جوزف حرب … شاعر لا يرحل تلك خطواته … والأمكنة قصائده

09:44 مساءً الثلاثاء 16 مارس 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

ولد الشاعر اللبناني الأشهر في قريته المعمرية جنوب لبنان 1944وتوفى 2014.. عاش عمره كله مع الشعر والقصيدة ، وأجمل أغاني فيروز من كلماته.
جوزف حرب شاعر ينتمي إلى شاعريته، له في اللغة مناخات جمّة. ربطتني به علاقة صداقة امتدت لسنوات طوال استمرت حتى وفاته.
الشعر بالنسبة له مساحة حرية، وأمكنة كثيرة يتجوّل فيها قليلاً وكثيراً. الانسان في قصائده وردة حضور عاصفة. والجمال مندلع في كل كلمة يكتبها وتغنيها السيدة فيروز.

إنه الشاعر جوزف حرب، الذي جَمَعَ اللغة، كلها، ووضعها في بحر أشعاره. أكثر من عشرين كتاب، مجلدات شعر أصدرها حرب حتى . وكلها تصبّ في بحر العذوبة. تجري أشعاره كالمياه، ويمكن تشبيهها بشلالات هائلة، فاعلة ومتفاعلة، وتحتد وتشتد في كل فصل. لا يخفّ وهجها، إنها مستمرة دون عناء.
كتابه المميّز «المحبرة» مجلد ضخم تجاوز الألف صفحة، كتبه جوزف حرب خلال (دهرٍ) من الحياة، ويعتبره الكتاب الأهم في حياته، ولا يخفي إعجابه بما كتبه، ويجاهر بأنه كتب كل شاردة وواردة شعرية فيه.
في كتبه الأخرى، جازف حرب بالشعر، وحاول الوصول إلى أعلى القمة، ولم يكن في حسبانه إلا الصعود إلى نفسه – الجالسة فوق، بالقرب من إقامة يشتهيها دائماً.


الشعر بالنسبة لجوزف حرب «هو كل شيء»، كل ما فعله هو من منبع الشعر، ويقول مفسِّراً: «الشعر أعطاني كل شيء، جعلني أتعرّف على كل الحياة. الشعر لغة ساهمت في بناء مفهوم الحياة، فتح لي الطريق لولوج تفكير خاص. أعتقد لو أن الشعر غائب عن حياتي، لكنت في طريق آخر، وفي مناخات أخرى. رسم الشعر معالم حياتي ويمكنني القول: كل شيء أفعله في هذه الحياة لا يحيد عن الشعر».
يعترف حرب أن القصيدة أعطته حرية ومدّت له يد المساعدة: «أعطتني مساحة لأطلّ من خلالها وأقول ما يعتمل وما يجيش في كياني».
التزم جوزف حرب كتابة القصيدة الطويلة، والأمر أقرب إلى الملحمة وهو يسمّي هذا العمل «المطولة الشعرية». ويرى أن هذه المطولة الشعرية «هي خصوصية تمثل مشروعاً شعرياً انطلق منه إلى كل اللحظات. كل ما أود قوله في الكتابة يأخذني إلى المطولة الشعرية. أو العمل الشعري الطويل. ولا أرى في ذلك إلا تجسيداً لمشروع شعري أنشد عماده الأساسي الانسان. لقد دخلت إلى كل المساحات، وتوقفت كثيراً ومشيت أكثر. وإنني من الشعراء الذين عرفوا وذاقوا طعم الخيبات الكثيرة والأحزان العميقة. ولكن، لا بدّ من خلاص، لا بدّ من فجر يداوم في بهجة الوجود. والسؤال الكبير: كيف يمكن الخلاص؟ الجواب من أولى مهام الشعر».
الحزن الذي تحدث عنه حرب هو «تعب داخلي، تعب من جراء التفتيش عن مساحة ولادة تساهم في ضخّ الجديد المتجدد». ورغم هذا التعب الكبير الذي يعانيه الشاعر، إلا أنه، يجد، دائماً منفذ حب وعاطفة: «بعد كل تعب أستريح في فيء ذكرى أو شجرة أو أبوّة أو أم. مرات كثيرة، أشعر بالتعب الكبير والارهاق الداخلي، فأستريح عند الحدائق الفاتنة، بين زهور القصيدة، وتكون استراحة المغامر أو البحّار».
الحزن المخيم في بعض النواحي من أشعاره هو حزن له امتداداته في الأسئلة الكثيرة، أسئلة الحياة والوجود، ويختصر الشاعر تفسير هذا الحزن بكلام مقتضب: «نأتي إلى هذه الحياة لنفتش عن حزن أقلّ». وحين يلح عليه سؤال الفرح يقول: «لم نحضر إلى الحياة لنفتش عن فرح أكثر»، ويكرر كلامه «يجب أن نفتش عن حزن أقل».
هكذا كان وهكذا هو جوزف حرب، لا يوارب ويشير إلى فداحة الحزن في أيامه ويسعى إلى «حزن أقل»، وتبقى القصيدة هي الشفيعة، شفيعته في هذا المصاب.


المرأة – العاطفة ؟
الحب والمرأة، كلاهما عاطفة خارقة في أيام الشاعر، وفي السؤال عنهما، يصرخ الشاعر بأعلى همسه ويعترف أن «الجسد كارثة، يأخذنا إلى حالة جهنمية، إلى انقلاب دموي. الجسد حطام، مأساة، صراع هائل مع النفس. مرات كثيرة أتحدى جسدي ومرات أشعر أنني مقاوم شرس في سبيل جسدي.. كل هذه الأمور والتفاصيل لا يمكن إلا أن تكون مدخلاً إلى لغة خاصة. وحين أصل إلى أعماق نفسي في لحظة التجلّي، أشعر أنني لا أستطيع العيش والحياة مع المرأة إلا بأسلوبي الشعري، بأدوات الشعر التي ترافقني في حلي وترحالي».
إنها العاطفة من المنظور الخاص، عاطفة الخلاص – كما يسمّيها – وعندما أطرح عليه سؤال العاطفة بكل ما تعني من حب يقول: «أعيش في صلبها وأذهب إلى أقاصيها وأتوغل في برها وبحرها، إنها الحيرة الخطرة، مكان الحيرة الخطر. العاطفة في حياتي بلاد ممطرة لا تعرف الشمس».
لكنه يعترف أنه «رجل المرأة الواحدة»، ولا زيادة على هذا التفسير إلا بالكلام القليل: «أقصد بالمرأة الواحدة، المرأة الحالة، حالة لا متناهية». وإذا ألحّيت بالسؤال الواسع يردد ما قاله عن المرأة الحالة ويزيد: «هي الخلاص».
«القبض على الجمال» ؟
مهما حقق الشاعر من حضور، ومهما قبض على الأشياء والأفعال والمناصب، تبقى قناعته في مكانها. القبض على جمال الحياة، جملة لا يتقبّلها الشاعر، لأن «القبض على الأشياء، حالة وهم عالية. علينا أن لا نقبض على الأشياء، وإذا حاولنا ذلك نخسر الحرية، والشوق إلى بلوغ الوصول». ويشبّه الشعر بالأمر ويقول: «القبض على الشعر، يعني خسارة الشعر. أجمل القصائد تلك التي تشعرك برغبة الوصول إليها، بالشوق إلى بلوغ مساحاتها وحريتها. القبض على جمال الحياة، يعدم الجمال أو يسجنه ويحوله إلى دائرة ضيّقة تخنق من بداخلها. الجمال الجاذب هو ذاك الجمال الذي ننشده ونسعى للوصول إليه». (الكتابة ؟)
الكتابة في حياة جوزف حرب صعبة وطقوسها أصعب، وحين يتحدث عنها، يشعرك وكأنه بدأ للتو في الكتابة، فيرتفع، بالكلام، وينضح بالصوت ويقول: «الكتابة حيرة هائلة ترتسم في كياني، تسيطر وتشعرني بالخوف. مرات أشعر باليأس. ومرات أشعر بأنني مطرود. وقد تمرّ أشهر ولا أستطيع كتابة كلمة واحدة.. شعور فوّار ومفتوح على كل أنواع الحيرة. ولكن عندما أصل إلى مساحة ما أنوي كتابته، عندما أنتهي من كتابة نصّ ما، أشعر وكأنني استطعت الهرب من سجن تحت الأرض، وكأني نجوت من الموت المحتم. بل أكثر من ذلك، أشعر وكأني نجوت من الاغتيال. طقوس الكتابة مذهلة وتكاد تكون لحظة الكتابة، حالة رعب هائلة تحتشد فيها كل المذابح والجنون والعذاب والويلات والاذلال.. ورغم كل هذا النشاط الانتحاري، خارج نطاق القصيدة والشعر، أشعر أنني لا شيء، أشعر أنني خارج الحياة».
اعتراض كبير على قوانين الحياة التي صاغها الانسان يبرز جليّاً في كلام الشاعر، وهو اعتراض كبير ويسعى إلى التغيير، ويقول حرب: «إذا دخلت إلى كل إنسان حقيقي، إلى قلب الشاعر، ستجد هذا الرفض وهذا الاعتراض، وهذا النشاط الذي يسعى إلى التغيير، وأنا بالتأكيد واحد من الذين يحلمون بالتغيير وتحويل العالم إلى فردوس أرضي». «المحكية اللبنانية» ؟


كتابة المحكية اللبنانية لا تقلّ أهمية عن كتابة قصيدة الفصحى عند جوزف حرب، لأن «المحكية هي لغة الناس وهي مليئة بالشعر الذي يخاطب جوانيه الانسان». أما الأغنية التي كتبها حرب، فهي أيضاً تندرج في سياق خاص «كتابة الأغنية تختلف كثيراً عن كتابة القصيدة، فالأغنية مرتبطة بالموسيقى واللحن ولا تخضع لميزان القصيدة. من هنا يمكن الفصل بين القصيدة والأغنية. كتابة الأغنية ليست سهلة كما يتصور البعض».
«الريف» ؟
عاش جوزف حرب في قريته عدة سنوات حتى وفاته.وكان يرى في هذه المساحة الجغرافية «صورة الحياة الطبيعية. إنها المكان الطبيعي الذي أداوم فيه كي أحقق حضوري الانساني الطبيعي. ليست المدينة مكان سيء لكنها بالتأكيد لا تحمل ولا يمكن لها أن تقدم للإنسان الحياة الخاصة التي يمكن أن تتوافر في الريف. الريف مكان الانسان الجميل الذي يساعد على بناء الصفاء الداخلي للإنسان».

One Response to جوزف حرب … شاعر لا يرحل تلك خطواته … والأمكنة قصائده

  1. محمد درويش الاعلامي الشاعر رد

    17 مارس, 2021 at 1:48 م

    الشاعر الراحل في الجسد والروح معهما مقيم هو جوزف حرب يعود اليوم مع مقالة الشاعر البارز اسماعيل فقيه الى دائرة الضوء ليكتسب من جديد ابعاده الانسانية الجميلة ومنها يفوح العطر الوجداني لشاعر غنت له المطربة بل الفنانة الاولى فيروز احلى الاغنيات
    وما زال جوزف حرب كل صباح يصدح بالحياة والأمل والعطاء
    ..ان الكاتب الجميل أنيق العبارة الأستاذ الشاعر الدولي العربي اللبناني اسماعيل فقيه من خلال ما كتب عن جوزف حرب انما يصلي من اجل ولادة القصيدة الدائمة لفعل الحياة الدائم و معنى ان يبقى لبنان وان تبقى فيروز وان يبقى الشعر بكل جماليته وازدهاره .
    .دعونا نقرأ من جديد بعض ما خطه قلم اسماعيل فقيه الشاعر الانسان الصديق الحنون من جميل العبارة وصدق القول والمعلومة الثقافية المتقدمة كي نتعلم اكثر من مدرسة حرب ما قاله الفقيه الشاعر اسماعيل وهو محق الى ابعد الحدود
    … فألف تحية له في مناسبة هذه الدراسة التي اعدها عن حرب بكل ما فيها من سلام العبارة وسلاستها وشموسها وقمرها المضيء الى نهاية الشعر والكون والاشياء البارعة المتوهجة المزركشة مثلها كمثل واحة من ألماس وذهب….وشعر … …

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات