مدن الحرير ودروبه: غازانية … «أبواب البر والخيرات» ومحط رواد الحرير في العصور الوسطى

09:06 صباحًا الأحد 25 أبريل 2021
سوزان عابد

سوزان عابد

باحثة من مصر، مهتمة بمدن طريق الحرير

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

محطتنا اليوم على طريق الحرير لن تكون في واحدة من كبريات المدن المشهورة ذائعة الصيت؛ بل في ضاحية صغيرة هادئة وبسيطة. ولكنها كانت محط اهتمام رواد طريق الحرير البري والمسافرين وكثير من رحالة العصور الوسطى؛ إنها ضاحية «غازانية» والتي تعرف أيضًا بـ «شنب غازان».. محطة وليدة لم يكن لها وجود قبل القرن الثامن الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وللأسف لم يتبق منها الكثير باستثناء موقع الأحداث، والاسم، وسطور لشهادات من زاروها وفتنتهم بسحرها.

ففي أذربيجان الشرقية، وتحديدًا في مدينة تبريز- العلامة المميزة دومًا على الطريق التجاري الدولي -؛ ولدت ضاحية جديدة، جمعت في اسمها بين التاريخ والجغرافيا؛ تاريخ الحاكم الذي أمر ببنائها وأهداها اسمه، وجغرافيا المكان الشاهد الحي إلى اليوم والمعروف قديمًا بـ «شام/ شم».

أما التاريخ.. فهو يأخذنا بشكل مباشر إلى السلطان محمود غازان خان الذي ارتقى العرش الإيلخاني في فارس والعراق في الربع الأخير من القرن الثاني عشر الميلادي، وكان وصوله لسدة الحكم نقطة تحول في تاريخ الدولة الإيلخانية والمجتمع الفارسي وبلاد الرافدين. وكذلك في حركة البناء والتعمير على حد سواء؛ إذ انشق غازان خان عن قاآن الصين وبالتالي عجل قبول ثقافة الترف الفارسية والعباسية على بداوة المغول وتقشفهم. وقد اعتنق غازان الدين الإسلامي وسمى نفسه محمودًا. وقام ورئيس وزرائه رشيد الدين الهمداني بأكبر حركة إصلاحية لإنعاش الاقتصاد وتأسيس ميزانية خاصة بالإنفاق على العمران لا سيما المباني الدينية. كما أمر بتشييد الخانات على طول طرق التجارة الرئيسية والحمامات العامة في كل مدينة. وكان إعلان الدين الإسلامي دينًا رسميًّا للبلاد هو أول ما أمر به يوم تولية حكم البلاد. وأن تسك الشهادتان على أختام الدولة وأن تشرع الأوامر والقوانين والمكاتيب الرسمية بالبسملة وأن يراعى ذلك على العلمة التي تضرب باسمه وبنقش أسماء الخلفاء الأربعة عليها كما كان الرسم أيام العباسيين. وتوفي غازان خان في الحادي عشر من شوال 703ه/ 1303م.. وبالرغم من قِصر فترة حكم غازان إلا أنه مع ذلك يعد واحدًا من أهم سلاطين الشرق العظام بسبب إصلاحاته وأعمال العمرانية بشكل أساسي؛ فقد أولى غازان خان اهتمامًا كبيرًا بالعمران والتشييد وكان مولعًا ومحبًا للبناء وله أيادٍ بيضاء في فارس والعراق. 

وواحدة من أجل مآثر السلطان غازان خان هو تأسيسه لضاحية جديدة خارج أسوار مدينة تبريز، ويرجع تاريخ تأسيسها والسبب الرئيسي فيه عندما استمر نمو «تبريز» – عاصمة المغول الإيلخانيين آنذاك – واتسعت مساحة الضواحي المتاخمة لأبواب سور المدينة حتى كادت أن تصبح كتلة واحدة. ونتيجة لهذا التوسع؛ أمر غازان أن يتم البدء في عمل سور جديد يدور حول المدينة القديمة وضواحيها وسورها القديم. وخلف السور الثاني، وعلى بعد ميلان جنوب غرب تبريز، وجد غازان غايته في الهدوء والعزلة والبعد عن صخب العاصمة وضجيجها فاتخذ القرار بتأسيس ضاحية جديدة؛ فكانت «غازانية».

«غازانية» علامة مميزة في التاريخ المغولي بشكل عام؛ ففيها أول مقبرة لأول حاكم مغولي معروف مكان دفنه للجميع؛ حيث حرص الحكام يتم دفنهم في الجبال ولا يعرف بموقعهم سوى المخلصين من خدمهم وحراسهم. وحسبما يذكر لنا رشيد الدين في كتابه جامع التواريخ: «أن غازان خان في شبابه قام بزيارة العديد من المقابر في خراسان وخلال زيارته لبلاد ما بين النهرين؛ اعجب بمقبرة علي». وقد تزامنت هذه الزيارات مع دخوله إلى الإسلام. وربما يكون هذا هو السبب الذي دفعه لبناء مقبرة ضخمة معروفة المكان يسهل على الجميع الوصول إليها. وحول ضريح غازان خان شيد مسجد جامع، ومدرستان واحدة لتدريس المذهب الشافعي والثانية لتدريس المذهب الحنفي، وخانقاة ودارًا للسيادة، ومدراس، ومكتبة ومدرسة لتعليم الفلسفة، وحوض ماء، ومكتب سجلات أو أرشيف. وقد وهب غازان خان ممتلكاته الشخصية والقانونية لتأسيس الغازانية، وأوكل إلى وزيره رشيد الدين الهمذاني مهام العمل والبناء وخصص إيرادات الدولة لها،وعرفت هذه الأبنية جميعًا باسم «أبواب البر» وفصل هذا جيدًا في وقفية مهمة وصلتنا كاملة؛ تحدد أبواب البر ومكوناتها وأوجه الصرف عليها.

وقبة غازان واحدة من أهم منشآت «أبواب البر»؛ ليس فقط لكونها أول مقبرة معروفة للجميع كما ذكرنا؛ بل لأنها فرضت نفسها على اسم المدينة فعرفت لدى العامة وأهل فارس والمسافرين بـ «شنب غازان» أي «قبة غازان». وقد تم وضع أساس هذه القبة في يوم السبت السادس عشر من ذي الحجة سنة 696ه/ 1296م. وفقًا لما ذكره رشيد الدين الهمذاني في جامع التواريخ في الجزء الخاص بتاريخ غازان خان أنه: «وضع أساس قبة عالية وسط حديقة العالية بموضع شم، وقد شغف شغفًا كبيرًا بهذا الأمر، وكان يتردد دائمًا على هذا المكان ليتفقد أعمال البنائين والعمال، ولما رفعوا بناء سرداب القبة على زجه الأرض سأله المهندسون عن عدد ما ينبغي أن يفتحوا من منافذ للإنارة، فسألهم لماذا؟ فأجابوا كي يكون السرداب منيرًا. فأجاب هو نفسه على السؤال ينبغي إيصال النور من هنا إلى هناك وإلا فلا فائدة للمرء من ضوء الشمس غير الثابت». فجاء قبره في هيئة مبنى مستقل من اثنتي عشر ضلعًا يعلوه قبة مخروطية، وكان يوجد نقش أعلى البرج؛ نصه «محمود غازان خان خلد الله ملكه». وللأسف سقطت القبة المخروطية قبل اكتمالها وكان العمال مازالوا يؤدون عملهم فسقطت فوقهم في ربيع الثاني 705ه/ أكتوبر 1305م، وأدت لوفاة كثير من العمال. وتبلغ قياسات الضريح 77.80 مترًا من حيث الارتفاع ككل، وارتفاع الجدران قبل بداية القبة حوالي 60 مترًا ، ويعلو الجدران كورنيش ارتفاعه حوالي 4.60 مترًا، والقبة ارتفاعها حوالي 13 مترًا. وللأسف موقع الضريح الآن مجهول بشكل تأكيدي باستثناء بعض الحفائر والتنقيبات التي رجحت موقع تقريبي له. ولم يتبق منه اليوم غير وصف جاء في روايات بعض الشهود العيان الذين زاروا غازانية في أوقات مختلفة وسجلوا مشاهداتهم حول الضريح؛ ومنهم:

زيارة الرحالة المغربي ابن بطوطة، لغازانية/ شنب غازان في القرن الثامن الهجري الرابع عشر الميلادي، وأقام في أبواب البر ووصفها قائلاً: «…. وصلنا مدينة تبريز ونزلنا بخارجها في موضع يعرف بالشام، وهناك قبر قازان ملك العراق وعليه مدرسة حسنة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر من الخبز واللحم والأرز المطبوخ بالسمن والحلواء، وانزلني الأمير بتلك الزاوية وهي ما بين أنهار متدفقة وأشجار مورقة….».

وزيارة شاردين  Chardin- رحالة فرنسي من القرن السابع عشر – موقع شنب غازان ووصفه قائلاً: «هناك برج من الآجر بالقرب من تبريز يدعى (كنب زان Kanbqzun) ربما يكون هو ضريح غازانية بضاحية شنب غازان. وقدر قرر مقاسه بـ 50 قدم من حيث الطول. وتدل بقايا أطلاله على أن المبنى كان مرتفع البناء». وقد اعتقد شاردين أن المبنى عبارة عن برج من قلعة نظرًا لوجود بقايا سور مازال موجود. ولم يخبره أحد بمشيد المبنى ولكنه استطاع من خلال النقش المتبقي أن يقرأ اسم الحاكم «محمود». ولكن كان قد حدث زلزال في عام 1062ه/ 1651م أي قبل 15 عامًا من رحلة شاردين لإيران؛ أدى إلى سقوط بقايا المبنى.

كما زار السير روبرت كير بورتير – رحالة إنجليزي قام بعدة رحلات في الفترة من 1817م إلى 1820م – موقع شنب غازان وأشار إلى الآتي: «هناك مبنى عبارة عن أطلال عظيمة هائلة ترجع للسلطان غازان تبدو كتل كبيرة تختلط فيه الأتربة بالآجر والبلاطات الخزفية والأعمدة وغيرها». كما ذكر أنها كومة من الأطلال دمرت بواسطة الزلازل ومن الصعب تحديد شكل المبنى وأن الأحجار والأعمدة كانت تستخدم مرة أخرى في بناء المباني الجديدة المختلفة في تبريز. وقد عثر على قطعتين من البلاطات المزججة تشبه إلى حد كبير البلاطات المستخدمة في سلطانية، واحدة لونها أزرق والأخرى أسود بالإضافة إلى العثور على قطع صغيرة من البلاطات المصقولة».

وفي عام 1840- 1841م زار باسكال كوست موقع شنب غازان، ووصفه أن كل واجهه من الواجهات الاثنتي عشر كانت تحمل علامة من علامات الأبراج السماوية «الزودياك Zodiac».

إذًا من خلال الروايات السابقة الواردة على لسان مجموعة من الشهود العيان فإن موقع شنب غازان كان يتمتع بمصادر طبيعية للمياة وكانت تحيط به الحدائق، وبالرغم من سقوط قبة الضريح إلا أن المدارس والخانقاة استمرت في القيام بوظيفتها كما أشار ابن بطوطة الذي مكث بخانقاة شنب غازان. كما أن المنشآت كانت مزدانة بالبلاطات الخزفية والآجر المزجج. لتصبح «غازانية» أو «شنب غازان»/ «شام غازان» بأسمائها المتعددة التي وصلتنا في المصادر الفارسية والعربية؛ محطة مهمة ومميزة لمن مر على طريق الحرير منذ تأسيسها وإلى اليوم. وإن كانت زيارتي لهذه الضاحية في الربع الأول من القرن الواحد والعشرون لم ولن تفي لرسم صورتها الحية وقت ازدهارها؛ تلك الصورة التي حفظتها لنا فقرات مقتضبة، وسطور معدودة في كتب التاريخ ويوميات الرحالة، وبعض المنمنمات الملونة بشكل أكثر بهاءً ودقة لما هي عليه الآن.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات