المسرحي جواد الأسدي في الفضاء العربي الرحب

08:35 صباحًا السبت 20 فبراير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

يحضر ويغيب ثم يحضر كثيراً في بيروت. يتجول في المدن العربية والعالمية، مع مسرحه النقال.جواد الأسدي مخرج ومؤلف مسرحي عراقي من مواليد كربلاء ويعيش متنقلا بين المدن العربية ، من بيروت الى بغداد ودمشق ومراكش.. حاز عام 2004 على جائزة الأمير كلاوس للمسرح، وكان عمل مع المسرح الوطني الفلسطيني، ولاحقًا مع المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وأخرج العديد من الأعمال المسرحية وكان من أكثرها شهرةً (رأس المملوك جابر) عن مسرحية سعد الله ونوس، و(تقاسيم على العنبر) المستوحاة من نصوص تشيخوف، و(حمام بغدادي) التي نالت شهرةً عالميّة عريضة . وأسس في بيروت مسرح بابل الذي حرك وجه المدينة وجذب الجمهور الى خشبته .


سؤال كبير يطرح اليوم،أما زال المسرح العربي في تألقه، وماذا بقي من جيل كبار المسرح العربي اليوم. لماذا كل هذا التراجع في المشهد المسرحي العربي ،ومَنْ بقي من أهل المسرح يصدح في ظل هذا الانحدار والخراب والمشهد العبثي الذي نعيشه على مساحة هذا الزمن؟


يقول جواد الأسدي: ” المسرح اليوم ليس في مجده طبعاً… للأسف الشديد نحن اليوم في حضرة طغيان سلطة الجهل والحروب العبثية ، ومن الطبيعي أن تأتي النتيجة كارثية على مختلف الفنون والثقافة.فالمسرح يترنح بين دول الجهل والأمية والظلامية وبين انسحاب أدوات التعبير إلى ما يشبه التعاسة، حيث المجون وكرنفالات المسرح الذي يكرس الضحك الفارغ والإشارات الجنسية المبتذلة مع جمهور مقهور. و لم يعد لهذا الجمهور أن يهتم إلا بما تبقى لديه من رغبه النفيس عما يعيشه من هول وكوارث . من الواضح جداً غياب الإبداع المسرحي. لقد انتهى عصر تشيخوف والتشيخوفيين وبيكت والبيكتيبن وليحل محله مسرح الفاست فود. لقد تحول المشهد وانقلب كليا، بات المرح اليوم حلقة مفرغة، وخشبة ركيكة هزيلة تكاد تنكسر في أية لحظة خواء. أما ما تبقى من مسرحيين كبار فإنهم يمضغون ألسنتهم ونصوصهم وإخراجاتهم على منصات العزلة والوحشة. لقد خرج الكبار الى العتمة الداكنة، لا أحد يراهم أو يسمعهم. أين الكبار اليوم في المسرح العربي؟!


وعن مسرح بابل الذي أسسه في بيروت يقول : “إن مسرح بابل البريوتي الذي أسسته (روحًا، ومادة، ومدرسةً مسرحية رصينة) هو الآن على شفير النهاية ، والأسباب واضحة لا تحتاج الى نقاش وشرح “.
ويردف قائلاً :” إن ما يحدث من تفلت واقفال للمسرح هو هذا الجهل الكبير في واقع الحياة والثقافة. للأسف مع المجتمعات الغريزية التي تشبه مجتمعاتنا ليس من مؤسسات ثقافية حقيقية تحمي الثقافة ولا جمهور معرفي يحمي المسارح كما هو الحال في الغرب لذلك بقى مسرح بابل وحيداً ، بلا اهتمام من ناحية الدولة ومن ناحية الجمهور . فالدولة تتعامل مع المسرح باعتباره شيء هامشي وهي لا تقدم له أي عون ، والجمهور بجهله يكرس الانحياز لمجانية العروض المسطحة . ولكن،مع ذلك كنت وما زلت أجر مسرح بابل كما لو أني حصان يجر عربات من حديد نحو قمة جبل مستحيل .. إن ما قمت وأقوم به في هذا المجال هو بحد ذاته مغامرة كبيرة لا تخلو من متعة ولذة تتغلغل في ذاتي. هذه المتعة ذاتها هي لذة وقهر محبب إلى نفسي وطموحي، إنها سيزيفية مسرحية عالية الوجع والمتعة، لا يمكنني التفلت منها، مهما كلفني التعب والإصرار“.


كيف يرى جواد الأسدي مستقبل الفن المسرحي في هذا الجو المحموم ، في ظل العرض العبثي الدموي المستمر على مسرح الزمن الذي نحياه اليوم في الشرق والغرب، هل العالم يعيش اليوم (مسرحية الجنون والموت والخراب) ؟
لا يتردد بالجواب ويقول:” كان مسرح التنوير يلوح بيديه طوال عمر كبير، سنوات الاشتغال على الولع والشغف المسرحي منذ أكاديمية الفنون الجميلة عندما كنا فتيانا مسكونيين بأمل فذ ونزاع مع الجهل والتخلف والقهر، كان مشهداً صادقاً في الوعي والطموح. أما اليوم ، وفي منظار الفاصل الزمني، تبدو كل تلك الإشارات والشهوات واليوتوبيا قد انهارت واضمحلت. أو سقطت مثل أوراق الخريف، ليحل مكانها نزاع آخر ، نزاع وصراع وجودي جديد عنيف عنوانه مقاومة الظلاميين والجهلة الذين سيطروا على المشهد وهم يجرجرون شعوبنا وأهلنا إلى مأتم البهائم . إن اللغة التي تحمل مفردات السبي والاغتصاب والقتل بمهنية واحترافية عالية ، إنما هي الكارثة بذاتها .وهنا وقع الفن في مأزق جديد نصا وتمثيلا وإخراجا …”


” حمام بغدادي”، من روائع المسرح الأسدي، مسرحية أعاد لها الروح والنبض ،ولا ينفك عن مواصلة عرضها ، ويتحدث عن رائعته هذه بالقول :” ما زالت “حمام بغدادي “حية جدا ونابضة في الوجدان، خصوصا وأنها تلامس وتحفر في الهم العراقي والعربي من حيث الجوع للحياة الكريمة ونبذ الألم المرمي على الناس قسرا .لقد اشتغلت في هذه الإعادة مع ممثلَين عراقيين لهما الوجع العراقي الذي يريد النص أن يتنفس منه باللهجة العامية العراقية التي هي رحم النص وهذه العادة أيضا كتابة جديدة للنص كأنما المسرحية التي أبدع فيها الممثلون السوريون فايز قزق ونضال السيجري هي في أداء مبدعين عراقيين عبود الحركاني وحيدر أبو حيدر مرايا الوجع العراقي والسوري. إن مهمة المسرح الأولى هي طرح الأسئلة وفتح باب الذاكرة وتحفيز العقول على ادراك كل ما يمكن وحتى المستحيل. فمن هذا المنطلق سعيت بـ “حمام بغدادي” الى تحفيز الوعي الإنساني أكثر، لمعرفة في أية مرحلة نحن اليوم. وكذلك فعلت وسأفعل مع أعمالي المسرحية الأخرى.”


يمثل جواد الأسدي حالة مسرحية ابداعية متمردة، ويجسد هذه الحالة بنبض أصيل ونشاط زاخر وفكر رصين. رؤية هادئة ثاقبة يمكنه من خلالها تحقيق جوهر العمل والفعل بما يرضي رغبة جامحة في نفسه وواقعه ومجتمعه. وعن هذا التمرد يقول : “ إن ما أحاوله في المسرح هو محاولة مستمرة لا يمكنني الا التوغل في مفاصلها، وذلك من أجل اكتشاف أنوار وجماليات ضوء في المسافة العامة والخاصة. انني أحاول باستمرار بناء أمكنة سينوغرافية مختلفة لا تتكرر ولا تقع في فخ الشكل الواحد لذاك أزيح الواقع المرئي إلى إدمان الناس على مشاهدته إلى واقع مشهدي كما لو أنهم يرونه جديدا حرا فيه لَبْس جمالي محبب بهذا المعنى أبحث عن لحظات أكثر سطوعا وإشراقًا وسحرا في الحياة. ويبقى المسرح هو اللغة والشكل والمكان والمعبر الأساس لتحقيق كل هذا النشاط الإبداعي.”


من المحاولات الفريدة في المسرح الأسدي هي تلك الأعمال التي ميزت مسرحه ،اذ عمل واشتغل على تفاصيل وخصوصيات جمة : ” لقد اشتغلت على اللغات كمنبع للثراء الإنساني ، لذلك وفي التمارين الخاصة للممثلين الإسبان الذين أشركتهم في أعمالي، جربت أن أرمي إيقاع اللغة الإسبانية في النبع اللغوي العربي ، الأمر الذي قادني الى اكتشاف إشارات ومنحنيات لغوية إسبانية باتجاه الرتم والإيقاع العربي . ثم وبعد شهور من التمارين آخيت بين إيقاع اللغتين لتبدوان كما لو أنهما من طينة إنسانية واحدة. ولم تتوقف التجربة عند هذا الحد من التواصل والغوص في التجريب والإبتكار المسرحي. وثمة أعمال أخرى تندرج في نفس السياق، نفذتها وسأنفذها.


ربما لا فارق بين جواد الأسدي المخرج المسرحي، وجواد المؤلف، هكذا تبدو شخصيته في حضرة أعماله المسرحية. وحين نسأله ماذا يريد المخرج جواد الأسدي من المؤلف جواد الأسدي ، يقول : “يريد جواد الأسدي المخرج في نزاعه الأبدي معه ككاتب أن يجد المظلة المسرحية لعرض مسرحي بصري حداثي بعيدا عن آفة السرد ويريد الكاتب الذي يسكنني أن يكون خادما للمخرج خصوصا في التصدي للواقع العراقي كما هو الحال في حمام بغدادي لذلك فإن التمارين اليومية مع الممثلين تفتح الأبواب دوما لإطاحة النص لصالح الإخراج والتمثيل.” ويرى ويتلمس في الأمر :” لذة عالية السحر تتمثل في هدم دائم وبناء جديد للمشهدية المتغيرة المدعمة بجماليات النور المرّ. انها متعة الحضور في الحركة والشكل، أو لذة فن الظهور“.


يرسم جواد الأسدي صورة الحياة على خشبة المسرح، وله مع كل مدينة مسرح وحكاية . فقد سكنتْ المدن عقله وقلبه وروحه ، ورغبته كبيرة في الكتابة المسرحية كما في الإخراج ، ولهذا النشاط بقية واسعة وكبيرة جداً في أعماق ذاته وأرضه وعالمه : “ الرحلة طويلة ، والطموح أكبر . صحيح أنني أستمر وأحاول، لكنني أسست في رحلتي المدينية مساراتي انطلاقا من أن العراق المحمول في رحمي أبديا سيبقى كذلك . ودائماً أجد نفسي في مهب الإحتمالات الصافية ، وأجد الذرائع المقنعة لهجرتي القسرية بأني مخلص للأمكنة التي يثمر فيها عملي بشرا وعروضا ونصوصا وربما مسرات. سأظل في مساحة مفتوحة، في مسافة تطل على مسافات لا تنتهي“.

One Response to المسرحي جواد الأسدي في الفضاء العربي الرحب

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    20 فبراير, 2021 at 12:56 م

    المسرحي جواد الاسدي احد عمالقة المسرح العربي في العصر الحديث انه يتوج على مسرح الحياة والفن والثقافة في كل مناسبة واليوم ان ما كتبه الشاعر الكبير اسماعيل فقيه عن هذا المخرج الفنان المسرحي البارز عالميا وعربيا انما ينم عن مشاعر صادقة واكتشاف جديد في هذه الشخصية الكبيرة للاسدي الذي هو موضع اعجاب وتقدير من محبي المسرحفي العالم …الف شكر لفقيه والاسدي على هذه الاضافة الى الثقافة العربية والانسانية اليوم .

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات