ألف حكمة وحكمة صينية اختارها وترجمها أحمد السعيد

10:40 مساءً الأربعاء 17 مارس 2021
محمد ماهر بسيوني

محمد ماهر بسيوني

باحث أكاديمي وناقد أدبي مصري

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“الكلمات كنوز، وإنفاقها النطق بها”.(ابن عربي)

تُودِع الأممُ والشعوبُ حكمتها ورؤيتها للعالم وأعرافها وتقاليدها وتراثها الثقافي في فنونها وآدابها، مرشدةً لها في سلوكها، وكنزًا مخبوءًا تحفظ فيه قِيمها، وميراثًا لمن يستجد من أجيالها، يعيدون قراءته، ويضيفون إليه كلما عادوا إليه، مستلهمين روحه لمواجهة مشكلات واقعهم وتحدياته، الذي لا يكف عن التغير بإيقاع متسارع.وهذه الحكمة لن تظل حكرا على شعبها، بل من أطوار حياتها الممتدة أن تنتقل إلى الشعوب الأخرى، نتيجة الجوار الجغرافي أو التبادل التجاري أو الاحتكاك الثقافي أو حتى الغزو العسكري!

ولذلك نشأ علم الترجمة، حين تجد أمة نفسها مدفوعة دفعًا إلى تعلم لغة أمة أخرى لأغراض شتى: اقتصادية أو سياسية أو ثقافية.وفي العصر الذهبي للدولة العربية -ألا وهو العصر العباسي- أنشأ هارون الرشيد أول دار علمية باسم: “بيت الحكمة”، اتخذت من بغداد عاصمة الدولة مقرا لها، وذلك لترجمة تراث اللغات الأخرى، مثل: اليونانية والفارسية والسريانية وغيرها من اللغات إلى العربية.

وعلى الرغم من أن العرب قد نقلوا اختراع الورق عن الصينيين، فإنهم -ويا للعجب- لم يهتموا بالترجمة عن اللغة الصينية! فلم تلق الثقافة الصينية ما تستحقه من العناية والاهتمام منا نحن العرب، مثلما وجدت العلوم الطبيعية من طب وفلك وهندسة وفلسفة يونانية وسياسة ساسانية فارسية. فلم يلتفت عصر الترجمة الذهبي إلى الحكمة الكونفوشيوسية الصينية التي تجمع ما بين الفلسفة والسياسة والإدارة.

وعلى الرغم من التبادلات التجارية ما بين العرب والصين -نظرا لإدراك العرب عظمة الصناعة الصينية- فإنهم لم يشغلوا أنفسهم بالبحث فيما وراء هذه المنتجات الصناعية من وعي عقلي وتراث ثقافي. وبقي العقل العربي في ذلك الطور الحضاري من تاريخه أسير تقسيم محدد سلفًا، يرى الفلسفة والعلوم الطبيعية يونانية والحكمة هندية والسياسة فارسية والصنعة صينية. فبقيت الحضارة الصينية مجهولة لدى العقل العربي، الذي اكتفى بحسن جوارها والتبادل التجاري معها.وحين اضمحلت الدولة العربية وانقسمت، واحتلتها الدول الغربية في بواكير العصر الحديث، رأى العرب أن يكون هدف نهضتهم هو تقليد الغرب؛ فيمموا وجوههم نحو ثقافته وآدابه، ينهلون منها ما يعينهم على إحياء حضارتهم وبعث مجدهم التليد، وبذلك كرروا نفس خطئهم في عصرهم الذهبي، فلم يلتفتوا إلى ثقافة وآداب الحضارة الصينية الشرقية مثلهم، والتي لم يروا منها غزوًا بل حسن جوار طويل العهد.

وحين بدأ عصر التحرر الوطني، عقب طرد الاحتلال الغربي من البلاد العربية، وبعد وصول الحزب الشيوعي بقيادة الزعيم ماو تسي دونغ إلى حكم الصين، توثقت العلاقات السياسية ما بين الأمتين العظيمتين، وكانت كلٌ منهما عونًا للأخرى وداعمة لها في المحافل الدولية، ولكن بقيت التبادلات الثقافية مهضومة الحق، وبقي العرب لا يعرفون من الثقافة الصينية ما يعادل ما يعرفونه من الثقافة الغربية.

لقد بقيت منابع الثقافة الصينية مستغلقة على العرب، حتى ظهر جيل جديد من المترجمين يريد أن يستكشف تخومًا ثقافية مغايرة ومختلفة عن السائد والمألوف، وينظر إلى شمس الحكمة من مشرقها لا من مغربها.ومن رواد هذا الجيل من المترجمين: “أحمد السعيد”، الذي كان من طلاب الدفعة الأولى لقسم اللغة الصينية بكلية اللغات والترجمة في جامعة الأزهر الشريف، ومؤسس مجموعة بيت الحكمة للثقافة، التي استلهم اسمها من أول دار علمية عربية للترجمة: “بيت الحكمة”.

ولكنه لم يكتف باستدراك الخطأ الذي وقعت فيه بعدم ترجمة عيون الحكمة الصينية، بل زاد على ذلك بترجمة كنوز الآداب والثقافة العربية إلى اللغة الصينية، حتى صارت مؤسسته بحق جسرا عظيما للتبادلات الثقافية ما بين الصين والدول العربية، وممرا سحريا لتقارب الأمتين العربية والصينية وتعزيز تفاهمهما المشترك، وتقليص الفجوة المعرفية بينهما.وأحمد السعيد يمتلك ناصيتي اللغتين العربية والصينية، حتى إنه -إلى جانب الترجمة- يؤلف كتبا بهما معا، كما يعمل على تكوين أجيال جديدة من المترجمين، عن طريق تدريبهم على الترجمة الأدبية، التي تعد أصعب أنواع فن الترجمة، ويمنحهم بذلك ثمرة تجربته الطويلة، وخبرته العملية الناتجة عن اطلاعه على الثقافة الصينية وحياته العملية بها، التي امتدت لعشر سنوات حتى الآن قضاها في الصين، صار فيها باحثا في الشأن الصينى، ومتخصصا في الإثنولوجيا الصينية، وحاصلا على جائزة الدولة الصينية للتميز الخاص في مجال الكتاب، والمسؤول عن ترويج الكتاب الصيني في الدول العربية، وسفير معرض بكين الدولي للكتاب. وهي مناصب قَلَّ من يحصل على أحداها.

وفي أحدث كتبه: “ألف حكمة وحكمة صينية“، ينتخب أحمد السعيد نصوصا من الحكمة الصينية موزعة على مواضيع شتى؛ فنجد فيها جزءا عن نظرة الصيني إلى الحياة، وجزءا عن الحافز الإنساني من وجهة نظر صينية، وجزءا عن فلسفة الصيني ورؤيته للعالم، وجزءا عن المشاعر التي يحس بها الإنسان الصيني، ويختتم مختاراته بجزء فكاهي، يستكمل فيه تعريفنا بالإنسان الصيني في لهوه ومزاحه، كما عرّفنا به في كدّه وجدّه.

وهو في ذلك كله يرتاد بنا بقاعًا مجهولة ويرشدنا إلى مناطق غير مأهولة، ويتجول بنا ما بين الأمثال الشعبية، والحكايات التراثية، والاقتباسات الفلسفية، والمقولات السياسية، والمقتطفات الأدبية، إلى جانب العبارات التي ينتشر استخدامها على منصات التواصل الاجتماعية الصينية. الأمر الذي يشي بسعة اطلاع على الخيال الأدبي الصيني وواقعه وعلى ماضيه وحاضره، وهو ما يؤكد اللقب الذي أطلقه الصينيون عليه: “ماركو بولو العرب”.

تقديم للكتاب كتبه محمد ماهر بسيوني، وهو ناقد أدبي وأكاديمي مصري، يعمل محاضرا للغة العربية في الصين.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات