مدن الحرير ودروبه: بــلخ … ميراث من الفكر والعمارة.. وجسور للتواصل ممتدة على طريق الحرير

08:13 مساءً الإثنين 1 فبراير 2021
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

على طريق الحرير البري، ودروبه المتفرعة والمتشعبة في جغرافيا المكان؛ مكوَّنه شبكة من الطرق والممرات ممتدة ومتوغلة، مهمتها أن تصل البلدان بعضها ببعض؛ توجد مدنٌ وبقاع كثيرة تَحول الجغرافيا السياسية اليوم بيننا وبينها.. بقاع شتى يصعب علينا الوصول إليها؛ إلا أن ميراث الفكر والعمارة والإرث الثقافي؛ كانوا ومازالوا بمثابة جسور للتواصل ممتدة ودائمة بدوام البشر والحجر.. وتعد مدينة «بلخ» واحدة من المدن الثرية تاريخيًّا وثقافيًا على مدار التاريخ الإسلامي بشكل خاص؛ لكونها جزء حيوي من إقليم له ثقل سياسي وميراث فكري وتراثي ضخم، هو إقليم «خُراسان» الذي ضم عدة مدن لها تاريخ كبير في التاريخ الإسلامي منها مدينة نيسابور، ومرو، وطوس، وهرات. وتقع مدينة «بلخ» الآن ضمن حدود دولة أفغانستان، وكانت المدينة – بلخ – عاصمة للولاية التي تحمل الاسم نفسه (ولاية بلخ)؛ إلى أن انتقلت العاصمة من بلخ إلى «مزار شريف» في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والتي تبعد عنها قليلاً بما يقرب من 20 كيلومترًا.

من بين هذه الجسور الممتدة إلى اليوم؛ جسرًا من رصات وحطات الآجر، ما زال قائمًا إلى اليوم، وهو مسجد «نه گنبد» أو «القباب التسعة» -والذي يُعرف أيضًا لدى أهل المدينة باسم «حاچي پياده»؛ ويعد أقدم مسجد باقٍ من العصر العباسي، يرجع إلى القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي. ورغم بساطة تخطيط المسجد وزخارفه؛ إلا أنه يعد حجر زاوية في دراسة العمارة الإسلامية المبكرة في بلدان شرق العالم الإسلامي؛ لما يحفظه هذا المسجد من إرث ثقافي محلي – نعبر عنه دائمًا بالموروث المحلي الناتج عن الفكر الإنساني والبيئة المحلية ومكوناتها، ويختلف من مدينة إلى أخرى باختلافهما – هذا الموروث ممتزجًا بتراث جديد وافد ممثل في دين جديد اعتنقه أهل «بلخ» وهو الدين الإسلامي، وما تبع ذلك من بناء مساجد للعبادة، واتباع نظام سياسي وإداري مختلف وفقًا لكون إقليم خراسان تابع للخلافة العباسية آنذاك.

كانت بقايا مسجد «نه گنبد» مهددة بالإنهيار؛ جراء الإهمال الذي أصاب المسجد لفترات زمنية طويلة أدت إلى تخريبه، وكذلك بفعل تشييده بمنطقه وعرة جغرافيًّا مرتفعة تعرضت لزلازل أضرت بالبنية التحتية المشيد عليها المسجد. إلا أن واحد من المشروعات القيمة والضخمة التي تشاركت فيه مؤسسات ومنظمات دولية عدة للمساهمة في حفظ هذا الإرث المعماري والفني القيم، كان مشروع ترميم وإعادة تأهيل المسجد.. وقد تضافرت فيه جهود دولية ممثلة في اليونسكو، وصندوق الأغا خان للثقافة، ومركز الأغا خان للتوثيق، ومكتبات معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT؛ والمعهد الفرنسي للآثار بأفغانستان، وأعضاء فنيين ومهندسين من قسم العمارة بجامعة فلورنسا بإيطاليا، ودعم مالي من السفارة الأمريكية في أفغانستان، والصندوق الدولي لدعم الآثار والتراث، وهيئات محلية ممثلة في وزارة الثقافة الأفغانية، وأيادٍ من أهل بلخ. في نهاية المشروع الضخم، وفي عام 2016م صدر كتاب قيم وثري يستحق القراءة؛ يوثق لمشروع الترميم والتأهيل والمجهودات الهندسية والفنية التي تمت بالمسجد.

ترجع أهمية هذا المسجد في الخبيئة الفنية التي تضمها جدرانه؛ زخارف جصية متنوعة تأخذنا من أول وهلة إلى أرض سامراء الطيبة وزخارفها المتنوعة. أما الأعمدة الإسطوانية الباقية تذكرنا هي الأخرى بالمساجد المبكرة في هذه المنطقة والبلدان القريبة منها؛ ومنها مسجد «تاريخانه» في دامغان، ومسجد نائين الجامع، وغيرها من المساجد التي تمثل الأعمدة الأسطوانية الضخمة صورة ذهنية قوية مرتبطة بها وبتاريخها المعماري والفني. وبالنسبة لنا في مصر فهذا المسجد ينقلنا مباشرة لمقارنته بمشهد آل طباطبا بالقاهرة، والذي يتشابه مع في التخطيط الهندسي إلى حد كبير، مساحة مربعة الشكل مقسمة بالأعمدة الداخلية إلى تسع مناطق مربعة أصغر حجمًا، ومغطاة بالقباب. وإن كان مسجد نه كنبد أكبر حجمًا من حيث المساحة ومن حيث الأعمدة الأسطوانية الضخمة.

وبالرغم من أن المسجد اليوم كائنًا في منطقة منعزلة نوعًا ما، وبعيدة عن وسط المدينة حيث الأهالي والأسواق والحياة؛ إلا أن هذا يجعلنا نطرح تساؤلات؛ هل كان هذا هو الأمر الكائن وقت تأسيس المسجد من قرون كثيرة مضت؟ أم كان متصلاً بعمران المدينة ونبضها الحي الممثل في بيوت الأهالي وحاناتهم ومزارعهم؟ وستعكس الإجابة صورة حية وواضحة لفكرة انحسار العمران عن هذه المنطقة واتجاهه جنوبًا حيث مركز المدينة الآن. أم أن الاختيار من الأساس وقع على بقعة بعيدة منعزلة إلى حدًّا ما، وعلاقة ذلك بوظيفة المسجد الفعلية وكونه مكان مخصص لأداء الصلوات والتعبد إلى الله.. أسئلة كثيرة مطروحة تفتح المجال أم الباحثين للتعمق أكثر خلف الشكل المعماري والفني للمسجد والبحث عن البعد الوظيفي والعلاقة المجتمعية التي ربطت بين المسجد وأهل بلخ.

أما ميراث المدينة الفكري؛ والممتدة جسوره إلى اليوم؛ نجده يتجلى بوضوح في شخصية جلال الدين الرومي البلخي، المعروف بمولانا جلال الدين. صاحب الفكر الصوفي المتميز، والمولود في بدايات القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، والذائع صيته إلى اليوم شرقًا وغربًا.. وإن كان صيت الرومي وشهرته مرتبطة بمدينة قونية بتركيا حيث دُفن هناك وصار مدفنه مزارًا للكثير؛ إلا أن بلخ موطنه وأصله، وفي بغداد نشأته وعلمه، وقونيه حيث استقر جسده في نهاية المطاف.. لكن تبقى بلخ مرتبطه به أينما ذُكر وترجمت أعمال الشعرية وأقواله المأثورة وأدبياته إلى اليوم.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات