الشاعر وديع سعادة لم يغادر وطنه، لم يترك روحه: ” الابتسامات موجعة أمام البحيرات”

08:51 صباحًا الخميس 11 مارس 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

غادر الشاعروديع سعادة وطنه لبنان منذ ما يفوق ثلاثة عقود، مهاجراً الى استراليا، ومنذ تك المرحلة وهو في طريق الذهاب الى أقصى الغياب. لكنه لم يصل الى الهجرة بقدر ما بقي خارجها، جاثماً في الحضور الدائم ، في ظلال مكانه الأول، وطنه. وطأ أرض الهجرة ولم يطأ مداها المفتوح، بقي في الذاكرة ينشد الحنين لمقسط روحه. ولد عام 1948 في قرية شبطين شمال لبنان، وعمل في الصحافة العربية ببيروت ولندن وباريس، قبل هجرته إلى أستراليا في أواخر عام 1988، ومازال يعمل في مجال الصحافة والكتابة، والأهم يواصل القصيدة، يكتبها وتكتبه.

وديع سعادة يتحدث إلى إسماعيل فقيه

صدرت لوديع سعادة أكثر من عشرة دواوين شعر، باكورتها “ليس للمساء إخوة”، و”المياه المياه”، و”رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”، و”مقعد راكب غادر الباص”، و”رتق الهواء”، و “بسبب غيمة على الأرجح”، و”قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله .. ويليه .. من أخذ النظرة التي تركتها وراء الباب ؟”، وسواها من الأعمال الشعرية والنثرية الرائدة..


في كل عام يعود وديع سعادة الى مسقط رأسه، يزور وطنه ، بل يعود لزيارة وطنه ، كما يقول. لا يترك استراليا ، ولكنه يعود الى وطنه، ليرى ويسمع صوت الحياة التي صنعته وصقلته ، وأنتجت قصيدته. بل ربما يزور استراليا ويعود الى لبنان، والعكس بالعكس. وفي عودته زيارته الاخيرة للبنان، وصل الشاعر الى شبطين، وتلقفته أرضه، وتلقفها، عانقها وعانقته، وكان لبيروت الحصة الأولى من إطلالته الأولى، بجلسة شعر، أمسية شعر أحياها في شارع الحمراء، حيث تحلق حوله عشاق قصيدته ، وكذلك كان لي معه عناق وحوار ، حيث التقينا بحوار ثقافي شعري، في ليل بيروت الذي يعشقه الشاعر، غلب فيه الحنين كل شيء:


قال الشاعر وديع سعادة في أول الكلام : ” رغم عودتي وحبي وأشواقي الباهظة لوطني ، أشعر اليوم، وكما في السابق أن لا مكان لي . لقد تغير مفهوم المكان، وحنين المكان . أشعر اليوم أنني، مثل سواي ، أعيش في الزمن ، لا في الجغرافيا الثابتة . لم يعد يعيش في زمننا ذاك الفلاح الذي يتشبث بأرضه وتراب وأشجار وزهور أرضه. نحن اليوم سواح في أرض الزمان المتحرك، نصول ونجول كمن يتحرك في المتاهة . نطير ونمشي ونحط ثم نعود ونتحرك ونطير ، من الحنين الى الغربة والمطارات والمدن البعيدة الى المتاهة المتجددة. اننا نعيش مع الجحيم وربما في قلب الجحيم . لقد تغيرت الحياة، رأساً على عقب“.


بعد سؤالنا له عن لحظة ولادته ومجيئة للحياة قال وديع بنبرة دامعة : “الحياة يا صاحبي جميلة ولكنها صعبة وقاسية، قد ندركها وقد لا نستطيع ادراكها.. مرة كان والدي في أيام الحرب يبحث في البراري عن عظمة، ليطحنها بحجر ويسدّ جوعه. من نسل تلك العظام المطحونة خرج أطفال، كنت واحدا منهم؛ كنت ابن عظمة مطحونة. وما زالت الحياة تطحنني وتطحن زمني وخطواتي“.
يسترسل الشاعر وديع سعادة بالحديث عن طفولته، وعن علاقته بالمكان الأول، الرحم الأول، عن البيت عن العائلة، عن علاقته بوالديه، وماذا تبقى من كل ذلك في شخصيته على الصعيد الشعري والإنساني، وعن فكرة الأبوة في الشعر، وقال: “أنا قروي ابن قرية وديعة تقع في شمال لبنان، وكانت ولادتي في بيت متواضع سقفه من تراب وأرضه من تراب، وعشت طفولتي مع الشجر والتراب، وأظن أني لا أزال أحمل ذاك التراب إلى اليوم في قلبي، وأينما ذهبت وحللت“.
أضاف قائلاً: “أنا ابن تلك الطبيعة البريئة، ابن ذاك الزمن الفاتن، وكذلك ابن القسوة التي يعاني منها القرويون لا سيما الفقراء منهم. فأبي مثلا لم يكن يملك ثمن لعبة يقتنيها لي، وعلمته هذه الظروف القاسية وتلك الأحوال الصعبة أن يكون قاسيا أيضا مع أولاده، لكنه بالتأكيد كان يحبني، وتعلمت منه ومن أمي أن أحب الناس والطبيعة والحيوانات أيضا. لا شك أن تلك الطفولة كان لها تأثير كبير عليّ، على الصعيدين الإنساني والشعري معا. فأنا ابن تلك الطفولة أولا ثم انني ابن كل ما مرّ في حياتي بعد ذلك، كل ما عرفته من أمكنة وناس وزمن. أما بالنسبة إلى الأبوة في الشعر، فأعتقد أن كلا منا هو ابن كثيرين، شعراء وغير شعراء، مرّ بهم وتركوا أثرا ما في شعره وفي مفاهيمه الحياتية، وكذلك هو ابن كل التجارب التي مرّت في حياته. لذلك لا أعتقد أن لأي شاعر أبا واحدا، ولست أنا كذلك أبا لأيّ شاعر“.
وتأخذه الذكريات والذاكرة الى الماضي الجميل الذي عاشه في بيروت، يتذكر الشاعر تلك الليلة “الساحرة” في بيروت، حيث ” التقيت بالشاعر العراقي الراحل سركون بولص في مقهى (الهور شو) في الحمراء، ثم ذهبنا الى الكاتبة الكبيرة غادة السمان التي كانت تجالسنا المقهى، وقلنا لها اطلبي ما تتمنين، فقالت ، أريد أن تدفنوني الآن في مقبرة بيروت، وبالفعل نهضنا ، سركون وأنا وأمسكنا بيدها وذهبنا بها الى مقبرة الباشورة، وسط بيروت، وتمددت غادة هناك على بلاطة في المقبرة وقالت، هذه راحتي الآن تكتمل. وكم ضحكنا بعد تلك الليلة المجنونة والجميلة“.
عاتب جداً على ما آلت اليه الظروف في وطنه، ويقول الشاعر، بنبرة حزن كبيرة : ” عاتب وحزين وقلق ومتعب ومهدود جداً، كل هذا التعب نابع من حسرتي على وطني، لأنه ما زال بلا مسافة. لا مسافة حضارية قطعها أو يريد أن يقطعها ويعبرها. في وطني اليوم، لا قيمة للإنسان، لا معنى للحضارة، يضربنا التخلف من كل حدب وصوب. أين حقوق الإنسان، أبسط الحقوق للإنسان مفقودة. وأشكر نفسي لأنني نجوت بعائلتي وأخرجتها من وطني الى بلاد تحترم الإنسان وحقوقه، بعكس ما يحصل في بلادي!!.”
وسرعان ما ينتقل للحديث عن الموت. فكرة الموت تتجسد جلياً في أفكار الشاعر، يتطلع الى الموت من زاوية الإعتراض على “صعوبة الحياة وتخلفها”، ويتجرأ ويقول والحسرة في قلبه، بلغة دامعة وقاسية : ” فكرت كثيراً بالإنتحار، وما منعني عن تنفيذ هذا الهروب ، هو خوفي على ما سيحل بإبنتي من صدمات ونكبات.يغريني الموت، لأنه الراحة والطمأنينة، وأنتظره بشغف
“.


تبقى قصيدة النثر تمثل له الكثير من الأمل في التطور الشعري، ويرتفع منسوب طموحه لبناء القصيدة المحدثة. ويقول : “لا نهاية للطموح الشعري، لكن قصيدة النثر ليست سهلة وليس كل من يكتب ما يسميه قصيدة نثر هو شاعر“.
وحول تقلص حضور قصيدة النثر والشعر بشكل عام في زمننا الراهن ، يقول :”لا شك أن قرّاء الكتابة الورقية يقلّون يوما بعد يوم، فالعالم يتغير ونأمل فقط أن يحافظ هذا التغيير على الثقافة، شعرا وغير شعر، سواء بالكتابة الورقية أو بأية وسيلة أخرى. ربما خف قراء الشعر بسبب الغزو التكنولوجي، لكن مهما قلت القراءة وخف جمهور الشعر، تبقى القصيدة منارة ، قاريء واحد بإمكانة إضاءة زمنها. القصيدة نور فوار“.
وعن الثقافة يتحدث قائلاً : “الثقافة هي أيضا احترام الاختلاف، في الرأي والمعتقد والممارسة وما إلى ذلك. لذلك فالتيارات العديدة في أيّ مجتمع هي علامة إيجابية شرط أن تتعامل هذه التيارات بين بعضها البعض بديمقراطية. من هنا، فإن الثقافة والحرية في المجتمع العربي وفي أيّ مجتمع آخر لا تتحققان إلا بهذه الديمقراطية“.
منابع خياله الشعري غزيرة، ويتحدث عن هذه الينابيع بلغة الشعر، ويقول : “انها تنبع من عمق الماضي والحاضر والمستقبل معا. الشعر في حياتي هو لغتي وقولي ومساحة عيشي..
ذات مساء ليس له إخوة كتبت: بينما كنت تعبر أمكنة واسعة/ كان ثمة شيء يشبه الحب يتذكرك/ أما الآن وقد قطعت شوارع غير مدثرة/ وودّعت أرصفة كثيرة/ فالأمل الذي أراد التحدث إليك عند كل خطوة/ يكف عن النداء/ أنت يا من حسب أنه عبر كل الأشياء/ جلست وقتا أطول في مقهى الماضي..
ينبغي الاعتراف بأن الأيام/ ترسو كضفادع ميتة/ وتجعل الابتسامات موجعة أمام البحيرات/ وأن المحبة ملح أزرق/ ملح يسقط الآن وحيدا.. وأزرق/.

يعترف الشاعر أن المخزون الشعري للشاعر هو “مخزون العالم”: ” بقدر ما يكون الشاعر على تماس مباشر مع العالم، بقدر ما يستطيع بلورة قصيدته وتوجيهها .. الاحتكاك بالحياة، بكل ما فيها من ويلات وجمال وحب وعذاب…، أمر فعال يبلور القصيدة في أعماق الشاعر“.
ويحدثني وديع سعادة عن الحب، عن المرأة قائلا: “من في قلبه وشعره محبة للإنسان تكون في قلبه وفي شعره محبة للمرأة والرجل معا بلا تفرقة بينهما. أنا لا أكتب للمرأة ككيان منفصل، بل أكتب للإنسان عموما وهذا يعني أني أكتب للمرأة أيضا، بعيدا عن شعر الغزل الذي بات مستهلكا ومكررا منذ ما قبل قيس حتى اليوم“.
الحب هو النشاط الحيوي الوحيد الذي يحرك العالم ــ يقول الشاعر وديع سعادة ــ ” لأن مفعول الحب في الذات البشرية يحقق الأمان والطمانينة، ويساهم في بلورة وعي الحياة. الحب مسافة عيش وحياة، يسلكها الإنسان، ويتمنى أن تستمر، لكنها محدودة ، ولها نهاية، لذلك لا بد للإنسان أن يعي الدرب، درب الحب، يجب أن لا يفوته ويتركه بسرعة. ولكن أيضاً أعتقد أن الأمر ليس بيد الإنسان وحده، الحب حالة قائمة وتقوم على نشاط الإنسان ووعيه“.
أضاف قائلاً : ” الحب ليس محصوراً بين رجل وامرأة فقط. الحب هو حب قائم في كل شيء، في كل مكان، في كل زمان. الحب مناخ الحياة الأجمل، لا يمكن الا أن يكون كل الفصول الساحرة للإنسان وسائر الكائنات“.
كلام كثير وأحاسيس فوارة بثّها الشاعر وديع سعادة في حوارنا المشوق، في تلك الليلة المشوقة. كان يتحدث كما لو أنه يغني ويسلطن طرباً. لم يكن يريد لحوارنا أن يتوقف، لكن الليل، ليل المدينة أطبق علينا جيداً، وكان لا بد من الإنصراف والذهاب الى البيت. وذهبنا سوياً، وديع وأنا في سيارة واحدة، ثم افترقنا ، كل الى بيته. وبقيت الصور في المخيلة، صور المدينة في لحظة الشعر، كأنها العالم كله هنا

One Response to الشاعر وديع سعادة لم يغادر وطنه، لم يترك روحه: ” الابتسامات موجعة أمام البحيرات”

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    11 مارس, 2021 at 1:52 م

    الشاعر وديع سعادة
    شاعر مختلف لا خلاف على فرادته له قاموسه وخارطة تحركه وسعيه المستمر من أجل لغة ذاتية خاصة جدا” تستمد روحها من مكان بعيد يقع جغرافيا” بين الحب والارض والطفولة والشعر
    يبدو سعادة خلال اعترافاته اكثر حركة باتجاه الحياة
    غير ان الغربة سكين الماضي والحاضر والمستقبل: هي مكان مادة الشعر وفي مكان آخر ضريح العبارة الحي
    ..ان وديع سعادة في الحوار الذي أجراه الشاعر المفوه ذهبي الكلام والفم المشعرن الناقد اللبناني الدولي اسماعيل فقيه المتابع للعالم المتجدد في الشعر والثقافة في الواقع اللبناني والعربي والدولي ، انما يؤرخ ويختزن مادة كتابة ليست بالضرورة مادة للحفظ او الغموض انما هي مادة من زجاج للمرآة التي تنعكس فيها وعليها ومنها لتعود الى سماء لا تعرف السراب
    ، بل انها الحقيقة : حقيقة ان الشعر جزء من الاستشراف الفعلي لماهية الحياة والحب والموت والاشياء لدى سعادة
    . وبعد : اني أقر وأعترف بأن وديع سعادة ، الوديع الدائم لسعادة هي الحلم ، بل هي قصيدته نفسها التي يفسرها ومن يحبه فقط..

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات