الذَّوْق الأدبيُّ (دراسة وتحقيق)

07:46 صباحًا الأحد 18 أبريل 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الذَّوْق (ذ و ق) لغةً: الطَّبْعُ، (أو) حاسَّةٌ تُدرَكُ بها الطُّعومُ من حُلْوٍ ومالِحٍ ومُرٍّ وحامضٍ، وآلتُه الأعصابُ الحِسِّيّةُ المُنبَثَّةُ في اللِّسانِ، وقد يُوَسَّعُ معناه فيُطلَقُ على كلِّ تجربةٍ، (أو) قوّةٌ إدراكيّةٌ لها اختصاصٌ بإدراكِ لَطائفِ الكَلام ومَحاسنِه الخَفِيّةِ، وقد يُطلَقُ على مَيلِ النَّفسِ إلى بعضِ الأشياءِ كَتذَوُّقِ المُطالعةِ والأحاديث الجميلةِ، ويُرادفُهُ حُسنُ الإصغاءِ، وشدَّة الانتباهِ وكَثرة التَّعاطُفِ، (أو) حِذْقُ النَّفسِ في تقديرِ القِيَمِ الخُلُقيّةِ والفَنّيّةِ، كقُدرتِها على إدراكِ المعاني الخَفيّةِ في العلاقاتِ الإِنْسانِيّة، (أو) القُدْرةُ على الحُكمِ على الآثارِ الفَنّيّةِ كالشِّعرِ والأدبِ والموسيقا بطريقِ الإحساسِ والتَّجربةِ الشَّخصيّة دون التَّقيُّدِ بقواعدَ مُعيَّنة، (أو) مَلَكَة الإحْساس بالجَمال، والتَّمييز بدقّة بين حَسنات الأَثر الفنّي وعُيوبه، وإصْدار الحكم عليه. والذَّوْق، أَساسًا، عاطِفة؛ ولذٰلك يتبدَّل حسب أَنْوَاع البشر، وأَزمنتهم، وحسَب الطَّوْر الّذي يمرّ به الإِنْسَان نفسه، تبعًا للأَزياء الفنّيّة الرّائجة في عصر من العصور أو مَذْهب من المذاهب. ومع ذلك، فثمَّة آثار فنّيّة خالدة تُقْبِلُ عليها الأَذواق في كُلّ زمان، وتتبيّن فيها مَلامح مَلامح من العَبْقريّة لا يَرْقى إليها الشَّكّ، وهي تلك الآثار الَّتي تُعْرضَ في المتاحف، أو نُمتّع بها في الهياكل والمَساجد والمعابد، أَو نسمع إليها أَنغامًا وأَلحانًا، أَو نَقْرأها قصائد وحِكَايات. أما (الذَّوْق السّليمُ)؛ فهو هو الحُكمُ على الأشياء حُكمًا صادقًا ودَقيقًا[1] .

وهو قسمان: (خاص)، و(عام)؛ فلكل منا ذوق فني خاص متأثر بشخصيته الفردية، فضلًا عن ذوقِهِ العام الذي يشترك فيه أبناء العصر الواحد في البيئة الواحدة. وهذان الذَّوْقان- كما يقول طه حسين-: هما اللَّذان يقضيان بأن هذه القصيدة- أو المقالة رائعة، تُنْشَد فنشترك في الإعجاب بها، أو قُلْ في مقدار من الإعجاب بها عامٍّ سواء أو كأنه سواء بيننا. ثم لا يمنع ذلك أن يكون لكل واحد منا إعجاب خاص بالقصيدة كلِّها أو بالبيت من أبياتها لا يستطيع أحد أن يشعر به ولا يقدّره.  والحياة الفنية إنما هي مزاج من هذين الذَّوْقين، فيه الوفاق حينًا، وفيه الصِّراع حينًا آخر، والذَّوْق العام هو الذي يعطي الحياة الفنية حظًّا من “المَوْضوعيّة[2]“، وهذه الأذواق الخاصة هي التي تعطي الحياة الفنية حظًّا من “الذَّاتية[3]([4]).

وقد استدرك الأستاذ أحمد الشَّايب على هذين بنوع ثالث هو (الذَّوْق الأَعَمّ) (الذي يشترك فيه النَّاس بحكم طبيعتهم الإنسانية التي تحب الجمال وتتذوقه: طبيعيًّا كان أم صناعيًّا. وهذا القدر المشترك بين النّفوس البشرية هو الذي يجمع بينها- أو بين المتأدبين بها- في الإعجاب بهومير وشكسبير وجوته والمعري والمتنبي، ثم يجمع بينها في الإعجاب بمشاهد الطَّبيعة الجميلة، وبالفضائل العامة، والأفعال المجيدة) ([5]).

تربية الذَّوْق:

يتأثر الذَّوْق على مر الأيام بعوامل مختلفة؛ حسية ومعنوية، تلك العوامل هي التي تطبعه بطابعها وأهمها:

  1. المُجْتَمَع:

وهو بظروفه الطَّبيعية وتقاليده المرعيَّة يطبَعُ ذوقَ الأديب، ويصبُغه بصبغته حتى يصبح- إلى حد ما- دالًّا عليه، وعنوانًا صادقًا له.

مركب للفنان عبد الوهاب عبد المحسن (مصر)

فلو استمعْتَ إلى “وصف السَّفينة” في شعر طُرْفة[6]:

يشُقُّ حَبابَ[7] الماءِ حيزومُها[8] بها

  كما قسمَ التَّربَ المفايلُ[9] باليدِ

ثم استمعْتَ إلى (أغنية الجُنْدول)[10]، شعر (علي طه محمود)؛ لأدركْتَ في يسر أن الأول ربيب البادية برمالها وتقاليدها، وأن الثَّانيَ ربيبُ الحضارة بمجاليها ومغانيها، وعرائسها وأحلامها.

وكان الأُدَبَاء في مصر– ولا يزالون- يشبِّهون انسياب الزَّورق على صفحة الماء بالحيَّة الرَّقطاء على الرِّمال المَيْثَاء [المَيْثاء: الرّملة اللَّينة]، ولكن أدباء لبنان يشبهونه بانسياب الغادة الحسناء على الثُّلوج البيضاء. أليس ذلك من أثر البيئة والمُجْتَمَع، ذلك الأثر الذي يتجلى في الألفاظ، رقةً وخشونةً، وفي الأَسَالِيب سهولة ووعورة، وفي الخيال بساطة وإغرابًا، وفي التَّشبيهات حضارة وبداوة، ملكية أو سوقية.

إن الأُدَبَاء أنفسهم قد أدركوا ما بين شِعرهم وشعر غيرهم من فروق اجتماعيَّة. ألا ترى (ابن الرُّومي) يغبِط (ابنَ المعتز) على تشبيهاته الحضرية؟ ولما سمع قوله في الهلال:

أهـلًا بفِطْـرٍ قـد أضاء هـلالُـه              فـالآنَ فاغْدُ على الصِّحابِ وبَكِّـرِ

وانظـرْ إليـه كزورقٍ من فِضَّــةٍ              قـد أثقلتْـهُ حمـولـةٌ من عَنْبَـرِ

وقوله في الآذريون([11]):

كأنّ آذريونَها
مَدَاهِنُ مِنْ ذَهَبٍ

  والشّمسُ فيه كاليَةْ
فيها بقايا غَاليَةْ[12]

صاح وقال: واغوثاه! لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. هذا يصف ما عون بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا ماذا أصف؟ ولكن انظر إلى قولي:

ما أنسَ لا أنسَ خبازًا مررْتُ به
ما بين رؤيتِها في كفِّه كرةً
إلا بمقدار ما تنداحُ[13] دائرةٌ

  يدحو[14] الرُّقاقةَ وَشْكَ[15] اللَّمحِ بالبصرِ
وبين رؤيتِها قوراءَ [16]كالقمرِ
في لَّجةِ البحر يُلقى فيه بالحجرِ[17]

  • العَصْر:

تمر الشُّعُوبُ والأمم بعصور سياسية مختلفة تتبعها– إلى حد ما- عصور أدبية مختلفة كذلك. فإذا كان الأدب فنًّا من الفنون الجميلة التي تؤثر في نفوسنا بما فيه من عناصر العاطفة والفِكْرَة والخيال والأُسْلوب؛ فإن الأدب يمثل عواطف الشَّاعِر والأديب وأفكاره وآماله؛ أي: يمثل عواطف أمته (أو قبيلته) وآمالها وآلامها، ويسجل حوادثها.

وإذا تفكّرنا في عناصر هذا الأدب وموضوعه، وجدناه عرضة للتَّغير والتَّطور في معناه وفي مبناه، وفي موضوعاته وأهدافها. وذلك لأن الحياة الإنسانية للفرد والأمة في تغير دائم وتطور مستمر.

 فقد تتقدم في سلّم الحضارة، أو قد تبدل تقدمها فيصبح تأخرًا وتتبدل رقّتها فتصبح انحطاطًا، والأدب ليس في حقيقته إلا مظهرًا من مظاهر هذه الحياة الإنسانية العامة، يعبّر عنها، ويمثّل جانباً منها، فهو بالتَّالي عرضة للتَّطَور، وتطوره تابع لتطور الحياة العامة يرقى برقيّها وينحطّ بانحطاطها.

وتنقسم عصور الأدب العربي إلى:

(أ)العصر الجاهلي: وقد اشتهر في هذا العصر أصحاب المعلقات. وفنون الشّعر في هذا الدّور هي الفنون الوثيقة الصلة بالحياة الجاهلية، كالفخر، والرّثاء، والمدح، والهجاء، والوصف، والغزل، والحكمة المستمدة من تجارب الحياة الجاهلية. ولم يكن فن الخطابة في هذا العهد في أهمية فن الشّعر، وممن وصل إلينا خطب لهم: قُس بن ساعدة الإيادي، وأكثم بن صيفي، وهانئ بن قبيصة الشّيباني، وغيرهم.

(ب) عصر صدر الإسْلام: وقد نزل الشِّعر عن مرتبته الأولى في هذا العهد، واحتلت مكانته الخطابة والرَّسائل، ولم يتأثر بالإسْلام إلا في ألفاظه، وشيء من الحكم المستمدة من القرآن الكريم أو الحديث الشَّريف يقوله الشَّاعِر في غرض من أغراضه.

(ت)العصر الأموي: وقد استرد الشّعر، في هذا العهد، مكانته الأولى وسادت إلى جانبه الخطابة، فقد عادت النّزعة القبلية إلى الظُّهور، وظهرت بذور الشّعر الذي ينصر مذهبًا دينيًّا على مذهب آخر، ولو أنه لم يستقلّ عن الشّعر السِّياسي تمام الاستقلال، وتأثر شعراء أكثر هذا الدّور  بالروح الإسْلامية. هذا وقد ارتقت الخطابة في هذا العهد لكثرة الأحزاب السِّياسية والشيع الدّينية وتنافسها، وظهر أدباء مشهورون من الولاة وأنصار الحكومة وخصومها.

(ث)العصر العباسي: ولم يلتزم شعراء هذا الدّور نظام القصيدة القديم المسمى بعمود الشّعر، ولم يلتزموا ببنية القصيدة الجاهلية المعتمدة على الوقوف على الأطلال والغزل، ووصف سفر الحبيبة، وسفر الشَّاعِر… إلخ، بل أخذوا يعنون بوحدة القصيدة، وبترك الوقوف على الأطلال، وترك أساليب التَّعبير الصّعبة، والألفاظ الغريبة، واهتموا بزخرفة اللَّفظ، وتنميق الكَلام، والغوص في الأَفْكَار. وطرقوا من الموضوعات الجديدة: الغزل الخاص، ووصف الخمر، والزّهْد، ورثاء المدن، والطرديات. وإن ترقَّت الكِتابَة وتنوعت فظهر أُسْلوب ابن المقفّع الحرّ،  فالأُسْلوب المرسل، وبقيت الخطابة مزدهرة، ثم تقهقرت عندما ابتعد العرب عن السِّياسة، وشاع اللَّحن، وفشَتِ العامية.

(ج)عصر الانحطاط: وهو الدّور الذي سيطر فيه العنصر التّركي فساد المماليك الأتراك في أوله على مصر والشَّام والجزيرة العربية، ثم ساد العثمانيون بعدهم على الأناضول والعراق والشَّام والجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقيا.

(ح) عصر الأندلس: كانت الثقافة اللّغوية والدّينية والأدبية زاهرة منتشرة في دوري:دور الدّولة الأموية من سنة 138 – 428 هـ، ودور ملوك الطَّوائف من سنة 428- 897 هـ.

(خ) عصر النَّهضة الحديثة: امتاز هذا العصر بانتشار المطابع، وإصدار الصّحف والمجلات، ورخص أثمان الكتب، وكثرة الترجمة. وازدهر فن الكِتابَة ازدهارًا لم تعرفه العربية، وأن الكتاب مالوا إلى الأُسْلوب الحر الواضح المشرق، وأن الخطابة قد انتعشت وتقدمت تقدمًا كبيرًا بفضل الحياة الحديثة الحرة وقيام المجالس النِّيابية ودفاع المحامين في المحاكم.

وبعد هذا الاستعراض الموجز لعصور الأدب وفنونه، يبدو أن شعر الملاحم المطوّلة والشّعر التَّمثيلي لم يظهرا في الأدب العربي إلا أَخيرًا في عصر النَّهضة الحديثة، وأن شعراء ما قبل النَّهضة لم يعرفوا من الشّعر إلا الغنائي.

أليست الأذواق مرآة تنعكس عليها روح العصر؟[18]

  • الوراثة العامة:

ونعني بها وراثة الشُّعُوب الكبرى، والسُّلالات البشرية المختلفة؛ فإن لكل جنس من الأجناس- سامية كانت أم آرية، سكسونية [جرمانية- هندو أوروبية] أم لاتينية- ذوقًا خاصًّا في التَّفكير والتَّعبير يغاير إلى حد ما أذواق الأناس الأخرى، تبعًا لاختلاف ما ورثه عن الجنس الذي ينتمي إليه. [انظر ابن المقفع الذي أثر به الأُسْلوب الفارسي+ اليوناني]

فالأمم الآريةُ [الجنس الآريّ: جنس تجمعه خصائص لغوية وجنسية، بعضه في الهند وإيران، وبعضه في أوروبا] تميل إلى الاستقصاء، وتوليد المعاني وجمعها من أطرافها بأسلوب مُطْنِب[19]، وفي شعر ابن الرُّومي- من هذه الصِّفات- ما يدل على جنسه الرُّوماني. وقد يكون الإطناب بألقاب التعظيم والتفخيم، والجمل الدعائية وغير ذلك مما كان سائداً في الأَسَالِيب الفارسية أيام الكِسْرَوِيَّة [نسبةً إل كِسْرى أو كَسْرى، ولا يقال في النّسبةِ كَسْرَويّ، بفتح الكاف]، تلك الأَسَالِيب التي اصطنعها- في أخريات الدَّولة الأموية- عبد الحميد الكاتب ومَنْ ترسم خطاه من الكتَّاب الموالي[20].

  • الثَّقَافَة والتَّأْديب:

البيت والمدرسة والمُجْتَمَع ميادين فسيحة للتَّربية الخاصة والثَّقَافَة العامة، ولا شك أن هذه التَّربية- خلقية أم علمية، نظرية أم عملية- تربي الذَّوْق على نهجها وتطبعه بأسلوبها، ومن هنا يكون التَّفاوت بين الأذواق تبعًا لاختلاف النَّشأة والتَّنشئة؛ فكم من أناس من بيئة واحدة وجنس واحد يختلفون في ميولهم وأحكامهم الذَّوْقية؛ لاختلافهم في أسلوب الدِّراسة ونوع الثَّقَافَة، واصطفاء الأصحاب، وطبيعة التَّقاليد.

فمن نشأ نشأة علمية عصرية، مال إلى السُّهولة، وآثر من الأَسَالِيب ما هو بأسلوب الصَّحافة أشبه. ومن تمرَّس بأساليب القدامى والمحدثين جمع ذوقُه بين مشارب هؤلاء وهؤلاء. ومن ثم كان ربيب الثَّقَافَة الأجنبية إلى آدابها أميل، وذوقه بأذواقها أشبه وبينا تراه يهتز طربًا لبراعة التَّصوير في قول فولتير: “إنما مثل المتكبر كالطَّائر، كلما تعالى تضاءل في أعين الَّناظرين”. قد لا يصيخ كثيرًا لمواعظ الحكماء في “التَّواضع وتجنب الكبرياء”؛ لأنه ملّ الحكم، وزهد في الزّهْد.

ولا شك أن طريقة الموازنة بين الأُسْلوبين، القديم والحديث أو العربي والغربي، أجدى وأنجح من سواها في تربية “الذَّوْق الأدبي”[21].

  • الشَّخصيّة:

وهي هذه الصِّفات الفردية الخاصة التي تميز الشَّخص من سواه، وبها يُعرف، ومتى تأكدت في الأديب عدّلت من مزاجه النَّابِع من ذاته على لون خاص يتجلى في أسلوبه؛ فالمتفائل مثلًا يخلع على أدبه من ذات نفسه، ويفيض عليه من روحه، فإذا هو أدب مشرق إشراق قول البحتري:

أتاك الرَّبيعُ الطَّلْق يختال ضاحكًا

  من الحُسْنِ حتى كادَ أن يتكلما

والمتشائِم يخلع عليه من مزاجه السَّوداوي ما يملأ القلب يأسًا وزهدًا… ألا تحسُّ ذلك في نبرات أبي العلاء:

صاحِ هذي قبورُنا تملأ الرّحـ
خففِ الوَطْء ما أظن أديمَ الأ

  ـبَ، فأين القبورُ من عهدِ عادِ؟
رضِ إلا من هذه الأجسادِ

وقبيحٌ بنا وإنْ قدم العهدُ هوانُ الآباءِ والأجدادِ

سِرْ إنِ استطعْتَ في الهواء رويدًا
ربَّ لحدٍ قد صارَ لحدًا مرارًا
ودفينٍ على بقايا دفينٍ

  لا اختيالًا على رُفَاتِ العبادِ
ضاحكٍ من تزاحُم الأضدادِ
في طويلِ الأزمانِ والآبادِ

تعبٌ كلُّها الحياةُ فما أعجبُ إلا من راغبٍ في ازديادِ

***

من أجل هذا تجلَّت شخصية عنترة في الحماسة، وجرير في الهجاء، وكُثَيِّر عزة وابن الملوّح في النَّسيب، والمتنبي في الفخر، والمعرِّي في الحكمة، وأبي العتاهية في الزّهْد، وابن الفارض في التَّصوف، والبُحتري في الوصف.

ومن حيث الأَسَالِيب تجلت شخصية ابن المقفع في الإيجاز، وعبد الحميد في الإطناب، والجاحظ في الاستقصاء والازدواج، وفي ميدان السَّجْع تجلت شخصية ابن العميد والبديع، والحريري والقاضي الفاضل.

مجالات الشَّخصيّة:

وتتجلى شخصيةُ الأديب في نواح ثلاث من نواحي الكَلام: طريقة النَّظم، وناحية الطَّبع أو الصَّنعة، وإيثار اللَّفظ أو المعنى.

  • طريقة النظَّمْ:

ونعني بها الأُسْلوب اللَّفظي الذي يسلُك الألفاظَ في جُمَلها، والجملة في فقرتها، والفقرة في عبارتها.

وللَّفظ معنًى أو معانٍ، وللجُملة دلالة أو دلالات، وللعبارة هدف أو أهداف، ولكل من هذه جمالها الجزئي على حِدة، فإذا قُرِنَت بغيرها اتَّضحت معالمُها، وظهرَت أسرارها. ومجال اختيار الألفاظ أولًا، وتكوين الجُمَل ثانيًا، والرَّبط بينها أخيرًا هو سر التَّفاوت بين أديب وأديب. إنه يتأثر بمنهج البحث، وشخصية الباحث التي تؤثِّر في ذوقه وأسلوبه. وكثيرًا ما يتناول الأُدَبَاء موضوعًا واحِدًا من فنون القول في اختيار الألفاظ أو نظمها في جملها، أو ترتيب العناصر وصياغة التَّراكِيب، وإن وصلوا جميعًا إلى الغاية؛ فمنهم مَن يتوخى رقة الألفاظ، وسلاسة العبارة، وعذوبة الموسيقى كالبحتري، ومنهم من يؤثِر الألفاظ الجزلة، والعبارة القوية المحكمة، والموسيقى الصَّاخبة كالمتنبي. ومن الكتَّاب من يؤثر التَّوازُن والازدواج[22] كالجاحظ، ومنهم من يؤثر السَّجْع والجناس والطِّباق كبديع الزمان.

  • الطَّبْع والصَّنْعَة:

من الأُدَبَاء مَن يغلِبُ عليه الطَّبْع السَّمْحُ، الذي يصلُه بأسباب البَلاغَة من غير جُهْد، فلا يغوص وراء المعاني، ولا يجري وراء الألفاظ المونقة إن تأبَّتْ عليه، ويكفي أن تتجه نفسُه إلى الغرض، ليرسِلَ القول على طبيعته، سيان عنده: أن جاء موجزًا أم مطنبًا، مرسلًا أم مسجعًا أم موشى بألفاظ الزُّخْرُف[23] وصور الخيال، كابن المقفع وسهل بن هارون؛ ومنهم من غلبت عليه الصَّنْعَة، فلا يسيل قلمه إلا في إطار من الزُّخْرُف، وعلى ديباجة من حرير؛ إذا تخيل أبدع، وإن صوَّر أمتع، وإن سجع فدونه سجع الحمام؛ كابن العميد وبديع الزَّمان.

ومنهم من أُغْرِم بهذا اللَّوْن ولم يسعفْه الطَّبْع؛ فراح يثقل أسلوبه بألوان الزُّخْرُف، ليعوِّض ما فاته من المَوْهِبَة، حتى تعثرت “الحقيقة” في ثياب الزِّينة وضلت طريقَها، أو كادَت، في متاهات الخيال، كالحريري والقاضي الفاضل وأبي العلاء في بعْض رسائلهم المصنوعة.

من أجل هذا اختلفت أساليبُ الكتَّاب وسواهم من الأُدَبَاء باختلاف أمزجتهم وشخصياتهم الأدبية، وكلٌّ ميسَّر لما خُلِق له.

  • اللَّفظ والمَعْنى:

من النُّقَّاد من يرى القمَّةَ البَلاغيَّة في الألفاظ ويرى “أنها أغلى من المعنى ثمنًا، وأعظم قيمة وأعز مطلبًا؛ فإن المعاني موجودةٌ في طباع النَّاس، يستوي فيها الجاهل والحاذق، ولكن العمل على جودة الألفاظ، وحُسْن السَّبكِ وصحة التَّأْليف”([24]).

ومن أنصار هذا الرّأْي (أبو عثمان الجاحظ) الذي يرى أن العبارة الجزلة الرَّائعة هي الذُّرْوَة في البَلاغَة، أما المعاني، فمطروحة في السُّوق والشَّارع يقع عليها الأعجمي والعربي، والسُّوقي والملكي، والمهذَّب والمثقَّف.

وجاء من بعده على شاكلته (أبو هلال العسكري)، فقد أرجع سِرَّ البَلاغَة أيضًا إلى الألفاظ، يقول: فإن كان الكَلام قد جمع بين العُذوبة والجزالة والسُّهولة والرَّصانَة مع السَّلاسَة[25] والنَّصاعة واشتمل على الرَّوْنَق والطَّلاوة[26] وسَلِم من حَيْفِ التَّأْليف، وبَعُدَ عن سماحة التَّرْكيب، ورد على الفهم الثَّاقب فقبله ولم يرده، وعلى السَّمْع المصيب استوعبه ولم يمجّه. والنَّفْس تقبل اللَّطيف وتنبو عن الغليظ وليس الشَّأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللَّفظ وصفائه وحسنه وبهائه، مع صحة السَّبْك والتَّرْكيب، والخلو من أَوَدِ [عِوَجِ] النَّظْم والتَّأْليف([27])، وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا، ولا يُقْنَعُ من اللَّفظ بذلك حتى يكون على ما وصفناه من نعوتِهِ([28]).

وأبو هلال- وكذلك الجاحظ- لم يرسل القولَ على إطلاقه؛ بل قيَّده كما رأينا بصحة المعنى وهذا أمر طبيعي؛ إذ لا خيرَ فيما أُجيد لفظُهُ إذا سَخُف معناه، ولا في غرابةَ المعنى إلا إذا شَرُفَ لفظُه.

هذا وقد ظن الدُّكتور (زكي مبارك) أن (أبا هلال) قد تراجَعَ أو تناقض([29]) مع نفسه حينما قرر في موضع آخر أن المدار على إصابة المعنى وأن المعاني تحل من الكَلام محل الأبدان، والألفاظ تجري معها مجرى الكُسْوة([30]).

ونرى (أبا هلال) لم يضطرب ولم يتناقض، وأنه ما زاد على أن أبرز شأن المعنى في العبارة: وهل يختلف اثنان في أن المعنى لبُّ وجوهر واللَّفظ عرض وقشور، ومع ذلك، فاختيار الألفاظ وترتيبها ترتيبًا ذوقيًّا هو ميدان العبقرية لأنها تعز على من رامَها وتطول.

إن (أبا هلال) كان واضحًا صريح اللَّفظ في الإفصاح عن رأيه فيما ذهب إليه بقوله: (إن الكَلام إذا كان لفظه غثا، ومعرضه رثا كان مردوداً، ولو احتوى على أجل معنى وأنبله)([31]).

ومنهم من يؤثِرُ جانب “المعنى” ويراه أشبه بروحٍ شفَّاَفة في جسد هو اللَّفظ، أو جسم حي مدثر بهذا الرِّداء من الألفاظ. وإلى هذا الجانب وقف (ابن قتيبة)([32]) مقررًا أن العبرة بكرَمِ المعاني التي تحوي أَفْكارًا منظَّمةً بريئةً من الخطإِ، سريعةً إلى الأفْهام. ومن ثم أطلق لسانَه في أبياتِ (كثَيِّر عزَّة):

ولما قضينا من مِنى كل حاجةٍ
وشُدّتْ على حُدْب المهاري رحالُنا
أخذْنا بأطراف الأحاديثِ بيننا

  ومسَّح بالأركانِ مَن هو ماسحُ
ولم ينظرِ الغادي الذي هو رائحُ
وسالت بأعناق المطى الأباطح([33])

يقول: “هذه الأبيات أحسن شيء مطالع ومخارج ومقاطع؛ فإذا نظرت إلى ما تحتها وجدتها: ولما قضينا أيامِ منى، واستملنا الأركان، وعالينا الإبل الأنضاء، ومضى النَّاس، لا ينظر من غدا الرائحَ، ابتدأنا في الحديث وسارت المطى في الأبطح”.

غير أن (عبد القاهر الجرجاني)([34]) قد كشف عما في الأبيات من صدق الشُّعُور وجمال التَّصوير وروعة الخيال، وإن خلت من آيات الحكمة التي كان ينشدها (ابن قتيبة).

أما الأستاذ (الشَّايبُ)، فقد فصل ما أجملَهُ (الجرجاني) وأفصح عن سر البَلاغَة في الأبيات بقوله: “والحق أن (ابن قتيبة) لم يحسِنْ تحليل هذه الأبيات، فمسخَها مَسخًا شنيعًا، وذهب بأصلِ جمالها الذي تراءى منه شيء في الألفاظ، وغَفَلَ عن باقيه، وذلك أنه لحَظَ جمال الأُسْلوبِ، وهذا شيء لا خلاف فيه، ثم تناول الأبيات من ناحية الحقيقة العقلية أو الأَفْكَار فنفاها عنها، أو أنكر قيمتها المعنويَّة بناء على ذلك. ونقول إن هذه النَّاحِيَة المعنوية لم يتوافر لها حكمة سائرة، ولا نظرية جديدة، وهذا ليس بمحتوم. ثم نجده يغفل عنصرين من عناصر الشِّعر، ولعلهما أصل جماله (العاطفة والخيال). هذه العاطفة تتراءى في أمَلِ الحاج في المغفرة بعد أداء الفريضة وفي شوقهم إلى أوطانهم الأولى، وفي التآلُف الذي يجمع بين السَّفرْ فيدلون عليه بألطف الأحاديث وأخفها على النُّفوس. وقد صور هذه المشاعر بصور خيالية رائعة، فكنَّى بمَسْحِ أركان الكَعْبَة واستلامها على الانتهاء من مناسك الحج، وعن الأخذ في العَوْدَة بشد الرِّحال على متون الإبل، وصور في البيت الثَّالث تهالكَ النَّاس راجعين، وتآلفهم سائرين”([35]).

ولعل في طليعة مَنْ يؤثرون جانب المعنى، واضعُ علم البَلاغَةِ، (عبد القاهر الجرجاني)، ونلمح ذلك في قوله: “لا شبه أن الحسن والقبح لا يعترض الكَلام بهما إلا من جهة المعاني خاصة من غير أن يكون للألفاظ في ذلك نصيب، أو يكون لها في التَّحسين-أو خلاف التحسين – تصعيد وتصويب”([36])؛ وقوله: “إن مزية الألفاظ ليست لك حيث تسمع بأذنك؛ بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك”. وفي تفصيل ذلك أخذ يقول: “… فإذا رأيت البصير بجواهر الكَلام يستحسن شِعْرًا أو يستجيد نَثْرًا، ثم يجعل الثَّناء عليه من حيث اللَّفظ فيقول: حلو رشيق، وحَسَن أنيق، وعذْب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف، وإلى ظاهر الوضع اللّغوي؛ بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده وفضل يقتدح العقل من زنادِه”([37]).

هذه بعض وجهات النَّظَر لأعلام النَّقْد في القديم، وقد رأينا في عصرنا الحاضر من ينتصر لجانب اللَّفظ كالأستاذ (مصطفى صادق الرَّافعي) في قوله: “فصل ما يبن العالم والأديب أن العالم فكرة والأديب فكرة وأسلوبها” والأُسْلوب الذي قر في أكثر النُّفوس-كما يرى الزَّيَّات- يطلق على الجانب اللَّفظي من الكَلام([38]).

ومنهم مَن ينتصر لجانب المعنى ك الدكتور (زكي مبارك)؛ استمع إليه يقول في الرَّد على أنصار اللَّفظ: “وقد كان من القدماء مَن يرى أن البَلاغَة لا ترجع إلى المعاني؛ لأن المعاني في رأيِهم يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي. وإنما ترجع البَلاغَة إلى جودة اللَّفظ وصفائه؛ ودليل ذلك عندهم أن الخطبَ والأشعارَ الرَّائعة ما عملت لإفهام المعاني فقط؛ لأن الرَّديء من الألفاظ يقوم مقام الجيد منها في الإفهام، وأن الكَلام إذا كان لفظه حلوًا عذبًا ومعناه وسطًا دخل في جملة الجيد، وإذا كان المعنى صوابًا واللَّفظ باردًا دخل في جمل المستهجن الملحوظ. أما نحن، فنلقى العجم والقرويين جانبًا ونحصر البَلاغَة في جهور المثقفين. ثم نقرر أن الألفاظ مِلك للجميع يجدونها حيث أرادوا في المعاجم والدَّواوين ولا يبقى موضعاً للجهد والعنت أو العبقرية إلا المعاني والأغراض، ومن العبث أن نظن أن البَلاغَة لا تخرج عن المناورات اللَّفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزُّخْرُف، وامتهان لصولة العقول؟ إن الألفاظَ في مقدور كلِّ شاعِر وكل كاتِب وكل خطيبٍ، ولكن المعجز حقًّا هو الفِكْرَة وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزنًا للصِّناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفِكْرَة تجيء أولًا ويجيء الورق ثانيًا كما يقول الفرنسيون”([39]).

وفي موضع آخر يقول: “إن ألفاظ القرآن كألفاظ كل كلام عربي مبين لا تمتاز باللَّفظ ولا بالأداء وإنما تمتاز بالمعنى والغرض والرُّوح”([40]).

كان طبيعيًّا أن تشغل هذه القضية البَلاغيَّة أيْضًا أدباء أوروبا ونقادَها، وأن يكون منهم من يؤثِر اللَّفظ ومنهم من يؤثِر المعنى، وقد نقل إلينا الأستاذ (الزَّيَّات) جانبًا مما دار بين الطَّرفين في الأدب الفرنسي العريق: يقول: “كان (فلوبير) إِمام الصِّناعة في فرنسا، أخذ نفسه بالتزام ما لا يلتزمه غيره، فكان لا يكرر صوتًا في كلمة، ولا يعيد كلمةً في صفحة، وكانت أذنه هي الحكم الأعلى في صَوْغ الكَلامِ، فلا تستسيغ منه إلا ما حَسُنَ انسجامه، وتعادلَت أقسامه، وتوازنت فقره)([41]) ثم يشفع ذلك بما ذكره عنه تلميذه (جي دي موباسان)([42]) Gui de Maupassant من أنه “كان يرفع الصَّحيفة التي يكتبها إلى مستوى نظرِهِ وهو معتمِدٌ على مرفقِهِ، ثم يتلو ما كتبَ، جاهِرًا بتلاوته، مصغيًا لإيقاعِهِ فكان في نَبْرِهِ[43] وإرساله يوفق بين السّكنات والحركات، ويؤلف بين الحروف والكلمات، ويضع الفواصل في الجملة وضعًا دقيقًا محكمًا، فكأنها الاستراحات في الطَّريق الطَّويل”([44]).

كما أشار إلى الكونت (دي بوفون) Buffon ، وهو من أشهر كتَّاب فرنسا في القرن الثَّامن عشر، وإلى خطبته عن الأُسْلوب التي ألقاها يوم دخل الأكاديمية الفرنسية تلك التي قرر فيها أن الأَفْكَار والحوادث والمكتشفات شركة بين النَّاس، ولكن الأسلوب من الرَّجُل نفسه”([45]).

كما أشار إلى عبارة (شاتوبريان) الواضحة التي صرح فيها بقوله:

“لا تحيا الكِتابَة بغير الأُسْلوب، ومن العناء الباطل معارضة هذه الحقيقة، فإن الكتاب الجامع لأشتات الحكمة يولد ميتًا إذا أعوزه الأُسْلوب”.

أما بلاغة المعنى، فقد وقفَ إلى جانبها الكاتب الذَّائع الصِّيت (إميل زولا) ينافِح عنها بكل ما أوتي من قوة، ويناهض أنصار المعنى بكل ما أوتي من منطق ومن ذلك قوله:

“ليس من مطلق الحق- وإن عارض بوفون، وبوالو، وشاتوبريان، وفلوبير- أن الكاتبَ يكفيه أن يعنى كل العناية بأسلوبِه ليشق له الأدب طريقًا يبقى إلى الأبد؛ إن الشَّكْل عرضة للتَّغيير والزَّوال بسرعة، ولا بد للعمل الكتابي قبل كل شيء أن يكون حيًّا ولا يمكن أن يكون حيًّا إلا إذا كان حقًّا، والكاتب لا يظفر بالخلود إلا إذا استطاع أن يوجد مخلوقات حية، وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسوب هوميروس، وفرجيل، ونحن نقرأهما مترجمين([46])؟ أي إِن روائع اليونان والرُّومان لم تخلد على الأيام إلا بمعانيها لا بألفاظها، فلو كان خلودها منوطاً بدقة الصِّيَاغة ما عاشت بالتَّرجمة. وفي الرَّد عليه يقول الأستاذ (الزَّيَّات): التَّرجمة الصَّحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشَّاعر وحدها عن الأصل، إنما تنقل مع ذلك إشراق روحِهِ، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه([47]). وهو بذلك قد أجهد نفسه وأجهدنا معه، وكان يكفيه في ذلك أن يأخذ بيد الكاتب المماري ويضعها على الحقيقة التي لا تخفى، وعندها سيرى أنها حجة عليه لا حجة له وذلك حينما تعقد الموازنة الأدبية بين هذه الرَّوائع الخالدة في ثوبها الأصيل، وبينها في ثوبها المستعار، وسيرى أنها في الأصل أجمل منها- لا محالة- في الصُّورة، فإذا أتيح لها في العربية قلم يفيض عليها من بلاغته كقلم صاحب الإنيادة أو الإلياذة، اكتمل لها الفن من طرفيه وازدادت سموًّا في أعين القراء والنُّقَّاد[48].

شخصيَّةُ الأديبِ

في هذه الميادين الثَّلاثةِ، إذن، تتجلى “شخصية الأديب“، فتطالعك بروحِه وخلُقُه، وذوقِه، ومذهبِه، وثقافتِه. ومن هنا اختلفت الأَسَالِيب باختلاف الشَّخصيّة، وليس من العسير معرفة أعلام الكِتابَة أو مدارسهم من أساليبِهم الخاصة؛ فأسلوب (الجاحظ) غير أسلوب (ابن المقَفَّعِ) أو (عبد الحميد)، وهما غير أسلوب (ابن العميد).

وفي عصرنا الحاضر تجلت الشَّخصيّة البارزة في أسلوب المازني والعقاد والرَّافعي والزَّيَّات، والبشري، وطه حسين، ومن قبل تجلت شخصية المنفلوطي، في عبراتِه ونظراتِه، في أسلوبِه الدَّامع الحزين.

تجلت شخصية (المازني) في الاستطراد والتَّهكم[49] ورشاقة الألفاظ، وتجلت شخصيَّة (العقَّاد) في رصانة الأُسْلوب، وعُمْق الفِكْرَة، وتحليل الموضوع، وسلاطة اللِّسان إذا هجا، وصراحة القَوْلِ إذا نقدَ([50]).

أما (الرَّافعي)، فهو جاحِظُ عصرِه، بعلمه الغزير، وبديع دهرِه، بألفاظه المنتقاة، و (الزَّيَّات) فهو أديب المقالةِ[51] غير مدافع ولا منازع، يغزو الآذان بجزالة اللَّفظ، وقوة الموسيقا وبين العبارة المفخمة، والدِّيباجة المشرقة تتراءى شخصيتُهُ الواضحة، وكأنها تنزع في قوس الخطَبَاء.

وكذلك الدُّكتور (طه حسين)؛ فإن أسلوبَه الهادئَ الواضح هو قبَسٌ من نفسِهِ الصَّافية وروحه الهادئَة الوادعة. وإن شخصيته لتبدو بجلاءٍ في سهولة الألفاظ وعذوبتها، والمزاوجة بين الجُمَلِ في يُسر؛ والتّكرار من غير إسفافٍ أو إملالٍ، والبَسْط والإيضاح من غير سأم؛ فلا تجد لفظة نابية، ولا كلمة قلقة، ولا عبارة ملتوية أو معقدة؛ بل تطَّرد في هدوء اطِّراد الماء، وتمر على الآذان في خفَّةِ مر النَّسيم، فإذا هَجَا أوجع من غير جراح، وإذا رثى أشجى من غير نواح؛ وإذا رمى أصمى[52] بلا سهام، وكأن حديثه السِّحرُ الحلال؛ وهذا هو “السَّهل الممتنع” كما يقولون[53].

دراسة وتحقيق : د. إيمان بقاعي

17\4\2012



[1]إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والشَّباب، (حرف الذَّال).

[2]المَوْضُوعِيُّ: هو المَنسوبُ إلى المَوضوعِ بجميعِ مَعانيهِ، وهو المَنْطقيُّ، غيرُ الذَّاتِيِّ. فـ(الفِكْرُ المَوْضُوعِيُّ): هو الّذي يتصوّرُ الأَشياءَ مِن غير تَشْويهِها بإقْحامِ اعْتباراتٍ شَخْصِيَّة؛ بينما (المَذهَبُ المَوضوعيُّ): كلُّ مَذهبٍ يُقَرِّرُ أنَّ الذِّهنَ يَستطيعُ أن يَصِلَ إلى إدراكِ حَقيقةٍ واقعيَّةٍ، قائمةٍ بِذاتِها، مُستَقلَّةٍ عن النَّفسِ المُدركةِ، أمَّا (الأُسْلُوب المَوْضُوعيّ)؛ فهو الّذي يَصِفُ الأَشياءَ كما تَتَرَاءَى له ولجميعِ النَّاس[إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والشّباب].

[3]الذَّاتيّةُ: صفةٌ اصطلاحيَّة حديثةٌ تُطلق على الأحكام التي لا تَرتكزُ على الواقع الموضوعيِّ، وإنما على تصوُّرات تأمليَّة خاصة. كما تُطلق على الآثار الأدبية والفنيّة التي تستمدُّ مضامينَها من رؤيا نفسيَّة تخيّليّةٍ دونَ مراعاةِ الوقائعِ الموضوعيّةِ في ما تعالجه من موضوعاتٍ وتقدِّمه من صورٍ وتقيمُه من معادلات. [إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والشّباب].

[4])) طه حسين: شوقي وحافظ، المعارف، ص23.

[5])) أحمد الشّايب: أصول النَّقْد الأدبي، الطّبعة الثَّالثة بالاعتماد، ص126. [انظر: محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي، دراسة تحليلية نقدية لتطور الأَسَاليب. مكتبة الطالب الجامعي31، ط2:

28-29].

[6] – من معلَّقته ومطلعها: لِخَوْلَةَ أَطْلاَلٌ بِبَرْقَةِ ثَهْمَدِ \تَلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ.

[7]الحَباب (ح ب ب): الفقاقيع.

[8] الحَيزومُ (ح ز م): وسَطَ  الصَّدرِ وما يُضَمُّ عليه الحِزامُ، ج: حيازِمُ وحيازيمُ.

[9] المُفَايِل (ف ي ل): الذي يلعب بالتُّراب، و(المُفايَلَةُ): لعبة لصبيان الأعراب، يخبئون شيئًا في التّراب ثم يقسمونه نصفين ويقول بعضهم لبعض: في أيّ الأقسام ذلك الخَبِيء؟ فإذا أصاب المسؤولُ قَمَرَ أصحابه (غلبَهم في لعب القِمارِ)، وإن أخطأ قالوا له: فالَ رأيك: أي ضَعُف.

[10]الجندول: هي قصيدة ألفها الشَّاعر علي محمود طه، ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب وغناها عام 1941. جاءت تسمية هذه القصيدة من الجندول وهو قارب يستخدم في التنقل عبر مدينة البندقية في إيطاليا التي يبدو أن الشاعر زارها وحازت على إعجابه فقال في بعض أبياتها: أين من عيني هاتيك المجالِ\ يا عروس البحر يا حلم الخيالِ\أين عشاقك سمَّار الليالي\أين من واديك يا مهد الجمالِ\موكب الغيد وعيد الكرنفالِ\وصدى البلبل في عرض القنالِ. [جُنْدُول : gondola زَوْرَق الْبُنْدُقِيَّة]. ويقول إبراهيم عوض عام 1984: إن د. شوقي ضيف في التّعقيب على هذه القصيدة: “فهذه الأغنية إذا حاولت أن تبحث ‏عن معان حقيقية وراء ألفاظها لم تجد شيئًا. إنما هي ستار صفيق من المادة اللَّفظية قد وضع أمام ‏عينيك، وهي مادة لا تعني أي شيء وراءها من فكرة أو معنى، إنما تعني نفسها ومزاياها الصوتية ‏فحسب. ولو أن الشَّاعر سئل ماذا يريد بكل هذه الألفاظ التي جمعها من هنا وهناك لأعياه الجواب، ‏لسبب بسيط، وهو أنه لم تمر بذهنه تجربة شعرية حقيقية، وإنما مرت ألفاظ وأخذت تظهر في شكل ‏أسلاك وعقود، فصاغها هذه الصياغة اللّفظية الطَّريفة”.

[11])) فارسي معرب لزهر أصفر في وسطه خمل أسود.

[12]كالية (ك ل أ): كالئة؛ أي: حارسة، حافظة؛ يقال: كَلأَهُ اللَّهُ: حَفِظَهُ، صَانَهُ، حَرَسَهُ.

[13]تنداحُ (ن د ح): مضارع (انداح) الشيءُ: انبسطَ، امتدَّ، ومصدره: اندياحًا.

[14]دحا (د ح و): الخبازُ العجينَ: بسطَهُ ورققهُ.

[15] الوَشْكُ (و ش ك): مصدر وَشُكَ: السرعة. و(وَشْكُ البَصَرِ): كناية عن سرعة الخباز.

[16]القوراءُ (ق و ر): مؤنث الأَقْوَر؛ أي: الواسع.

[17]المشبَّه: حال عجينة الرُّقاقة في يد الخباز، تكون في أول أمرها كرةً صغيرة ثم تنبسط وتستدير بسرعة،والمشبه به: حال دائرة في الماء ناشئة من إلقاء حجَر تكون في أول أمرِها صغيرة ثم تنداح سريعًا. أما الجامع ما بين المشبه والمشبه به؛ فهو صورة شيء يبدو في أول أمره صغيرًا مستديرًا، ثم يأخذ في الاتساع والانبساط وشيكًا.[انظر: محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي، دراسة تحليلية نقدية لتطور الأَسَاليب. مكتبة الطالب الجامعي31، ط2: 29-30].

[18] – إيمان بقاعي: المتقن في الأدب العربي المعاصر. بيروت، دار الرّاتب الجامعية، ط: 2007. [بتصرف].

[19]الإطناب (ط ن ب): تعبير عن المعنى المُراد بكلامٍ يزيد عليه، إما للإيضاح بعد الإبهام، أو لذكر الخاص بعد العام، أو للتكرار طلبًا لنُكتةٍ، أو للتَّذييل [إرداف الجملة بجملة تشتمل على معناها تأكيدًا لها]. ويعتبَر اليوم من العيوب الأسلوبية. وهو مستهجَنٌ في اللُّغات الغربية.

[20]محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي، ص: 31.

[21]محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي،ص: 31-32.

[22]ازْدِواجُ الكَلَام (ز و ج): الازدواجُ: مصدرُ (ازدَوَجَ)، و(ازْدِواجُ الكَلَام): تشابُهه في السَّجْعِ أو الوَزْنِ، (أو) كان له مَعْنيانِ.

[23]الزُّخْرُف في الأدبِ (ز خ ر ف): في الأصل: الزِّينةُ، (أو) النُّقُوشُ والتَّصاويرُ المَصنوعةُ بالذَّهَبِ، (أو) الزِّينةُ وكمالُ حُسْنِ الشّيءِ، (أو) زينةُ النَّباتِ، و(في الأدبِ) تنميقُه وترصيعُهُ باعتمادِ المُحسِّناتِ المعنويةِ واللَّفظيَّةِ، وجمعُهُ: زخارِفُ.

[24])) العمدة ج1/82.

[25]السَّلاسَةُ، والسَّلِسُ (س ل س): مصدر سَلُسَ، وهو السُّهولةُ، (أو) الانقيادُ، و(من اللَّفظ): رقّتُه وانسجامُه، و(السَّلِسُ): السَّهْلُ اللَّيِّنُ المُنْقَادُ.

[26]الطَّلاوَةُ والطُّلاوَةُ (في الشّعر والنَّثْر) (ط ل و): الطَّلاوَةُ الحُسْنُ والرَّونَقُ؛ يقال: لكلِّ جَديدٍ طَلاوَةٌ، (أو) الجِلْدَةُ الرَّقيقةُ فَوْقَ اللَّبَنِ أَو الدَّمِ، (أو) الرِّيقُ الّذي يَجِفُّ على الأَسْنَانِ مِن الجُوع أو الكَلأُ، و(في فَمِه طَلاوَةٌ): بَقِيَّةٌ من طَعامٍ، و(في الشّعر): تلاحُمُ أجزاءِ الوَزنِ الشّعريِّ وتَآلُفِ تَفاعيله، و(في النَّثْر): تَآلُفُ الحُرُوف وتَنَاسُقُ الكلماتِ فيما بينها.

[27])) الصِّناعتين، ص43.

[28])) ص44.

[29])) النَّثْر الفني ج2/109.

[30])) ص51.

[31])) الصناعتين 49.

[32])) الشّعر والشُّعَرَاء ج1/11.

[33])) تروى للمعلوط السّعدي.

[34])) أسرار البلاغة، ص15.

[35])) أصول النَّقْد الأدبي، ص229، ط3.

[36])) أسرار البلاغة، ص3.

[37])) دلائل الإعجاز، ص4.

[38])) دفاع عن البلاغة، ص59.

[39])) النَّثْر الفني ج2/72.

[40])) المرجع السَّابق ح732.

[41])) دفاع عن البلاغة، ص65.

[42])) من أنصار المذهب الواقعي البارعين في الأقصوصة، عاش في النِّصف الثَّاني من القرن التَّاسع عشر.

[43] – النَّبْرُ، ونبراتُ الكِتَابَة (ن ب ر): مَصْدرُ نَبَرَ، والنَّبْرُ (بِالكَلَام): الهَمْزُ، والنَّبْرُ (في النُّطْقِ): إبْرَازُ أَحَدِ مَقَاطِعِ الكَلِمَة عند النُّطْقِ، والنَّبْرُ (في الشِّعْرِ): عنْصرٌ مِن عناصرِ الإيقَاعِ في النَّصِّ الشِّعْريِّ، ويركّزُ من خلالِه على مقْطعٍ صوتيٍّ عند قراءةِ القصيدةِ أو إنشائِها إذْ يبدأُ النَّغمُ مُتَصاعدًا وينتهي هابطًا، وبمعنى آخَر: رَفْعُ الصَّوْتِ بعْدَ خَفْضِهِ. وقواعِدُ النَّبْر: من شروطِ القِرَاءَة الصَّحِيحة: مُراعاة قواعد النَّبْر، وهو: رَفْعُ الصَّوْتِ بعْدَ خَفْضِهِ، وبمعنى آخر: إبْرَازُ أَحَدِ مَقَاطِعِ الكَلِمَة عند النُّطْقِ [مُلاحَظَة: وباختِلافِ مَوضِعِ النَّبْرِ مِن الكَلِمَة تَتَمَّيزُ اللَّهَجاتُ]. [إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والشَّباب].

[44])) دفاع عن البلاغة، ص66.

[45])) المرجع السابق، ص67.

[46])) دفاع عن البلاغة، ص70.

[47])) المرجع السَّابق، ص72.

[48]محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي، ص 32-40.

[49]أُسْلُوب التَّهَكُّم (بلاغة): لونٌ من ألوان البديع يُعبَّر فيه بعبارة يُقصد منها ضدّ معناها للتَّهكُّم ، كأنْ يُؤتى فيه بلفظ البشارة في موضع الإنذار،  والوعد في مكان الوعيد ، والمدح في معرض الاسْتهزاء. [إيمان بقاعي: أدب الأطفال والشَّباب].

[50])) العُمْدة: ج1/127.

[51]المَقَالَةُ، والمَقَالُ (ق و ل): (المَقَالَةُ): مصدر قالَ يقولُ، وهو القَوْلُ، (أو) بَحْثٌ قَصيرٌ في العِلمِ أو الأدَبِ أو السِّياسةِ أو الاجتماعِ، يُنْشَرُ في الصُّحُفِ والمَجَلَّاتِ، وقد عرفَ العرب هذا الفَنَّ الأَدَبِيَّ ودَعوه (الرِّسالة). [إيمان بقاعي: أدب الأطفال والشَّباب].

[52]أصمى الرَّمْيَةَ (ص م ي): أنفذَ فيها السَّهمَ ونحوَهُ.

[53]محمد نبيه حجاب: بلاغة الكتّاب في العصر العَبّاسِي، ص: 43، بتصرف.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات