جستنيان الملك … هكذا عرفنا القانون

11:41 صباحًا الجمعة 5 مارس 2021
مدونات

مدونات

مساهمات وكتابات المدونين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

مقال بقلم : حاتم السروي

عندما نقرأ سيرة الملك الروماني “جستنيان” نراه دون شك ملكًا حكيمًا ذا عزيمة وعقلٍ راجح. آية ذلك إدراكه المبكر منذ توليه الحكم أن بناء المجتمع السليم والمتماسك إنما يقوم على القانون الذي عندما يغيب تشيع الفوضى ويغيب الأمن وتضعف الدولة ثم تنهار.

ومن فضائل جستنيان ومناقبه أنه أعطى العالم كله نموذجًا للعبقرية الرومانية في مجال التشريع. والتشريع كما يعرفه الدكتور أحمد عبد الكريم سلامة في كتابه (مبادئ القانون) يقصد به وضع القواعد القانونية في صورة مكتوبة بواسطة سلطة مختصة بذلك، أما القاعدة فهي المبدأ القانوني العام والمجرد الذي ينظم سلوك الأفراد وعلاقاتهم في المجتمع وتكفل السلطة العامة احترامه وذلك بتوقيع جزاء على من يخالف حكمه عند اللزوم.

والقانون بما يفرضه من واجبات ويقرره من حقوق يفرض نوعًا من التوازن المنشود بين مصالح الأفراد ويعمل على المساواة بينهم ولهذا فهو يحدد لنا الشروط التي يجب توفرها حتى تكون مصالحنا جديرة بالرعاية.

ومن هنا تبدو لنا في وضوح تلك العلاقة الأكيدة بين الحق والقانون؛ فالقانون وهو ينظم الروابط الاجتماعية للتوفيق بين مصالح الأفراد إنما يحقق هذا المعنى عن طريق بيان حقوقهم وبهذا فإن القانون والحق كلٌ منهما يكمل الآخر؛ لأن تنظيم القانون لحياتنا إنما يكون من خلال اعترافه بحقوق البعض في مواجهة البعض الآخر.

ونعود إلى جستنيان فنقول أنه أحدث طفرة في عالم القانون، والتشريع الذي وُضِعَ في عهده وبرعايته هو الأصل الذي تفرعت عليه قوانين فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وقد أعاده العلماء والمشرعون في عصر النهضة إلى دائرة الضوء ودرسوه من جديد، وجعلوه منبعًا لنظرياتهم القانونية، وإذا كان مجد الفراعنة في آثارهم، ومجد الإغريق في الفلسفة، فإن مجد الرومان ومأثرتهم الخالدة كانت في القانون. والسؤال الذي لابد أنه قد دار في أذهانكم الآن: من هو الإمبراطور جستنيان؟ وهاكم الإجابة.

Hagia Sophia or Ayasofya, a UNESCO World Heritage Site, that was a Byzantine cathedral before being converted into a mosque which is currently a museum, is seen in Istanbul, Turkey, June 28, 2020. Picture taken June 28, 2020. Picture taken with a drone. REUTERS/Murad Sezer

جستنيان هو إمبراطور روماني ارتبط اسمه بتجديد كنيسة (آيا صوفيا) التي بناها الإمبراطور قسطنطين أول إمبراطور روماني يعترف بالمسيحية، وكان اسم الكنيسة أولاً (صوفيا) على اسم القديسة القبطية (صوفيا) التي كانت مصرية تدين بالوثنية ثم اعتنقت الدين المسيحي وقتلها الرومان وكانوا حينذاك لا يزالون على وثنيتهم، وعندما اعترف قسطنطين بالمسيحية أحضر إلى مدينته التي بناها وسميت على اسمه (كونستنتينو بوليس أو القسطنطينية = إسطنبول حاليًا) رفات القديسة القبطية التي يحترمها المسيحيون كلهم ويعتبرونها من أعظم الشهداء، وحتى الآن لا يعرف الفرنسيون الكنيسة إلا باسم (سانت صوفيا)، لكن جستنيان غير الاسم إلى (آجيا صوفيا) عندما جدد بناءها، ومعنى الاسم (الحكمة الإلهية أو المقدسة) ويرتبط اسم الامبراطور جستنيان أيضًا بالقانون الروماني.

وقد ولد هذا الملك العظيم عام 483م في يوغوسلافيا (وهو اسم حديث نوعًا ما ومعناه قبائل السلاف، والسلاف هم الصرب والروس الذين كانوا يسمون قديمًا بالصقالبة، أما الاسم القديم لهذه المنطقة من العالم فكان “ثورسيوم”).

وكان عم جستنيان هو الإمبراطور جوستين الأول، وكان جستنيان فلاحًا أميًا وبعصاميته شق طريقه في الجيش وبالطبع فقد ساعده عمه، وكان يقرأ كثيرًا ويفكر ويتعلم في دأب وصمت واستمرار.

وفي عام 527م نظر جوستين في حاله وكيف أنه بلا ولد يرثه في الحكم فقرر أن يشاركه جستنيان في حكم البلاد لأنه محل ثقة ولما توفي الملك بعد سنة خلفه جستنيان وصار حاكمًا للإمبراطورية الرومانية الشرقية وعاصمتها بيزنطا أو (القسطنطينية) التي صار اسمها اسطنبول بعد فتح الأتراك لها.

الجدير بالذكر أنه قبل ولادة جستنيان بسبع سنوات كانت قبائل همجية قد انقضت على الإمبراطورية الرومانية الغربية وجعلتها أثرًا بعد عين ولكن إمبراطورية الشرق البيزنطية سلمت منهم وبقيت وبقي معها قوة الرومان ومجدهم حتى أخذ منها العرب المسلمون بلاد الشام ومصر وليبيا وتونس وبعد ذلك أخذت تضعف تدريجيًا حتى سقطت على يد المسلمين الأتراك تمامًا في الخامس من أبريل لعام 1453م والموافق 21 جمادى الأولى سنة 857هـ .

وكان جستنيان يعمل على الإستيلاء على أراضي الإمبراطورية الرومانية الغربية وضمها لملكه ونجح في ذلك جزئيًا حيث أخذ إيطاليا وشمال أفريقيا (الذي استولى عليه المسلمون بعد ذلك) وأخذ أيضًا جزءًا من أسبانيا.

وفي سنة 528م وفي وقت لم يكن قد مضى على تتويجه ملكًا إلا قليلا، أدرك أن القانون هو أفضل ما يقدمه لضمان قوته كملك وقوة بلاده أيضًا فالعدل أساس الملك وأمة بلا قانون هي إلى قطعان الماشية أقرب منها إلى المجتمعات الإنسانية وهي أمة همجية، والهمجية علامة ضعف، وليس صحيحًا أن القانون للضعفاء أما الأقوياء فإنهم يحصلون على حقهم بأنفسهم، فهذا كلام السذج وبؤساء الفكر، لأن علامة انحلال الدول ضعف القانون، وسيطرة شريعة الغاب، والضعيف الذي يُسلب حقه سوف ينتقم ممن ظلمه ذات يوم، وبذلك ندخل في دائرة لا تنتهي من العنف والعنف المضاد، وتضيع حقوق الناس وتعم الفوضى، والسبب أن القانون لم يُطَبَّق من المرة الأولى. لذلك لم يألُ جستنيان جهدًا في خدمة القانون ودعمه، وشكل من فوره لجنة لوضع (قانون عام) وقد أنجزت هذه اللجنة عملها سنة 529م ثم عادت فراجعت ما صنعته وأصبح القانون ساريًا منذ عام 534م وتم إلغاء جميع القوانين المتبعة والمدونة قبل ذلك.. والسؤال الذي يرهقني وأرجو منكم الإجابة: لماذا لا نحترم القانون ولا نهتم بالثقافة القانونية، ولماذا لا نعالج أنفسنا من أمراض الجهل والتأخر والتي منها الجهل بالقانون ؟ وإذا كان البعض لا يرى الجهل مرضًا فهذا في حد ذاته مرض خطير.أليس كذلك؟!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات