٣٥ سنة على غياب عاصي الرحباني: مملكة الجنون المقدّس

07:54 صباحًا الثلاثاء 6 أبريل 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

خمسة وثلاثون سنة مرت على رحيل الفنان عاصي الرحباني، هذا الكبير الذي صنع مجد الغناء اللبناني والعربي، نفتقده اليوم أكثر من أي وقت مضى، في لحظة يهوي فيها الفن الموسيقي والغنائي الى قاع سحيق.
الاخوان رحباني (عاصي ومنصور) ذاكرة فنية خصبة مازالت الى اليوم حاجة وضرورة لاكتشاف حقائق الذات البشرية التواقة الى الحب والجمال والفرح.
غاب عاصي قبل ثلث قرن وبعده بعقدين غاب منصور بعد أن تابع شعلة الاستمرارية.
في 21 يونيو من عام 1986 توقف قلب عاصي الرحباني، وفي هذه المناسبة الذكرى والذاكرة نستعيد صور الماضي من خلال قراءة في مسيرة الاخوين رحباني:
قبل أكثر من نصف قرن بزغ نجمان في مساحة الوطن الصغير، وشكلا حالة فريدة من نوعها على الساحة الفنية والغنائية والموسيقية، فمن هما؟
الجواب لا يحتاج الى تفكير، فمجرد طرح هكذا سؤال، يولد الجواب فورا: انهما (الاخوين رحباني) ـ عاصي ومنصور، عنوان كبير امتد في مسافة الوطن ثم اتسع عربيا وعالميا، وبات الكلام عن الفن الأصيل في لبنان والعالم العربي من دون التوقف جليا عند عاصي ومنصور وما حققاه في هذا الميدان بمنزلة الكلام الذي لا يفي بغرض الحقيقة.
عاصي ومنصور، ذاكرة فنية أصيلة مازالت تغذي حاضرنا بعد غياب عاصي وبقاء منصور وانطلاقة الجيل التالي من الرحابنة.
كيف تبلورت هذه الذاكرة وكيف أسست لهذا الحضور الفاعل في الحياة الفنية.
الأصح القول انها حكاية، ولكنها حكاية حقيقية كتبها عاصي ومنصور، حكاية تقول ان شقيقين ولدا معا، ونمت الأسئلة الكبيرة في في ايامهما، ومنذ تلك اللحظة المثيرة بدءا بمحاولات الاجابة عن هذه الأسئلة بالكلمة واللحن والحركة، واستمرا طويلا في هذا الميدان، فزادت الأسئلة واحتشدت الأجوبة، وبين كل سؤال وجواب كان ابداعهما يتألق ويأخذهما الى حيث تكمن الأسئلة الأخرى والأجوبة الكبيرة.


(أبوعاصي)
حنا عاصي “أبوعاصي “والد الاخوين رحباني تعود جذوره الى بلدة في منطقة عكار اسمها رحبة. كان والده من المهاجرين الى مصر اثر احداث 1860، ولد في طنطا سنة 1882 ثم عاد الى بيروت ، استقر الوالد في انطلياس وفتح مقهى على فوار انطلياس جعله ملتقى الفارين من حكم العثمانيين .أبو عاصي كان أميا لكنه يختزن الكثير من الأفكار وأسرار الحياة، فهو من جيل عرف البركة وراحة البال.
(أم عاصي)
أم عاصي سعدى صعب ايضا كانت سيدة بسيطة وتتمتع بطيبة كبيرة، ويذكرها الراحل منصور بالخير ويقول: لقد ربتنا على المحبة والحنان، وهذه التربية اعطتنا الكثير ودفعتنا الى ميدان الابداع والقلق، القلق والخوف على الآخرين.
(عاصي ومنصور)
ولد عاصي الرحباني في 4 مايو 1923، ومنصور في 17 مارس 1925 كما رزق أبوعاصي ب: الياس، سلوى، ناديا، الهام.


عرف أبوعاصي كعازف على آلة”البزق” وكان يعزف ويغني دائما في المقهى الذي أقامه على الفوار، وكان عاصي ومنصور يحضران دائما الحفلات في المقهى ويستمعان دائما الى عزف الوالد ويصغيان جيدا الى غنائه الجهوري ـ كما يصفه منصور ـ الجو الصارم الذي كان يفرضه “أبوعاصي ” في المقهى اثر كثيرا في الاخوين وجعلهما في حالة اهتمام دائمة إلى مجريات الأمور الفنية في تلك المرحلة. واستمرت الأمور على هذا النحو حتى بدأت علامات التفجر والابداع تبرز في حياة عاصي ومنصور، وبدأ الناس ينتبهون الى عاصي. ويقولون عنه، سيكون شاعرا ذكيا في حين ينظرون الى منصور نظرة أقل والسبب يعود ـ كما يقول منصور ـ كنت ناجحا في العنتريات وفاشلا في الدراسة. عاش عاصي ومنصور طفولة حافلة الى جانب والدهما، وحين اشتد عودهما وبدأت حياتهما بالتوسع، كان الهم الابداعي والفني هو الهاجس الأكبر في كل الأوقات، وساهم الشعر الموزون الذي كان في المتناول اليومي، في انتهاج أوزان خاصة تناسبت لاحقا مع موسيقى ‘الاخوين رحباني’.
(فيروز)
المرحلة الأولى من الطفولة مضت لكنها تركت بصمات واضحة على عاصي ومنصور، وبعد هذه المرحلة الحساسة، انطلقا الى مرحلة تالية، كانت بمنزلة الخطوة الأقدر نحو تحقيق حلم كبير، اذ تفتح الوعي وتاليا، زاد منسوب الابداع وبدأت حياتهما تشهد الخطوات الناجحة في الكتابة والموسيقى. وشهدت منطقة انطلياس بعض الأعمال كانت نقطة الارتكاز للوصول الى الخشبة، ولاحقا تكثفت الأعمال المسرحية الغنائية للاخوين رحباني وصار اسمهما، منارة ساطعة في عالم المسرح الغنائي.


في عمر مبكر سطع نجم المسرح الغنائي الذي عمل على ابتكاره عاصي ومنصور، وباتت المسرحيات الغنائية حاضرة بقوة في الزمن اللبناني، والذي جعل هذا الحضور اكثر انتشارا هو السلاسة الواضحة في هذه الأعمال، والذي رفع من شأن هذه المسرحيات ايضا، السيدة فيروز ـ التي شكلت ارتكازا اساسيا في اعمال الرحابنة، اذ قدمت ادوارا باهرة في كل مسرحية غنائية شاركت فيها، وطبعا أسند اليها دور البطولة، بالاضافة الى مشاركة اسماء أخرى مثل الفنان الراحل نصري شمس الدين والمطرب الكبير وديع الصافي أو الفنان الراحل فيلمون وهبي أو الفنان ايلي شويري وغيرهم.
تألق اسم فيروز في أعمال ‘الاخوين رحباني’، فكان صوتها العذب هو المدخل الأساسي الذي دخل منه الذوق العام الى الأعمال المسرحية، وعبقرية عاصي ومنصور تناغمت مع صوت فيروز، فاكتملت الصورة ـ المنارة، وباتت فيروز مع ‘الاخوين رحباني’ مثل شجرة واحدة لا يمكن التمييز بين اعضائها.
(زواج عاصي وفيروز)
في ريعان شبابه تعرف عاصي على السيدة فيروز بعدما التقاها في الاذاعة اللبنانية وهي ترتل الأناشيد مع فرقة فليفل، وكان عاصي حينها يعمل في الاذاعة قام عاصي، في الاذاعة بتدريب فيروز على الأداء والصوت، وكانت السيدة سريعة التطور وأخذت تتأقلم بحسها المرهف الخارق، وسرعان ما تطور الأمر وباتت فيروز صاحبة الصوت اللافت والمميز.
بعد عمل وتعاون بين الاخوين رحباني وفيروز، تزوج عاصي من فيروز واسمها الحقيقي نهاد حداد، واكتمل العنقود الفني، والتزمت فيروز بطولة المسرحيات الرحبانية على مدى التجربة الطويلة.
رزق عاصي وفيروز بأربعة أولاد: زياد، ليال، ريما، وابن رابع، وقد تأثر الاولاد (بالتأكيد) بجو العائلة، وتميز زياد الرحباني (الابن الاكبر) بأعمال موسيقية وغنائية، وعمل في سن مبكرة جدا على تأليف أعمال مسرحية وموسيقية وغنائية، ومازالت اعماله تشهد تميزا. اما الشقيقة الأصغر من زياد (ليال) فقد توفيت في عمر مبكر (تحت الثلاثين) وريما اتجهت نحو الاخراج السينمائي.


(عائلة منصور وإلياس)
اما الطرف الثاني من الاخوين رحباني اي منصور، فقد رزق بثلاثة أولاد: مروان، غدي، اسامة، وهم اليوم أسماء حاضرة في الميدان الفني المسرحي الغنائي، وهم يواصلون المسيرة الرحبانية، على رغم ان منصور لا يعترف بالوراثة الفنية. وكان يقول: ‘صحيح انهم أولادي وهم من العائلة الرحبانية، لكن المهم خصوصيتهم الفنية’، ثم يسارع إلى القول: ‘لا يوجد فن رحباني انما يوجد فن الاخوين رحباني’.
(غياب عاصي)
المسيرة الرحبانية الحافلة انتكست صباح يوم السبت 21/6/1986 حين انطفأ عاصي الرحباني وغادر الحياة تاركا ارثا فنيا وذاكرة مدوية، وانفصل عاصي عن منصور، وبات منصور وحيدا على الدرب.
غياب عاصي ترك فراغا، لكنه لم يدم طويلا، فقد استطاع منصور تجاوز الحزن بفقدان عاصي، ومواصلة المسيرة الفنية باندفاع، وهو يقول دائما: ‘صحيح ان عاصي رحل لكنه، على رغم غيابه لا يقبل لفن الاخوين رحباني ان يتوقف’ فبعد رحيل عاصي كتب منصور وألف ولحن اعمالا مسرحية وموسيقية مميزة.

(مسرحيات ‘الأخوين رحباني)

مسرحيات ‘الاخوين رحباني حركت العاطفة الداخلية للانسان اللبناني وللعربي عموما، وكل من شاهد هذه المسرحيات وصل الى ذاته اكثر واكتشف حقيقة المكان والانسان، وبالتأكيد توغل عميقا في جغرافيا الوطن والنفس. كل المسرحيات الرحبانية لمعت وأضاءت، وكل مسرحية شكلت منعطفا مهما وهي:
‘أيام الحصاد’ (1957 ـ بعلبك)، ‘محاكمة’ (1959 ـ بعلبك)، ‘موسم العز’ (1960 ـ بعلبك)، ‘البعلبكية’ (1961 ـ بعلبك)، ‘جسر القمر’ (1962 ـ بعلبك ـ دمشق)، ‘عودة العسكر’ (1963 ـ مسرح سينما كابيتول)، ‘الليل والقنديل’ (1963 ـ كازينو لبنان ـ دمشق)، ‘بياع الخواتم’ (1964 ـ الارز ـ دمشق)، ‘دواليب الهوا’ (1965 ـ بعلبك)، ‘أيام فخر الدين’ (1966 ـ بعلبك)، ‘هالة والملك’ (1967 ـ البيكاديللي ـ الارز ـ دمشق)، ‘الشخص’ (1968 ـ البيكاديللي ـ دمشق)، ‘جبال الصوان’ (1969 ـ بعلبك)، ‘يعيش يعيش’ (1970 ـ البيكاديللي)، ‘صح النوم’ (1971 ـ البيكاديللي ـ دمشق)، ‘ناطورة المفاتيح’ (1972 ـ بعلبك ـ دمشق)، ‘ناس من ورق’ (1972 ـ البيكاديللي ـ جولة في الولايات المتحدة الأميركية)، ‘المحطة’ (1973 ـ البيكاديللي)، ‘قصيدة حب’ (1973 ـ بعلبك) ‘لولو’ (1974 ـ البيكاديللي ـ دمشق)، ‘ميس الريم’ (1975 ـ دمشق ـ البيكاديللي)، ‘منوعات’ (1976 ـ دمشق ـ عمان ـ بغداد ـ القاهرة)، ‘بترا’ (1977 ـ عمان ـ دمشق)، ‘المؤامرة مستمرة’ (1980 ـ كازينو لبنان)، ‘الربيع السابع’ (1984 ـ مسرح جورج الخامس)، بالاضافة الى لوحات مسرحية كثيرة عرضت في كثير من مدن العالم.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات