مَنْ يطلبِ البطولاتِ يستطيعُ قهرَ كلِّ الصُّعوباتِ) .

     أبعدَتْ رأسها عنه تقول بِتَحَدٍّ:

–   كيفَ لشخصٍ لم يصادفِ الشّدائدَ أن يعتبرَ نفسَهُ شجاعًا؟

وكادَ يُجَنُّ لما سمعَ قولها، فاحمرَّتْ عيناهُ وعلا صوتُهُ هادرًا:

ـ اسألي العمالقةَ، اسألي الأَقزامَ، فهم يرتعدونَ خوفًا من مجيئي، ويحسبون لي ألف حسابٍ.

انسحبَتْ (آدْيُوخْ) وجلست بعيدًا عنه، وقد بلغَ الاستياءُ منها مبلغًا.

حاولتْ أن تصمُتَ لكنها لم تقدر، فقالتْ:

 –  ليس مِن أخلاقِ النَّارتيينَ أن يقفوا في وجهِ امرأةٍ ويَكيلوا المدائحَ لأنفسِهمْ.

–  أنا أقولُ الحقيقةَ!

–  الحقيقةُ تتحوّلُ إلى مَكْرٍ عندما تتناسى آلامَ الآخرين وكفاحَهمْ.

–  عندما أتألّمُ، أتألّمُ وحدي، وعندما أغزو أغزو وحدي، وعندما أُلاقي الصُّعوبات وأتغلّبُ عليها كذلك أكونُ وحدي.

–  الإِنسانُ الحقيقيُّ يعيشُ بصيغةِ الجمعِ…

–   إنْ كان حولَهُ مِنْ جمعٍ…

 غضبَتْ آدْيُوخْ:

–   لا تنسَ اسمَ شريكتِكَ.

غضبَ كثيرًا، ثم ضحكَ هازئًا:

–   شريكتي؟ شريكتي المنتظرةُ على النَّافذةِ؟ أين تكون عندما أغزو بلادَ العمالقةِ وأعودُ فلا أضلُّ طريقي؟ أين تكون عندما أعبرُ نهر (يَنْجج) بِخَيْلي؟ أين تكونُ عندما….

قاطعتْه بثقةٍ وبحزمٍ:

–  تكونُ معكَ.

–  تكونُ على النَّافذةِ.

–   لماذا لا تحاولُ أن تعرفَ نفسكَ يا (مارْجْ)؟

–  أعرفُ نفسي! أنا الفارسُ المُناوِرُ، أنا البطلُ الشُّجاعُ.

–   يستحيلُ عليكَ أن تكونَ متغطرسًا إذا ما عَرَفتَ نفسَكَ جيدًا.

 –  لستُ متغطرسًا.

دارتْ حولَهُ مرتينِ، ثم قابلتْهُ وجهًا لوجهٍ:

–  متغطرسٌ ومظهرُكَ مضحكٌ، مظهرُ الاكتفاءِ والكبرياءِ، مظهرُ الإنسانِ المدَّعي إِتقانَ كلِّ شيءٍ ومعرفةَ كلِّ شيءٍ.

–  لستُ مُتَغطرسًا ولستُ مدّعيًا.

–  كثيرٌ من البشر كانوا أضحوا أَبطالاً لو لم يتصوروا أنهم أبطالٌ.

–  آدْيُوخْ الجميلةُ تتحول إلى شرسةٍ سليطةِ اللِّسانِ.

–  ليس من عادتي أن أُنكرَ فضائلَ رجلٍ.

–   لكنكِ تفعلينَ.

–   كفاكَ أنانيةً يا (مارْجْ)، فما زلتَ بحاجة إلى الخبرةِ والألم وتخطِّي الصُّعوباتِ. أنتَ يا (مارْجْ) إنسانٌ أنانيٌّ، إنسانٌ يعبدُ نفسَه، إَنسانٌ مُغْلَقٌ، مُغْلَقٌ.

–  أنا مَنْ يُضرَبُ المثلُ بشجاعتي.

–  يستحيلُ الحوارُ مع كائن مُغْلَقٍ على نفسِهِ، مُكْتَفٍ بذاتِهِ وأفكارِهِ وحقيقتِه.

–  كلامٌ سخيفٌ.

–  يصعُب عليّ أن أؤمن بإنسانٍ ما تألمَ أبدًا، ما واجَه المصاعبَ ولا المعاكساتِ ولا خيباتِ الأملِ؛ أينَ تكون إنسانيّتُهُ إذنْ؟

( 4 )

في بلاد العمالقة

عندما قالتْ آدْيُوخْ ذلك، قفزَ من مكانِهِ وذهب فأسرجَ حصانَهُ ثم امتطاه غاضبًا. ولما وصلَ إلى البوابةِ، التفتَ إليها قائلاً:

–  حسنًا! سأُريكِ إلى أين تصلُ شجاعتي وعظَمتي!

    وانطلقَ يعدو ويقفزُ مِن دون أن يعرف للتَّعَبِ معنى.

    وكان –  لشدّةِ غضبِه –  يفرغُ غِلَّهُ على حصانِهِ الذي لم يقترف ذنبًا. وتابعَ مسيرتَهُ قفزًا وعَدْوًا وهو يضربُهُ بسوطِهِ النُّحاسيِّ ضربًا مؤلمـًا يحثُّه على السَّيْرِ إلى بلاد العمالقةِ والحصان يسير ببطءٍ متوجعًا.

     وما إِنْ دخلَ (مارْجْ) بلادَ العمالقةِ، حتى أَعْتَمتِ الدُّنيا وبدأت السّماءُ تمطرُ فلم يعد يستطيع أن يرى حتى أذنيّ حصانِه الذي يمتطيه. ولما شدَّ برنسَهُ الذي أحاكته له آدْيُوخْ قائلاً: “تعالَ احمِني يا برنسي”، بدأَ البرنسُ [العباءة] يدلِفُ بغزارةٍ.

ولو لم يقلْ: (برنسي)، ما كان المطرُ لينفذَ من خلالِهِ.

وعبثًا حاولَ أن يجدَ خيولاً يعودُ بها إلى بيتِه كالعادةِ،

وكيف يجدُها، وكيف يراها والظَّلامُ دامسٌ دامسٌ دامسٌ؟

      وراح يصرخُ بأعلى صوتِهِ:

–  أين الضَّوءُ؟

  أين النُّورُ؟

  لماذا لا يتوقفُ المطرُ و تتوقَّفُ العواصفُ؟

  لماذا؟

  لماذااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا؟

  صرخَ، ثم غادر البلادَ إلى بلاد الأقزامِ ضاربًا حصانَهُ بقوة.

( 5 )

في بلاد الأقزام

    هناك، كان الطَّقسُ مختلفًا تمامًا: فالحرارة قويةٌ، والشَّمسُ كأنها لهيبُ النَّار حتى إنَّ الحجارةَ كانت تَحمى وتتفتّتُ، وكانتِ الأرضَ تتشقّقُ، ورمالُ الصَّحراء تغطّي المكان وتدورُ… تدورُ… تدورُ…

    أحسَّ أن عينيهِ تمتلئانِ غبارًا، فتوقّفَ وراءَ شجرةٍ، وهو ينادي برنسه:

–  خَبِّئْني يا برنسي من رملِ الصَّحراءِ وشمسِ الصَّحراءِ.

لكنَّ البرنسَ لم يَحمِهِ. ولو لم يقلُ: برنسي، ما كان الحرُّ والرَّملُ لينفذا من خلاله.

     وعبثًا حاولَ (مارْجْ) أن يجدَ ماءً.

     وكيف يجدُ الماءَ في هذه الزّوابعِ الرَّمليّةِ وهذه الصَّحراءِ؟

     وراحَ يصرخُ وحلقُهُ يكادُ يتشقّقُ من شدةِ الجفافِ:

–  أين هدوءُ العواصفِ؟

 أين الماءُ الباردُ؟

 لماذا لا تتوقفُ العواصفُ وتخفف الشَّمسُ حرَّها؟

 لماذا؟

 لماذاااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا؟

     صرخَ كالمجنونِ،

     وغادرَ البلاد مشيًا على الأقدامِ مِن دون أن يُوَفَّقَ بالحصول على حصانٍ واحدٍ.

     حصانٍ واحدٍ؟ هِئْ…

حتى حصانه فقدَهُ!!!

( 6 )

(مارْجْ) يعودُ سالمًا

     وعندما اقتربَ من ساحل النَّهر، نادى من تحتُ بأعلى صوتِهِ:

–  يا آدْيُوخْ!

   يا آدْيُوخْ!

إنكِ بجبروتكِ هذا لن تُؤذيني، فقد عدتُ رغمَ كلِّ المصاعبِ.

عدتُ لأريكِ أنني لا أموتُ مِن دونِكِ..

    وراح يضحكُ كالمجنونِ، ثم راحَ يسبحُ في النَّهرِ وقد بدأتْ تتقاذفُه الأمواجُ مِن دون أن يرى أثرًا لجسرٍ. لكن جسدَهُ القويَّ ساعدَهُ على أن يعبرَ النّهرَ ويلقي نفسه على الجانب الآخر من الشَّاطئِ وينادي بأعلى صوته:

–  أرأيتِ يا شريكتي؟

ثم راح يسعلُ، ويسعلُ، ويسعلُ… وعندما لمحَ طيفَها وراءَ النَّافذة يقف مُطأطئَ الرأسِ، ناداها وهو يتسلّقُ الجبلَ:

ـ لعلّكِ تعرفين الآن أنَّ ما قلتُهُ عن نفسي كان صحيحًا، ولعلَّ عودتي سالمـًا تعلّمُكِ درسًا.

      لكنَّ…

     الطَّيفَ…

     اختفى!!!

( 7 )

البطلُ الحقيقيُّ

     حين وصلَ إلى بوابةِ الكوخِ، كانت (آدْيُوخْ) قد غادرَتْه للتَّوِّ، لأنها انتظرتْ، حتى اللَّحظةِ الأخيرةِ، أن يكون (مارْجْ) بطلاً حقيقيًا، فلم يكنْ.

رجَتْ أن يكون إنسانًا حقيقيًا، فلم يكنْ.

(8)

لا نارَ في الموقدِ

     هل عرف (مارْجْ) أنه خسر (آدْيُوخْ) التي أحبّتْهُ؟

هل يعرف الإنسانُ الأنانيُّ مدى خسارتِهِ؟

      لو عرفَ…

ما بقيَ كوخُهُ ذاكَ باردًا، لا نارَ في موقدِه، ولا نور يشعُّ منه.

      لو عرفَ…

    ما بقيَ كوخُهُ ذاك شاحبًا، تنبتُ على جدرانِه الأعشابُ الشائكةُ وتصفرُ فيه الرِّياحُ.

(9)

فرحُ الحضورِ وحزنُ الغيابِ

      ذاتَ مرةٍ،

بعد سنواتٍ طويلةٍ طويلةٍ،

وقتَ صارَ (مارْجْ) عجوزًا ذا لحيةٍ بيضاءَ كثَّةٍ طويلةٍ تغطي صدرَهُ الذي استحالَ إلى عظامٍ متقوسةٍ، وكانَ يجلسُ على مصطبةِ الكوخِ مُنحنيًا على عُكَّازتِهِ، مُتخشّبًا مثلَها وكأنهما صُنِعا مِن شجرةٍ عتيقةٍ واحدةٍ، مرَّ به طيفُ امرأةٍ جميلةٍ تشبهُ (آدْيُوخْ).

      فتحَ عينيهِ السَّوداوينِ على وسعِهِما وهو يستغربُ كيفَ احتفظتْ كلَّ هذه السَّنواتِ بجمالِها الأخّاذ وطَلَّتِها البهيَّةِ.

 ولم يشأْ أن يتنازلَ فيسأَلَها عن سرِّ احتفاظِها بشبابِها وجمالِها؛ لكنها اقتربتْ منه، وانحنَتْ عليهِ قليلاً تسألُه:

–  هل علّمَكَ الفراقُ شيئًا؟

وكالعادةِ، ومِن دونِ أن يفكرَ بجوابٍ يليقُ بسيدةٍ، قال بصَلَفٍ:

–   الفراقُ؟ أيّ فراقٍ يا آدْيُوخْ؟ أَفترضُ أن الفراقَ عليهِ أن يعلِّمَ السَّيدةَ التي غادرَتْ بيتَ فارسِها البطلِ درسًا، لا العكسَ!

وكعادتِها كلما سمعَتْ كلماتِهِ، شهقَتْ آدْيُوخْ دهِشَةً، لكنها ما لبثَتْ أن ابتسمَتْ مُتراجعةً خطوةً إلى الخلفِ، تلتْها خطواتٌ ترافَقَتْ واتساعَ ابتسامتِها التي تحولَتْ إلى ضحكةٍ خفيضَةٍ ترافقَتْ وصريرَ بابِ كوخِهِ الذي اصطفقَ فأخافَ كلبَهُ الأسودَ العجوزَ، فنبحَ خابطًا بذيلِهِ على الجدارِ العتيقِ؛ ما جعل (مارْجْ) يلتفتُ إليهِ ثم إليها، فإذا بوجهِهِا الجميلِ قد ابتعدَ، فناداها بصوتٍ متهدِّجٍ غاضبٍ عالٍ:

–  آدْيُوخْ!

آدْيُوخْ!

ولما لم تتوقفْ ولم تردَّ، قال بصوتٍ أعلى:

–  لا تظني أن فراقَكِ أحزنَني!

ومِن دونِ أن تصلَ إلى سمعِهِ كلمةٌ واحدةٌ، تمتمَتْ وهي تجدُّ السَّيرَ مغادرةً المكانَ إلى غيرِ رجعةٍ:

–  لِلَحظةٍ ظننْتُ!

انتهت

‏الأربعاء‏، 26‏ شباط‏، 2014

One Response to آدْيُوخْ … قصة للنَّاشئة مستوحاة من التُّراث الشَّركسي

  1. إيمان بقاعي رد

    27 يناير, 2021 at 12:21 م

    شكرا لكم.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات