في زمن ما في مكان ما في لحظة ما …. كان هنالك انسان ما ولنا ما نشاء في اطلاق الأوصاف والعلامات عنه .
لعله كان ملكا أو لعله اميرة ، لعله كان بحارا ولعله …. ولعله ولعله
كان هذا الانسان يبحث في اعماق البحار واعالي الجبال
عن ذاك الذي يتفاعل وينصهر ويتماسك في ساحات روحه
في تلك الساحات ، هنالك أسدان متجاوران في المكان والزمان ، ولكنهما بعيدان كل البعد في السلوك والشخصية .
هذا الذي يجري في دهاليز عقله ، يجعل أحلامه بلا لون ولا طعم ماضية الى طريق لا يعرف مساره .
يصحو يوما على طريق المحبة يذوب في أعماقه ، فيرى الكون جميلا ، يشعر تجليات الحنو والحب فيغدو طائرا مغردا من جديد ، يشرب ماء البحر فيتذوق ملوحته عسلا .
يمسك بأمواج البحر فتكتمل عواطفه . ولكن هذا الذي يغمره حبا وعطاء وامتنانا ، ما يلبث أن يتلاشى عبر ثورة الأسد الغاضب . هذا الأسد المتعالي الأناني ينهش في كل معاني العطاء والخير لديه ، فيتمركز على ذاته ، لكي لا يرى ، لا يشعر ، لا يسمع الا مصلحته الذاتية .
عاش يوما ، عاش دهرا ، عاش سنة لا أحد يدري كيف مرت أيامه في هذا الصراع…. الى أن تزامن زمنه مع زمن محارة شقت قاع البحر ثم استلقت على شواطئه . لامست يداه الحائرة الباحثة الرمال شعر بحرارة الرمال فهدأ قليلا….. ثم اقتربت المحارة أم اقتربت يداه ، لا أحد يدري ليكون اللقاء ما بينهما….. شعر بها شعرت به . فانفلق جدارها وغطاؤها بآن واحد…. لتصافح عيناه تلك اللؤلؤة زهرة الخلود .
تسمرت كلماته في جوفه. لؤلؤة ناصعة براقة ، بدأ بملامستها طبقة وراء طبقة فقادته خطواته نحو داك المكان غير الآمن في روحه .
أغمض العيون ، ليستعين بنور القلب ، ليسمع صوتا هامسا من تلك اللؤلؤة:
اترك البحر أترك الجبل أترك السهل
أترك الزرع أترك الأماني أترك الأشواق
وامش في طريق آخر .
سوف تمشي أيام ، وتركض أياما وتنام أياما الى أن تصادف صحراء ما . في تلك الصحراء ، هنالك حكيم ما . امش ولا تخف .
قاده القلب ثم تتبعته الخطوات الى أن وصل الى ما يشبه غايته .
شرب الماء من طاسة الحكيم . ابتسم الحكيم
لحضوره … مرت أياما أو سنينا ، لكم ما شئتم في العدد والتعداد …..
الحكيم ينهض فجرا … يمشي خارج الخيمة. يمسك بيديه ابريقا فضيا ثم يبدأ بسقاية بعض النباتات …..
ثم يعود للخيمة ليبدأ بغزل الصوف ….
هما في صمت وكلام بآن واحد . ولكن الاستعجال الرغبة في روحه للحصول على الدواء الذي سوف يحسم تلك الحرب الدائرة في ساحات روحه . أيهما المنتصر : الأسد المنتصر ،أهو الأسد المحب أم الأسد الغاضب . وكلما حاول الاقتراب من حافة السؤال ، كان هذا الحكيم يذهب به مذاهب شتى ، الى أن جاء يوما وهو ما يزال نائما ، دعاه لمراقبة النجوم في رقصها وغنائها ، ثم أمسك بالإبريق الفضي وأعطاه اياه . اقترب من النباتات التي بدأت تتسلق ثوب الخيمة بلونها الأخضر……
رأى الجواب سمع الجواب
وضع الابريق جانبا . امتثل لدعوة الحكيم . نظر الحكيم بعينيه بعمق العمق . تبعثرت نظراته ، الى أن تمكنت عيون الحكيم من الامساك به . وكما قيل ” العيون هي بوابة الروح “.
أراد أن يضع تساؤلاته ، حيرته أمام الحكيم . أي من الأسدين سوف ينتصر؟ ولكن الخجل رافقه . فهذه السكينة ، وهذه النجوم ، هذا الليل وهذه الأنوار المشعة المتلألئة من عيون الحكيم . من أين له أن يبوح ؟ من أين له أن يسكب نقطة حبر غامقة في هذا المساء الصافي فيتبعثر الصفاء .
ولكن خوفه صراعه ، تراءى له في عدة صور وتخيلات هذا الأسد المحب ، يقترب منه . يمسك بزهرة ياسمين فواحة ، يقترب منه أكثر ، ويهمس في قلبه : امضي امضي يا صديقي ولا تخف ! .
ليبرز من خلفه ذاك الأسد الغاضب ، مطلقا أصواته العالية ، وضحكات فيها كل الاستهزاء به . ويهمس في عقله : ألم يكن الانتصار دائما من نصيبي ؟ ….
لم يستطع الاستمرار في مرافقة الحكيم . فعالجه الحكيم ، مثل يد أم تضعها على جبين طفلها المشتعل حرارة فتبرد جوارحه ، لكي تبدأ عملية الشفاء في روحه وجسده .
عالجه الحكيم ثم قال : أتظن يا بني أنك المنفرد في حالتك فيما يجول في عقلك ؟ . أجابه : يا أيها الحكيم ! كيف اصبحت حكيما ؟ . أراك أسمعك .
لا حرارة الصحراء تمنعك من السقاية ، لا الزوابع الرملية تأخذ ابتسامتك بعيدا ، لا شيء ، لا شيء يعكرك ….
الحكيم : اننا جميعا يا بني ، نختبر هذا الصراع الذي لديك لأننا معجون من عقاقير شتى وألوان شتى ، تتجول في الروح . اننا مشتركون في هذه الدائرة. ولكن هنيئا لمن استطاع أن يرى مرآة روحه ، وأنت يا بني بمجرد انتباهك لهذين الأسدين قد بدأت السير بطريقك الحق، هذا الطريق لا يكون طريقا الا اذا ما أصبحت عادة فعل الخير عادة متأصلة فيك وليس تكلفا ، تقوم به ولا تدري. لا تنتظر ثوابا أو تقديرا . في هذا الطريق تذوب المسافات ما بينك وبين الكون المحيط بك . كل فرح هو فرحك ، وكل حزن هو حزنك أيضا . هذا الطريق لن يكون طريقا الا اذا أصبحت أو أمسيت اذا ما نظرت تكلمت واذا ما استمعت . لا يكون الا الجمال الذي تحبه هو ما تفعله . عندئذ سوف تحصل على مؤونة ، تتحلى فيها روحك . تتحلى فيها روحك .
استمع يا بني للأسد المحب وللأسد الغاضب ، ولك القرار من أي منهما سوف ترعاه وتخلص له . وعليك بعد أن تطهر ذاتك أن تستمر بالمواصلة ، لا تهدأ ولا تظن بأن هذا الأسد الغاضب لا يمتلك طرقا شتى للعودة . أغلق الأبواب وافتح النوافذ واعمل . بالعمل وحده يتنامى الخير الذي نمتلكه جميعا .حتى هذا الأسد الغاضب سوف يأتي يوما يمل من غضبه وأنانيته ، وأن ثمة صداقة سوف تنمو ما بين هذين الأسدين . وأن هذا الأسد المحب سوف يرعاه بالصبر والتفهم والغفران . ولك دائما وأبدا أن تظل حاضر الذهن .
ارتسمت كلمات الحكيم . نقشت معاني الحكيم فشعر بتلك اللؤلؤة ، تبني طبقاتها ، طبقة وراء طبقة من طبقات حسن النية – الاخلاص – الحياء التواضع – الرضا – المحبة – لتمتلك روحه لؤلؤة القناعة والتسليم .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.