صباح الخير
صباح الخير يا جارتي وديعة . كيف الحال ؟
بخير ، بألف خير . فالذي يرضى يعش . هكذا أجابت جدتي وديعة .
يترتب الكلام . يترتب على شكل جمل ، لكي تكتسب الأحرف بعضا من معانيها ، يترتب الكلام لكي نسمعه أولا ثم لا نعد ندري لاحقا بأي مكان احتفظت به الذاكرة . لعله يمر مثل سحابة سريعة في سماء الفكر . أم أن هذا الكلام الذي سمعناه يوما قد نسج خيوطه في مكان قصي من دهاليز القلب .
الذي يرضى يعش . الرضا : ما هو ؟ ومن أين منطقه في النفس البشرية ؟ يشرب ماؤه ؟ ينشر بذوره ؟ . ومتى يكون الحصاد ؟ بل متى كان الزرع ؟ . الذي يرضى يعش . لا أقصد ذاك الرضا الذي تتكلم عنه الشفاه . لذلك أتوسل إلى لغتي أن تعطي بعضا من معاني ما سوف أرويه :
هي جلسة من تلك الجلسات في مركز الحسين للسرطان .
نتحدث ، نتشاور ، نضحك نحن جميعا مرضى أم أصحاء بحاجة لتلك المعاني ، نحاول أن نعيش اللحظة الراهنة ، ثم بعد هذا لكل منا طريق يذهب إليه .
قالت : اسمي فاطمة وهذه ابنتي قمر . لقد جئنا سويا لنروي قصتنا . نزعت الأم غطاء رأسها ، فعلت قمر الفعل نفسه . فبان لنا رأسين جميلين ما يزال عشبهما البني في طريقه للنمو . ابتسمت الأم نظرت قمر لأمها ، نظرات واثقة محفزة . فرحلة الشفاء قد أعطت ثمارها. ولكن فاطمة في محاولات لمسك أطراف ا لكلام ، قد احتاجت بعضا من زمن . تنهدت ثم تنهدت ليكون لحديثها وتلك الاستمرارية الجميلة. جاءني المرض . جاءني هكذا ، في غفلة من الزمان . ولعل الأغلب منا لا يتوقع هذا المرض. نسمع عنه نخاف منه ، ولكن أن يدخل خلايانا نحن ، ذاك شيء كان ليس بالحسبان . إنها يا صديقاتي الصدمة الأولى .لأنا كنا نعتقد واهمين أنا قد انتقلنا من فئة الأصحاء إلى فئة المرضى . وان نعمة الصحة قد فارقتنا .
المرض الموت الأولاد الأهل الالتزامات الزوج العلاج . كلها يا صديقاتي كما تعرفن تكون أثقالا ، أثقالا على الرأس ، على الكتفين إلى القلب المحبوس لكي نتسمر داخل قفص من الفولاذ الصلب .
انه السجن . السجن الحقيقي للروح والجسم . أما مشوار العلاج الكيماوي الأشعة الجراحة …. الذي كنا نسمع عن مضاعفاته انتكاساته . كلها كانت أمامي في مرآتي صباحا ومساء . أستقبل أطفالي من المدرسة لأشعر بغصة في روحي . أتراني سوف أراهم كبارا ؟ ولكن كل هذا استطعت بفضل إيماني وثقتي أن أتجاوزه . أنا لا أنكر ذلك الغثيان الذي يرافق الكيماوي ، ولكن ذاك الغثيان لم يكن ليمنعني من إعداد طعام الإفطار لأطفالي قبل الذهاب للمدرسة .
ولكن هناك تلك المعادلة الصعبة، فشعري كان دائما هو طويل ، طويل جدا . نحن النساء لنا مع الشعر رفقة وصداقة . هو الجدائل عنوان الطفولة ، و على الكتفين عنوان الدراسة . الشعر في كل المناسبات ، هو الذي يمسك بالمفتاح ليكون طويلا قصيرا مرفوعا منسدلا متلونا ……. محاطا بالدبابيس الملونة …. متموجا …… ولكن عندما بدأ شعري بالاستجابة للكيماوي …… عندها بدأ صوت فاطمة بالابتعاد . أغمضت عينيها قليلا ، لتمسك قمر بيدها ثم تبدأ هي بالكلام .
أرادت قمر أن يكون الختام بدرا مضيئا . أرادت أن تتوسط الجلسة بما سوف تقول.
هي أمي .وأنا أيضا لم أعتقد يوما بأني سوف أواجه مرض أمي . الأم هي الجدار ، هي الاسوارة التي تحيط بنا . فهي الدائرة التي لا تعرف بداية ولا نهاية . أنا لا أنكر أيضا تلك الانفعالات والمشاعر . ولا أنكر أيضا ذاك الشعور بالغضب الذي أصابني . لماذا أمي ؟ لماذا هي التي تصاب . ولكن كل هذا لم يكن ليرتكزه ليتوسد ليخترق أرض القلب .
اتفقنا بدون أن نعقد اتفاقا ، اتفقنا بدون أن نتحدث أن أمي في طريقها للشفاء . كأن مرضها قد وضعته في مكان ما، حتى الأدوية لم نكن نراها . كانت تتعامل معه كشيء قد دخل منزلنا عنوة ولا بد له من المغادرة .
أنا لم أخطط لما قمت به . ولكن صورة أمي وهي في محاولاتها ترتيب غطاء الرأس حتى لا نرى فقدانها لشعرها الجميل . كانت معي ليلا نهارا . فكان أن رأيت فلاحا وأنا في عودتي للمنزل يحرث أرضه . ينزع عشبه . قمت ليلا والجميع نيام وبدأت أنا بقص شعري ، خصلة وراء خصلة . كنت أريد المشاركة معك يا أمي. لنستقبل الربيع معا. لأقول لها أن شعرك يا أمي وشعري سوف يتزامنان بالنمو . سيأتي ربعهما معا . سوف تنطلق خصلات شعرك وشعري في طريق الانسجام والتوحد .
يا أمي ….. أنت يا أمي أهم من الشعر وأهم من المرض . فروحك التي تنشر المودة والطمأنينة هي الباقية .
انتشرت خلايا الرضا على الوجوه وفشت بالمكان رائحة زهور اللوز ……
كان النور ثم كان الرضا … انه
الرضا والنور .
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.