الرضا والنور

04:54 مساءً الأحد 16 ديسمبر 2012
نجوى الزهار

نجوى الزهار

كاتبة من الأردن، ناشطة في العمل التطوعي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 صباح الخير

صباح الخير يا جارتي وديعة . كيف الحال ؟

بخير ، بألف خير . فالذي يرضى يعش . هكذا أجابت جدتي وديعة .

يترتب الكلام . يترتب على شكل جمل  ، لكي تكتسب الأحرف بعضا من معانيها ، يترتب الكلام لكي نسمعه أولا ثم لا نعد ندري لاحقا بأي مكان احتفظت به الذاكرة . لعله يمر مثل سحابة سريعة في سماء الفكر . أم أن هذا الكلام الذي سمعناه يوما قد نسج خيوطه في مكان قصي من دهاليز القلب .

الذي يرضى يعش . الرضا : ما هو ؟ ومن أين منطقه في النفس البشرية ؟ يشرب ماؤه ؟ ينشر بذوره ؟ . ومتى يكون الحصاد ؟ بل متى كان الزرع ؟ . الذي يرضى يعش . لا أقصد ذاك الرضا الذي تتكلم عنه الشفاه . لذلك أتوسل إلى لغتي أن تعطي بعضا من معاني ما سوف أرويه :

هي جلسة من تلك الجلسات في مركز الحسين للسرطان .

نتحدث ، نتشاور ، نضحك نحن جميعا مرضى أم أصحاء بحاجة لتلك المعاني ، نحاول أن نعيش اللحظة الراهنة ، ثم بعد هذا لكل منا طريق يذهب إليه .

قالت : اسمي فاطمة وهذه ابنتي قمر . لقد جئنا سويا لنروي قصتنا . نزعت الأم غطاء رأسها ، فعلت قمر الفعل نفسه . فبان لنا رأسين جميلين ما يزال عشبهما البني في طريقه للنمو . ابتسمت الأم نظرت قمر لأمها ، نظرات واثقة محفزة  . فرحلة الشفاء قد أعطت ثمارها. ولكن فاطمة في محاولات لمسك أطراف ا لكلام ، قد احتاجت بعضا من زمن . تنهدت ثم تنهدت ليكون لحديثها وتلك الاستمرارية الجميلة. جاءني المرض . جاءني هكذا ، في غفلة من الزمان . ولعل الأغلب منا لا يتوقع هذا المرض. نسمع عنه نخاف منه ، ولكن أن يدخل خلايانا نحن ، ذاك شيء كان ليس بالحسبان . إنها يا صديقاتي الصدمة الأولى .لأنا كنا نعتقد واهمين أنا قد انتقلنا من فئة الأصحاء إلى فئة  المرضى . وان نعمة الصحة قد فارقتنا .

المرض   الموت  الأولاد   الأهل  الالتزامات   الزوج    العلاج . كلها يا صديقاتي كما تعرفن تكون أثقالا ، أثقالا على الرأس ، على الكتفين إلى القلب المحبوس لكي نتسمر داخل قفص من الفولاذ الصلب .

انه السجن . السجن الحقيقي  للروح والجسم . أما مشوار العلاج الكيماوي   الأشعة    الجراحة   ….  الذي كنا نسمع عن مضاعفاته انتكاساته . كلها كانت أمامي في مرآتي صباحا ومساء . أستقبل أطفالي من المدرسة لأشعر بغصة في روحي . أتراني سوف أراهم كبارا ؟ ولكن كل هذا استطعت بفضل إيماني وثقتي أن أتجاوزه . أنا لا أنكر ذلك الغثيان الذي يرافق الكيماوي ، ولكن ذاك الغثيان لم يكن ليمنعني من إعداد طعام الإفطار لأطفالي قبل الذهاب للمدرسة .

ولكن هناك تلك المعادلة الصعبة، فشعري كان دائما هو طويل ، طويل جدا . نحن النساء لنا مع الشعر رفقة وصداقة . هو الجدائل عنوان الطفولة ، و على الكتفين عنوان الدراسة . الشعر في كل المناسبات ، هو الذي يمسك بالمفتاح   ليكون طويلا قصيرا مرفوعا منسدلا متلونا ……. محاطا  بالدبابيس الملونة …. متموجا …… ولكن عندما بدأ شعري بالاستجابة للكيماوي …… عندها بدأ صوت فاطمة بالابتعاد . أغمضت عينيها قليلا  ، لتمسك قمر بيدها ثم تبدأ هي بالكلام .

أرادت قمر أن يكون الختام بدرا مضيئا . أرادت أن تتوسط الجلسة  بما سوف تقول.

هي أمي .وأنا أيضا لم أعتقد يوما بأني سوف أواجه مرض أمي . الأم هي الجدار ، هي الاسوارة التي تحيط بنا . فهي الدائرة التي لا تعرف بداية ولا نهاية . أنا لا أنكر أيضا تلك الانفعالات والمشاعر . ولا أنكر أيضا ذاك الشعور بالغضب الذي أصابني . لماذا أمي ؟ لماذا هي التي تصاب . ولكن كل هذا لم يكن ليرتكزه ليتوسد ليخترق أرض القلب .

اتفقنا بدون أن نعقد اتفاقا ، اتفقنا بدون أن نتحدث أن أمي في طريقها للشفاء . كأن مرضها قد وضعته في مكان ما، حتى الأدوية لم نكن نراها . كانت تتعامل معه كشيء قد دخل منزلنا عنوة ولا بد له من المغادرة .

أنا لم أخطط لما قمت به . ولكن صورة أمي وهي في محاولاتها ترتيب غطاء الرأس حتى لا نرى فقدانها لشعرها الجميل . كانت معي ليلا نهارا . فكان أن رأيت فلاحا  وأنا في عودتي للمنزل يحرث أرضه . ينزع عشبه . قمت ليلا والجميع نيام وبدأت أنا بقص شعري ، خصلة وراء خصلة . كنت أريد المشاركة معك يا أمي. لنستقبل الربيع معا. لأقول لها أن شعرك يا أمي وشعري سوف يتزامنان بالنمو . سيأتي ربعهما معا . سوف تنطلق خصلات شعرك وشعري  في طريق الانسجام والتوحد .

يا أمي ….. أنت يا أمي أهم من الشعر وأهم من المرض . فروحك التي تنشر المودة والطمأنينة هي الباقية .

انتشرت خلايا الرضا على الوجوه وفشت بالمكان رائحة زهور اللوز ……

كان النور ثم كان الرضا … انه

الرضا والنور .

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات