الفنان جويا فى السينما: النزق والثورة

05:57 مساءً الأحد 16 ديسمبر 2012
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

جويا بريشته

سوف تظل الحياة الخاصة للفنان التشكيلى منبعاً لا ينضب لاستلهام المزيد من الأعمال السينمائية التى تبهر الناس، وهناك فنانون بأعينهم صاروا دوماً بمثابة المنهل المتدفق لهذه الابداعات، حيث ان الحياة الواحدة الفنان تصبح نبعاً للعديد من الأعمال الفنية السينمائية، فى أزمنة متعددة، وثقافات متباينة.

فى صدر القائمة هناك بابلو بيكاسو، وفانسان فان جوخ، لكن تجربة الفنان الاسبانى فرانشسكو جويا أثارت جدلاً فكرياً طوال القرن العشرين، وحتى الآن، حيث أن مخرجين من ثقافات متعددة نظروا إلى جويا باعجاب شديد، وراحوا يستلهموا حياته من رؤى مختلفة، وقاموا بتسييس هذه السيرة، ولوحات الفنان بشكل لم يحدث قط لغيره من الفنانين، فجويا الذى عاش بين عامى 1746 و 1828 اى قبل ظهور ايديولوجيات القرن العشرين، وتقنيات القرن الواحد والعشرين صار ثورياً، ومناضلا من خلال لوحاته.

ليس جويا وحده بسيرته الذاتية، وفنونه الراقية، وموهبته الفذة، ولوحاته الخالدة هو الذى أثار الجدل من حوله، بل ان الافلام السينمائية التى تم اقتباسها عن حياة الفنان ككل، أو عن جزء من هذه السيرة قد أثارت الجدل بين النقاد، والباحثين، فصارت مادة للكتابة، من حيث الاختلاف، والاتفاق حول حياة الفنان، وافكاره وتحولاته.

وامامنا خمسة افلام تم انتاجها على فترات زمنية متباينة وفى بلاد عديدة، وهذه الافلام هى:

1-             المايا العادية the naked maja “1958” اخراج هنرى كوستر، بطولة انطونى فرانشيوزا، وافا جاردنز.

2-     جويا “1971” فيلم من المانيا الشرقية اخراج كونراد وولف، وهو الفيلم الذى احتفى به نادى سينما القاهرة، حين عرض ضمن برامجه فى عام 1974.

3-             جويا فى بوردو “1999” وهو دراما تاريخية اسبانية من تأليف واخراج الاسبانى كارلوس ساورا.

4-             Volaverunt 1999، فى اسبانيا من اخراج فيباس لونا عن رواية للكاتب انطونيو لاريتا.

5-             اشباح جويا 2006 الولايات المتحدة من اخراج ميلوش فورمان.

جويا في بوردو

أى أن الافلام التى تناولت سيرة حياة الفنان كانت تنتمى – كما أ شرنا – إلى اتفاقات متعددة، وقد أخرج هذه الاعمال مخرجون عظماء من طراز كوستر، وساورا، وفورمان ولعل الفيلم الأشهر هو الذى وزعته شركات التوزيع الامريكية، وقامت ببطولته آفا جاردنز، النجمة الأشهر، والاجمل فى زمن انتاج الفيلم، ويتناول العلاقة التى ربطت جويا بامرأة تعرف باسم الدوقة، ارتبط بها عاطفياً فى فترة من أخصب فترات حياته، ورسمها فى أكثر من لوحة، لعل اشهرها “المايا العارية” عام 1800، و”المايا بكسوتها” عام 1803، ومن الواضح ان كوستو قد أراد ان يروى قصة اللوحتين من خلال المرأة التى رسمها جويا بالحجم الطبيعى مرتين، ورغم أن التعرى لم يكن حدثا صادما فى الفن التشكيلى، الا ان هذه اللوحة احدثت صدى كبيرا، وقيل انها اول تدنيس يصور امرأة عارية بالحجم الطبيعى فى الفن الغربى، والفيلم يروى جزءاً من سيرة حياة الفنان وهو فى قمة شبابه، وتألقه ابان الزمن الاعظم للنزوات والمايا، او الماخا، حسب النطق الاسبانى، هى دوقة البا، والتى قيل ان جويا قد ارتبط بها عاطفيا، وتسمى ايضا باسيدة مانويل دى جودى، وقد صارت هذه المرأة هى الأنموذج الذى يرسمه جويا لعدة سنوات، وفى الفيلم الذى تم انتاجه بين الولايات المتحدة، وايطاليا وفرنسا، نرى كيف تعرف جويا على دوقة البا، وصارت عشيقته، وكان فى أحسن حالاته كفنان وهو يرسمها، وقد كشف الفيلم عن المتاعب التى تعرض لها الفنان بعد أن رسم اللوحتين، وذلك باعتبار أن الفنان فضح امرأة من طبقة راقية، تعددت وجهات النظر فى اسمها الحقيقى، ولايزال الموضوع محل جدل حتى الآن، كما أن جويا نفسه قد تعرض للمحاكمة من قبل محاكم التفتيش الاسبانية، الا ان الفنان لم يكشف سر المرأة التى رسمها.

اذن، فالفيلم الامريكى قد توقف عند مرحلة الشباب عند جويا، وما حدث فى الواقع للفنان، وهو يرسم اثنتين من أشهر لوحاته، وحالات العشق، والرومانسية، وقد استعان الفيلم بالممثل ذى الأصل اللانى انطونى فرانشيوز ليقوم بالدور امام آفا جاردنر، كى يبقى الفيلم هو الاكثر مشاهدة عن جويا طوال التاريخ السينمائى، وحتى الآن..

فى المانيا الشرقية الشيوعية، تغيرت و جهة النظر فى جويا، من الفنان الذى يرسم العاريات، والكاسيات، ورجال البلاط الاسبانى الى جويا الذى وصل الى سن الخمسين وصار عليه ان يرسم الناس، والشعب، والتغيرات السياسية التى حدثت فى اسبانيا، بعد أن وصلت قوات نابوليون الى مدريد، وخلعت الملك فرديناند السابع عام 1808، ووضعت جوزيف بونابرت بمكانه، لم يعد جويا يهتم اذن بالنساء، ولا بالحكام ولكنه راح يجوب شوارع بلاده، حاملاً مشعله فى الظلام، لكى يرى جيدا ويرسم لوحات مختلفة عن “المايا العارية” وما يماثلها، فراح يرسم لوحات أخرى مثل “ويلات الحرب” ولوحتين رائعتين تحملان عنوان “الثانى والثالث من مايو 1808” ليعكس فى هاتين اللوحتين بشاعة المذابح الفرنسية فى شوارع مدريد.

هذا هو المحور الرئيسى للفيلم الذى أخرجه الألمانى كونراد وولف عام 1971، المأخوذ عن كتاب ألمانى بعنوان “الطريق الشاق إلى المعرفة” تأليف ليون فايختفانجر، الذى رأى التحول الحاد لدى الرسام، وتغيره الملحوظ، ففيما قبل تحوله السياسى كان مجرد رساما متميزا لكنه بعد غزو الفرنسيين للبلاد، فهم جويا الكثير من المعانى، حول الطرق الصعبة للوصول الى المعرفة، والتغير، هذه الطرق مصبوغة احيانا بالدم، والنضال كثيرا.. ومرتبطة بالشعب بشكل عام، مما حول الرسام الى مناضل، يعرف المنفى، ويسعى الى المعرفة.

اذن، فأهمية صورة جويا فى هذا الفيلم انه صار فنانا فى حالة تحول.. وقد انعكس هذا فى لوحاته الجديدة مثل “مصارعة الثيران” و”النزوات” التى رأى جويا نفسه انها ميدان لما تغفله الاعمال الرسمية فى الواقع، وهى نزوات يتعدى الخيال فيها كل الحدود..

وحسب المقال الذى كتبه الفاروق عبدالعزيز فى نشرة نادى سينما القاهرة 1 اكتوبر 1974، فانه فى هذه المرحلة من العمر  وجد جويا نفسه وعرفها عبر الطريق الشاق الذى استمر يسلكه حتى اضطر إلى اللجوء الى منفاه الاختيارى فى فرنسا “باريس ثم بوردو” بعد ان شيعت كلمات الكاردينال  – التى حكم عليها التاريخ بـ “آخر الاساتذة القدامى” باللغة الابدية.. كما يشير عبدالعزيز ايضا فى مكان آخر من مقاله ان جويا ألقى بنفسه كلية فى خضم العالم الثورى وكان قد حدد علاقة الفن بالثورة باختياره الانتقال من حالة الوصف الهادىء للطبيعة الى المشاركة الثورية فى تغيير الواقع والتعبير عنه.

وهكذا سوف نرى ان جويا فى هذا الفيلم الالمانى، صورة مختلفة عن جويا فى الفيلم الامريكى، هو فنان صار ناضجا يرسم واقعا مختلفا عن واقع النساء، والملوك فى القصور المليئة بالأسرار.

فى عام 1999 قام المخرج الاسبانى كارلوس ساورا بانتاج فيلم تليفزيونى حول تاريخ حياة جويا، وهو الفيلم الوحيد من بين هذه الاعمال، الذى تتبع سيرة حياة الفنان منذ أن كان شابا، وحتى رحيله حيث جسد الشخصية شابا الممثل خوسيه كورنادون، بينما رأينا الممثل المعروف فرانشيسكو رابال فى دور جويا العجوز، حيث تتبع الفيلم  جويا منذ ميلاده فى قرية أراجون التى تبعد نحو خمسين كيلو مترا من سرقسطة، لأب ريفى، ليست له علاقة بالفن، فى زمن كانت الحركة التشكيلية بمدريد شبه ميتة إلى أن وصل اليها جويا عام 1766، وهناك واجه العديد من المشكلات بسبب مغامراته العاطفية، وأصيب فى مشاجرة بسبب نزقه، وتم وضعه تحت المراقبة من قبل الشرطة، وتمكن من الهروب إلى ايطاليا، ثم عاد هاربا الى مدريد للسبب نفسه، وصادق الكثير من الفنانين، وذاع صيته بين كل من مدريد وروما، وصار رساما لدى ملك اسبانيا عام 1786، كما يتحدث الفيلم عن المرض الذى أصابه بالصمم طوال حياته، وهى المرحلة التى اهتم بها الفيلم الالمانى، الذى رأى ان جويا الاصم كان يشاهد الاشياء بعينين افضل مما كان عليه قبل فقدان هذه الحاسة.

حكى الفيلم ايضا عن لوحات جويا، التى اتسمت بالجرأة فى موضوعاتها، والزهور فى ألوانها، وعرف النضج الفنى فى مراحل حياته، وتوقف الفيلم عندما سمى بالرسومات السوداء، كما توقف الفيلم عند حياته فى بوردو المدينة الفرنسية التى اتجه اليها واستقر فى أواخر حياته، ورسم لوحات معروفة، مثل “عاملة الحليب بوردو”، وكيف مات، دون ان يستكمل بورتريه خوسيه دى مولينا.

هذا الفيلم فاز بالعديد من الجوائز، فى مهرجانات اسبانية، منها جائزة احسن ممثل لرايال، كما فاز بجائزتين فى مهرجان مونتريال وجوائز أخرى فى مهرجان الفيلم الأوروبى، وهذا يعنى أن جويا لم يقترب من سيرته الذاتية سينمائيا سوى مخرجين أرادوا ان يتعاملوا مع فنان فى صيرورة وهو فضلا عن تميزه فى الرسم مزخوم بالقصص المدهشة، والمواقف المتحولة، والتغيرات الحادة، والافكار العظيمة.

ليست لدينا معلومات عن الفيلم الرابع الذى تم انتاجه فى اسبانيا حول جويا، والذى سبقت الاشارة اليه، لذا سوف نتكلم عن الفيلم الخامس من هذه الاعمال عن الفنان نفسه.

فى عام 2007 قدم ميلوش فورمان فيلما من انتاج مقاطعة كيبيك الكندية تحت عنوان “اشباح جويا” او “جويا واشباحه” وقد اشترك المخرج فى كتابة السيناريو مع الأديب الفرنسى جان كلود كاريير، وقام بالبطولة ستلان شكارس جارد، بالاضافة الى بطولة ناتالى بورتمان وخافيا بارديم، الذى جسد شخصية مبتكرة فى تاريخ حياة جويا، هى شخصية شقيقة لورانزو.

نحن اذن أمام فيلم تخيلى حول شخصية حقيقية حيث تدور الاحداث عام 1792 وهى الفترة التى كانت الثورة الفرنسية تندلع الى جوار اسبانيا، ويحكى الفيلم عن جويا مصور العائلة المالكة، وهو الرسام الشرعى لكل من ملك وملكة البلاد التى تدور فيها محاكم التفتيش اما الاخ لورنزو فهو يدافع عن اخيه حيث يردد ان لوحاته تكشف عن الشر فى الجانب الانسانى، فى هذه السنوات كانت انييس هى الفتاة الانموذج التى يرسمها جويا فى لوحاته، والتى تم القبض عليها واتهامها بالتعصب حيث انها لا تأكل لحم الخنزير، وتعترف أن أحد اسلاف ابيها قد تحول من اليهودية الى المسيحية، ويتم استدعاء لورنزو للسؤال عن الفتاة، ويتم تعذيبه كى يعترف بما يرضى قضاة محاكم التفتيش وذلك بعد أن تم القبض عليها بشكل تعسفى.

وعندما تسجن الفتاة، فان لورنزو لا يكف عن زيارتها، ويقرر مساعدتها بأى ثمن، ثم يهرب من السلطات الكنسية التى تطارده، وبعد خمسة عشر عاما، تكون محاكم التفتيش قد ألغيت تماما، وهذا هو لورنزو يعيش فى فرنسا تحت حكم نابوليون، نعرف ان انييس لاتزال فى السجن، وانها انجبت فتاة ابوها من لورنزو الذى ضاجعها اثناء احدى زياراته لها فى السجن.

لسنا أمام فيلم عن جويا، بل ان الفنان الاسبانى يبدو فى خلفية قصة عن محاكم التفتيش فى نهاية القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، حيث يرتبط جويا باحدى العاهرات تؤديها نفس الممثلة ناتالى بورتمان، ويقوم جويا بمساعدة أنيسس على الهروب الى الولايات المتحدة مع ابنها كى تعيش هناك.

هذا الفيلم جاء على غير المتوقع ضمن أعمال فورمان، حيث ان الكثير من النقاد وقفوا له بالمرصاد ويبدو ان النقاد ضايقتهم فكرة ان يتحول جويا من زخم الحكايات، الى شخصية هامشية، فى مقابل التركيز على شخصيات متخيلة تسند اليها البطولة.

وهكذا رأى النقاد ان جويا قد تم تهميش مكانته، وصار هنا مجرد رجل يساعد امرأة فى الهروب، دون ان نتعرف على مسيرته كفنان طوال خمسة عشر عاما، هى سنوات الابداع والنشاط والتحول.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات