الأدبُ العربيُّ بين الحِكْمة والفلسفة: ابنُ المقفَّعِ (حكيمًا) وابن طفيل (فيلسوفًا)

01:16 مساءً الأحد 9 مايو 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أولًا: الحِكْمَة في الأدب العربي ومقارنتها مع الفَلْسَفَة

الحِكْمَة (ح ك م): مصدر حَكُمَ، وهو العلمُ بحقائقِ الأمورِ، (أو) مَعرفةُ أفضلِ الأشياءِ بأفضلِ العلومِ، (أو) كلامٌ يشبه الفَلْسَفَة ولكن يختلف عنه في التّفاصيل، (أو) الكَلَام المُعَبِّرُ عن الخبرةِ والتّجربة المُوافِقُ للحقِّ، (أو) العِلّةُ والسَّبَبُ، (أو) ضبطُ النَّفْسِ والطّبعِ عند الغَضَبِ، (أو) العَدْلُ، (أو) الكَلَام الّذي يَقِلُّ لَفظُه ويَجِلُّ معناه، وجمعه: حِكَمٌ، و(عِلمُ الحِكْمَة): الكيمياءُ والطِّبُّ، و(الحِكَمِيُّونَ): الفَلاسفةُ أو الشّعراء الّذين يُؤْثِرُونَ التَّكَلُّمَ بالحِكَمِ[1].

وفي كتاب (أحمد أمين)[2]: (الحِكْمَة في الأدب العربي)[3]، من سلسلة (فيض الخاطر)، الجزء الثَّامن، يقول:

إنَّ تحديد معنى “الحِكْمَة” من أصعَبِ الأمور؛ شأنها في ذلك شأن الكلمات المعنوية[4] العامة؛ كالحرية، والجمال، والعدل، وكل ما يستطيعه المعرِّفُ أن يذكر أهم الخصائص المميزة للكلمة.

وقد عرَّفَها بعضهم تعريفًا تقريبيًّا فقال: إنها “نظرة- عميقة عملية مباشرة- إلى معاني الأشياء وأغراضها، تصدر عن ذكاء حادٍّ نفَّاذ دقيق الملاحظة، يستمدُها من تجارب الحياة ومن مخالطته العملية بالحياة اليومية”، ويسمى الرّجل ذو النَّظرات هذه حكيمًا، وتسمى الكلمة المشتملة على هذه النَّظرة حكمة، ومن هذا قيل: “إن من الشّعر لحكمة”، وقيل: “الحِكْمَة ضالة المؤمن”، وأحيانًا يلحظ في “الحكيم” أنه يضيفُ إلى هذه النَّظرات الصَّائبة العملَ على وفقِها، ومن ذلك قوله تعالى  : 

}مَن يُؤْتَ الحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا{. وسمي لقمانُ حكيمًا؛ لأنه ينطق بالحِكْمَة ويعمل بها.

•••

وأيًّا ما كان؛ فهناك فرق كبير بين الفَلْسَفَة والحِكْمَة من وجوه؛ أهمها[5]:

الفلسفة (اليمين) ……………………………………………………………… الحكمة (اليسار)

(نموذج أدب الحِكْمَة)

ابن المقفَّع المقفِّع حكيمًا (أسلوبه وخصائصه)

يقول خليل مردم[6] في كتابه (ابن المقفَّع)[7]:

  • (1)          (ابن المقفَّع المقفِّع) هو إِمَام الطَّبقة الأولى من كُتَّاب العصر العباسي، وصاحب الطَّريقة التي آخَتْ بين التَّفكير الفارسي والبلاغة العربية.[خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • (2)           هو كاتب حكيم، تغلب عليه الحِكْمَة في كل شيء، وكل ما وصل إلينا من آثاره لا يخرج عن المواضيع الحكمية، فـ(كليلة ودمنة) و(الأدَبان الكبير والصَّغير) كُتُب ترمي إلى تهذيب الأخلاق وإصلاح النُّفوس، وكذلك قُلْ عن أكثر كتبه التي لم تصل إلينا، ولقد كان المؤرِّخُ القفطي موفَّقًا لمَّا عدَّه من الحكماء. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • (3)           حكيم في ألفاظه وتراكيبه كما سترى عند الكلام على صناعته اللَّفظية، كما هو حكيم في أغراضه ومعانيه. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • تظهر مَزِيَّةُ (ابن المقفَّع المقفِّع) في ترتيب أفكارِه وحُسْن تقسيمها، ولعل ذلك نتيجة دراسته للحكمة الفارسية والفَلْسَفَة الهندية واليونانية مع صحة طبعه، فأنت لا تجد في حِكَمه ذلك التَّفكُّك وتلك الوثبات التي تجدها في حِكَم الجاهليين ومواعظهم. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • ما رُزِقَت العربية كاتبًا حبَّب الحِكْمَة إلى النُّفوس كـ(ابن المقفَّع المقفِّع)، فإنه يعمد إلى [الحِكْمَة العالية]، فلا يزال يَرُوضُها بعذوبةِ ألفاظِهِ ويستنزلها بسلاسة تراكيبه حتى يبرزَها إلى النَّاس سهلةَ المأخذِ، بادية الصّفحة، فهو من هذه الجهة أَكْتَبُ الحكماءِ وأحكمُ الكُتَّابِ. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • قلَّ أن تجد كاتبًا لا يستعين في إنشائه بالمبالغة والغلو وسحر الألفاظ ورنينه، بل ربما كان ذلك من أقوى العناصر في فنِّ الكاتب، إلا (ابن المقفَّع المقفِّع)، فإنه واجه الحقائق وحدَّث عنها حديثًا صادقًا لا تَزَيُّدَ فيه، وكان مع ذلك من أبلغ المنشئين. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • (7)          (ابن المقفَّع المقفِّع) كاتبٌ لا تستهلك معانيه ألفاظَه، ولا تغتال ألفاظُه معانيه، فليس هناك لف ولا دوران، ولا ترادف ولا إسجاع؛ بل تراه يقدر اللَّفظ على المعنى تقديرًا يدلُّ على براعةٍ فائقة وذوق حَسَن وطبع صحيح مع ألفاظ متخيرة. قال الرَّاغب الأصبهاني: “كان (ابن المقفَّع المقفِّع) كثيرًا ما يقف إذا كتب، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري فأقف لتخيُّره”. [وهذا ما اعتُبِرَ أسلوبًا أدبيًّا بحد ذاتِهِ: تخيُّر الكلمات].  [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • أظهَرُ ما في أسلوبِه: (أ) السُّهولة (ب) الوضُوح (ت) الجري مع الطَّبع (ث) عدم التَّعقيد والإغراب. ولقد عرَّف البلاغة تعريفًا بارعًا بقوله: “البلاغَةُ هي التي إذا سمعها الجاهل ظنَّ أنه يحسن مثلها”. وقال لبعض الكتاب: “إياك والتَّتبع لوحشيّ الكلام طمعًا في نيل البلاغةِ، فإن ذلك هو العِيُّ الأكبر”. ولكنه كما كان يتجنَّب التقعُّر فقد كان (ج) يكره الإسفاف والتبذُّل، فقال يوصي كاتبًا: (عليك بما سَهُل َمن الألفاظ مع التَّجنب لألفاظ السَّفِلَةِ والسِّفْلَةِ[8]) (ح) وضع الشَّيء في محلّه وإيفاء الموضوع حقه مع نفوذ بصرٍ وسمو إدراك. وقد روى (الجاحظ) في (البيان والتَّبيين) عن إسحاق بن حسان بن فوهة أنه قال: لم يفسر البلاغة تفسير (ابن المقفَّع المقفِّع) أحدٌ قط؛ سُئل: (البَلاغَةُ اسمٌ جامعٌ لمعان تجري في وجوه كثيرة؛ فمنها ما يكون في السُّكُوت، ومنها ما يكون في الاسْتِمَاع، ومنها ما يكون في الإِشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون جوابًا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شِعْرًا، ومنها ما يكون سَجْعًا، ومنها ما يكون رسائلَ، فعامَّةُ ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجازُ هو البَلاغَة)([9]). [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • فأمَّا الخُطَبُ بين السِّمَاطَيْن وفي إصلاح ذات البَيْن[10]، فالإكثارُ في غير خَطَل [الحُمْقُ، السُّرعة، الكلام الفاسد الكثير المضطرب] والإطالة في غير إملال، قال: “وليكنْ في صَدْر كلامِك دليلٌ على حاجتِكَ، كما أن خير أبيات الشِّعر البيت الذي إذا سَمْعْتَ صدرَه، عَرَفْتَ قافيته، فقيل له: فإن ملَّ المستمع الإطالة التي ذكرْت أنها حق ذلك الموقف؟ قال: إذا أعطيْتَ كل مقامٍ حقَّه، وقمْتَ بالذي يجبُ من سياسةِ ذلك المقام، وأرضيْت مَنْ يعرفُ حقوقَ الكلامِ، فلا تهتمّ لما فاتَكَ من رضا الحاسِدِ والعدو، فإنهما لا يرضيهما شيء، وأمَّا الجاهلُ، فلستَ منه وليس منكَ، ورضا جميع النَّاس شيء لا تناله، وقد كان يُقال: رضاء النَّاس شيءٌ لا يُنال.[11]
    • لا أعرف بليغًا كاتبًا كان أو شاعرًا تفهمه العامة وتأنَس به وتُكْبِرُهُ الخاصة بل تعجز عن مجاراته إلا (ابن المقفَّع المقفِّع) [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • نعم، قد يشابهه (أبو العتاهية) الشَّاعر من حيث السُّهولة، وأنه لا يَدِقُّ عن فهم العامة، ولكن شتَّان ما هما، ففي شعر (أبي العتاهية) من المآخذ والمغامز ما يطول استقصاؤه، أما (ابن المقفَّع المقفِّع)، فلم يؤخذ عليه في كل ما كَتَبَ إلا حرف واحد، قال المعري في عبث الوليد: “كان المتقدمون من أهل العلم ينكرون إدخال الألف واللَّام على كلٍّ وبعض، ورُوِيَ عن الأصمعي أنه قال كلامًا معناه: قرأت آداب (ابن المقفَّع المقفِّع) فلم أر فيها لحنًا إلا في موضع واحد، وهو قوله: العِلْمُ أكبر من أن يُحاط به فخذوا البعض”.[خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • أدب (ابن المقفَّع المقفِّع)، وإن كان عربيًّا مُبِينًا في الألفاظ والتَّراكيب، فإنه أعجمي في الجمع والتَّأليف، فهو(أ) لا يكاد يستشهد بشعر العرب، (ب)  ولا يتمثل بأمثالهم، ولا يروي حِكَمهم ومواعظهم ولا يسمِّي فصحاءَهم، ولا يشير إلى أيامهم كما تجد ذلك في آثار جمهرة كتاب العرب كالجاحظ وأضرابه، فهو من هذه الجهة؛ إمَّا: (أ) مترجِمٌ عن الفُرْس (ب) أو متصرِّف بالمعاني الشَّائعة (ت) أو مستمِد من صوب عقله.[12] [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • (13)    يقصد إلى المعنى بعناية بالغة، فإذا تمَّ له تصوره قدر له من اللَّفظ ثوبًا ليس بالفضفاض ولا بالضّيق، مع زُهْد بالسَّجْع إلا ما جاء عفوًا من غير تعمُّل، فأسلوبه أسلوب المساواة بين اللَّفظ والمعنى، على أن في كلامه كثيرًا من الإيجاز، ولكنه غير الإيجاز المعجِز[13] الذي اختص به العرب الخُلَّص واستبدَّت به بلاغة العرب خاصةً من دون جميع اللُّغات، وأكثر ما تجد هذا النَّوع من الإيجاز الحاد المعجِز في القرآن الكريم والحديث الشَّريف، وأمثال العرب وحِكَمِهم وكلام الخلفاء الرَّاشدين وغيرهم من بُلَغَاء العرب وفصحاء الأعراب؛ مثال ذلك}: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ{، و}إنما الأعمال بالنّيات{. ولقد رُوِيَ عن (ابن المقفَّع المقفِّع)  نفسِه أنه بدا له أن يعارِضَ القرآنَ [عارضَ الشَّيءَ بالشَّيءِ، والكتابَ بالكتابِ، والقصيدة بالقصيدةِ: قابَلَها]، فلما وصل إلى قوله تعالى في سورة نوح: }وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ{؛ قال: هذا ما لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • ولا يخفى أن الإسهاب والإيجاز أمران اعتباريان بالنّسبة إلى كل عصر، فـ (ابن المقفَّع المقفِّع) مُسهِبٌ بالنِّسبة إلى مَنْ  تقدَّمه من البُلَغَاء، موجِزٌ بالنّسبة إلى من أتى بعده من الكتاب، ولكن إيجازه غير إيجاز العرب الخُلَّص الذي سبقت إليه الإشارة. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • وكلام (ابن المقفَّع المقفِّع)- مع اتِّساقه وتساوُقه وجريه مع الطّبعِ- يسهُل تارةً ويجزُل [يعظم] أخرى، كقوله وفيه من القوة والمتانة ما فيه: “وقد أصبح النَّاس- إلا قليلًا ممَّن عصم اللهُ- مَدْخولينَ [المَدخولُ: مَن طرأ على عقله دَخَلٌ، والدَّخَلُ: ما داخلَ الإنسانَ من فسادٍ في عقلٍ أو جسمٍ]، مَنْقُوصين [نقَصَ عقلُهُ أو دينُه: ضَعُفَ]، فقائلُهم باغٍ [ظالمٌ مُستَعْلٍ]، وسامعُهم عَيَّابٌ، وسائلُهم مُتعنِّت، ومجيبُهم مُتكلِّف، وواعظُهم غير محقِّق لقوله بالفعلِ، وموعوظُهم غير سليمٍ من الهُزْءِ والاستخفافِ، ومستشيرُهم غير موطِّن نفسه على إنفاذ ما يُشار به عليه … إلخ”[خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]
    • (16)    أما أثره في الإنشاء العربي فعظيم جدًّا، يدلُّنا على ذلك إقبال النَّاس على آثاره بالقراءة والحفظ والنَّظْم والمعارضة منذ القرن الذي عاش فيه، ولا تزال آثاره الباقية حتى الآن حية تُقْرَأ وتُدرَس وتُسْتَظهَر بشوق ولذة مع قِدَم عهدها، وستبقى خالدة ما بقيت العربية، ولا يزال أسلوبُه مثالًا عاليًا في الإنشاء يحتذيه كثيرٌ من الأدباء ويدعو إليه، وهذه مَزِيَّةٌ لم تُتَحْ لغيره من كُتَّاب العربية، وأكاد أقول: من كُتَّاب سائر اللُّغات. [خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب]

ثانيًا: الأدب الفلسفي

ابن طُفَيْل[14] (حي بن يقظان[15] نموذجًا)

بعد الاطِّلاع على الفرق بين الفَلْسَفَة والحِكْمَة، وبعد دراسة أدب الحِكْمَة وتقديم نموذج (ابن المقفَّع المقفِّعِ حكيمًا)، نعرِّف الأدب الفلسفي، ثم ندرس (حي بن يقظان) للفيلسوف ابن طُفَيْل.

الأدب الفلسفيُّ:

إن الأدبَ الفلسفيَّ هو: أدب أولًا، ثم هو فلسفي. إذ يحمل من الفَلْسَفَة تلك الـ”لماذا” المقلقة، ويحمل منها آفاقَها وقضاياها وتحدياتهها، ولذلك هو فلسفي، بينما يبقى له من الفن جماليته وتفرده وأصالته، وهو لذلك أدب. وهو يلتزم بقضايا الإنسان الأعمق، فتصبح همًّا دائم الحضور والفعالية[16].  و(حي بن يقظان) إحدى كلاسيكيات الأدب العربي القديم الأكثر شهرة عالميًّا[17]، ورائعة من روائعه، جمع فيها (ابن طُفَيْل) بين (أ) الفَلْسَفَة و(ب) الأدب و(ت) الدين و(ث) التّربية.

ملخَّص قصة (حي بن يقظان) وقالبها الأدبي

(أولًا): ملخص القصة:

تحكي القصَّة الخياليَّة المستَلْهَمة مِن قصة تحمِل الاسْمَ عينَهُ كتبَها (ابن سينا) في سجنِ قلعةِ (همدان) قصة (طفل) هو (ثمرة زواج سرِّي بين شقيقة ملكٍ من دون رضاه من قريبٍ لها يسمى (يقظان). وخوفًا من بطش الملك- الشّقيق، وضعَت وليدَها في تابوتٍ  وألقته في اليمِّ. وعندما وصل إلى شاطئ جزيرة مهجورة [جزيرة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، وهي الجزيرة التي يتولَّد بها الإنسان من غير أم ولا أب وبها شجر يثمر نساء، وهي التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص5]، عثرت عليه ظبيةٌ كانت تبحث عن وليدِها، فحملته إلى الجزيرة، واعتنت به، وأرضعته، وعلّمته لغتَها.

وعندما كبر، بدأ يحاكي [يقلِّدُ] ما يسمعه من أصواتِ الطّيرِ والحيوان، وبدأ يتّخذ من أوراق الشّجر ملابسَ؛ [بعد أن كان ينظر إلى جميع الحيوانات فيراها كاسية بالأوبار والأشعار وأنواع الرِّيش، وكان يرى ما لها من العَدْو وقوة البطش وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها مثل القرون والأنياب والحوافر والصّياصي والمخالب .ثم يرجع إلى نفسه فيرى ما به من العري وعدم السِّلاح وضعف العَدْوِ وقلة البطش عندما كانت تنازعه الوحوش أكل الثَّمرات وتستبد بها دونه وتغلبه عليها فلا يستطيع المدافعة عن نفسه ولا الفرار عن شيء منها. وكان يرى أترابه من أولاد الظِّباء قد نبتت لها قرون بعد أن لم تكن وصارت قوية بعد ضعفها في العَدْو، ولم يرَ لنفسه شيئًا من ذلك، فكان يفكر في ذلك ولا يدري ما سببه] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص10]

ثم ضعفَتِ الظّبيةُ التي ربته، وأدركَها الموتُ، فسكنَت حركاتُها، فظَنَّ أنَّ المرضَ الذي أودى بها كانَ كامنًا في صدرِها، فهداه تفكيرُهُ إلى شقِّ صدرها بحجرٍ بحثًا عن سبب تعطّل حركتها، فلم يعرف [ملاحظة: نلاحظ دقة وصف التّشريح، ويعود ذلك إلى كونه طبيبًا، وقد وردت كلمة (تشريح) في ص 17]، [فانتقلت علاقته من الجسد إلى صاحب الجسدِ ومحركِهِ، ولم يبقَ له شوق إلا إليه[18]. وفي خلال ذلك نَتُنَ ذلك الجسد، وفاحت منه روائحُ كريهة، فزادت نَفْرَتُه عنه[19] وودَّ أن لا يراه. ثم إنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحيُّ يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتُّراب؛ فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إياه (العدالة، خاصة أن ابن طُفَيْل كانَ قاضيًا)! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص15].

كان (حي) يلاحظ، ويجرب، ويتأمل، نافذًا إلى كل المعارف من خلال فكر  مستبصِر.

وما إن يصل إلى سن الثّلاثين، حتى يحيط بالطّبيعة من حوله، يستغلها لغذائه ولكل حاجاته. بدءًا بتحريكِ يديه  واستخدامهما وسَتر سوءَتِه، ومعرفته الصّيد والنّار [التي زادت محبته لها إذ تأتَّى له بها من وجوه الاغتذاء الطَّيب شيءٌ لم يأتِ له قبل ذلك] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص15]، واتّخاذ المخزن لحفظ ما يفضل من غذائه.

والتفتَ إلى الفروقات ما بين النّبات والحيوان في الحركة وارتفاع الهواء واللّهيب إلى أعلى، وانحدار الماء إلى أسفل. ولاحظ أن كل ما في الطّبيعة خاضع لقانون الكون والفساد، وعرف أرفع حقائق الطّبيعة.

وتأخذ معارف (حي) في التّطور السّريع المتقدم، فيدرس: المعادن، والنّبا، وأعضاء الحيوان، ووظائفها، ويصنفها إلى أجناس وأنواع.

وتقوده دراسته إلى فكرة النّفس الحيوانية والنّفس النّباتية[20]. وتتطور معارفه فتصبح فلسفة يؤمن بها إيمان المجرِّب.

وتبدو له الأجسام صورًا تصدر عنها أفعال، فيمضي باحثًا عن عناصرها الأولية حتى يهتدي إلى اكتشاف [العناصِر الأربعة، أو الأُسْطُقُسّات: العناصر الأَربعة عند القدماء، وهي الماء والهواء والنَّار والتراب، والأُسْطُقُسّ: الأَصل البسيط يتكون منه المركَّب].

وفي ضوء تجربته، يقتنع (حي) بأن لكل موجود علّة فاعل، وأخذ يبحث عن هذه العلة فيما حوله. بحث عنها في الطّبيعة، فلم يتوصل إلى شيء؛ لأن جميع ما في الطّبيعة عرضة للتّحول والفساد؛ فحاول أن يبحث عنها في الأجرام السّماوية، وعن طريق تلك الأجرام الظّاهرة أخذ يتأمل السّماء نفسها، وهل هي ممتدة إلى ما لا نهاية. ثم لم يلبث أن تصورها كروية، واستنتج من خلال تجربته ضرورة وجود أفلاك خاصة بالكواكب.

وطال به الأمد في ملكوت السّماوات والأرض؛ فهداه تفكيره إلى ان كل ما في الوجود لا بد له من خالق  [ما زال يتتبع صفات الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه ويرى أنه أحق بها من كل ما يوصف بها دونه] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص20]، و[هذا الشُّيء العارف لا يستحيل ولا يلحقه الفساد ولا يوصف بشيء مما توصف به الأجسام، ولا يُدرك بشيء من الحواس، ولا يُتَخَيل ولا يُتَوَصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يُتوصَّل إليه به، فهو العارف والمعروف والمعرفة، وهو العالم والمعلوم والعلم، لا يتباين في شيء من ذلك؛ إذ التَّباين والانفصال من صفات الأجسام ولواحقها] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص36-37]

ثم، عندما تعدّى الخمسين، قابل مصادفةً رجلينِ مؤمنينَ من جزيرة أهلها مؤمنون أحدهما يُدعى (أبسال)، والثَّاني (سلامان)، وكان الأول [أشد غوصًا على الباطن وأكثر عثورًا على المعاني الرُّوحانية وأطمع في التَّأويل، والثَّاني أكثر احتفاظًا بالظاهر وأشد بُعدًا عن التَّأويل وأوقف عن التَّصرف والتَّأمل. وكلاهما مُجِدٌّ في الأعمال الظاهرة ومحاسبة النَّفس ومجاهدة الهوى وكان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد وتدل على أن الفوز والنَّجاة فيهما، وأقوال أُخر تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة، فالتزم (أبسال) فكرة العزلة، و(سلامان) فكرة ملازمة الجماعة]. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص48]، فغادر (أسال) إلى جزيرة (حي بن يقظان) لعزلته.

ولما وقع بصر كل واحد منهما على الآخر صدفةً وقتَ كانَ (حي بن يقظان) خارجًا من مغارته، جرى (أبسال) خوفًا منه، وكان (حي) لم يرَ إنسانًا من قبلُ، فلحقَه لما كان في طباعِهِ من البحث عن حقائق الأشياء.

ثم راقبَ (أبسال)، فوجده غارقًا  في الصَّلاة والقراءة والدّعاء والبكاء والابتهال إلى اللهِ والتّذلُّلِ له، حتى شغله [شغلَ أسال] ذلك عن كل شيء، فجعل (حي بن يقظان) يقترب منه قليلًا، و(أبسال) لا يشعر به، حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته، فسمع صوتًا حسَنًا وحروفًا منظمًا لم يعهد مثلها من أصناف الحيوان. ونظر إلى شكلِ هذا الحي الغريب وتخطيطه، فرآه على صورته، وتبين له أن الثِّياب التي عليه ليست جلدًا طبيعيًّا، وإنما هي لباس متَّخَذٌ مثل لباسه هو.

ثم تعارفا، و[بدأ (أبسال)- لمحبته في علم التَّأويل- قد تعلم أكثر الألسن ومهر فيها، فعلمه الكلامَ  والفرائض وأمورًا كثيرةً، فآمنَ بملّةِ (أبسال)- وهي الإسلام- وعاد  به إلى جزيرته، فراقب النّاس عن قرب، وعلم ما بهم من خير وشر]. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص50، بتصرف]، وخاصة أصحاب (سلامان) الذين نظروا إليه نظرة ريبة. 

فلما فهم (ابن يقظان) أحوال النّاس بعد أن عارضوا معارفه التي عرضها عليهم، سلَّمَ أن الشّريعة المنزلة للناس عن طريق الأنبياء، والت يتخاطبهم بالظّاهر من دون التأويل والتعمق في الباطن، هي الأنسب والأحكم لهم، وأن الله تعالى أعلمُ بعباده وفِطرتهم، فيأتي لهم بما يوافق طبائعهم وأفهامهم ليصلح شؤونهم ويقوّم أحوالهم.

أما من يصل إلى مرتبة الكشف والمشاهدة والغوص في باطن الشّريعة وباطن التأويل، فهم قليل جدًّا؛؛ لذا لا ينبغي لأهل الكشف أن يحدّثوا النّاس بما لا يمكن لعقولهم إدراكه؛ حتى لا يفتنوهم عن دينهم أو يتهموهم بالزّندقة والخروج عن الشّرع[21].

وعاد (حي بن يقظان) و(أبسال) إلى جزيرتهما بعد أن [انصرف إلى (سلامان) وأصحابه فاعتذر عما تكلَّم به معه وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من الْتزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة وقلة الخوض فيما لا يعنيهم والإيمان بالمتشابهات والتَّسليم لها والإعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسَّلف الصالح والترك لمحدثات الأمور.

وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشَّريعة والإقبال على الدُّنيا، وحذرهم منه غاية التَّحذير. وعلم هو وصاحبه (أَبْسال) أن هذه الطَّائفة المريدة القاصرة لا نجاة لها إلا بهذه الطَّريق، وأنها- إن رفعَتْ عنه إلى بقاع الاستبصار- اختلَّ ما هي عليه ولم يمكنها أن تلحق بدرجة السُّعداء، وتذبذبت، وانتكست وساءت عاقبتُها. وإن هي دامت على ما هي عليه حتى يوافيها اليقين، فازت بالأمن وكانت من أصحاب اليمين، فودَّعاهم وانفصلا عنهم وتلطَّفا في العود إلى جزيرتهما حتى يسَّر الله- عز وجل- عليهما العبور إليها. وطلب (حي بن يقظان) مقامه الكريم بالنَّحو الذي طلبه أولًا حتى عاد إليه واقتدى به (أَبْسال) حتى قرب منه أو كاد، وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين] [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص54، بتصرف] وبقيا يتعبدان في الجزيرة إلى أن ماتا.

(ثانيًا) القالب الأدبي في قصة (ابن طُفَيْل)

والأمرُ المميّزُ في قصّة ابن طُفَيْل– كما تقول عبير الشّشتاوي في دراستها: (دراسة موجزة حول رسالة حي بن يقظان.. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي)[22]؟

 هو القالبُ الأدبيُّ الإبداعيّ الذي وضعَ فيه أفكارَه الفلسفيَّةَ والمتصوّفة؛ مما جعلَ القارئَ حاضرًا في كلّ جوانبِ الرِّواية، وكذلك تنقّل ابن طُفَيْل في الأساليبِ المختلفة ِفي السَّرد؛ فيبدأ محدّثًا مخاطبَهُ عن نشأة ِ “حي بن يقظان” بأنَّ هناك امرأةٌ كان أخوها ملِكًا، وكان يمنعُها عن الرّجالِ وعن الزّواج، فعرفَت تلك المرأةُ رجلًا يسمّى (يقظانًا) وأنجبت منه طفلًا، وخافت على طفلِها فألقته في اليَمّ – الذي يذكرّنا بقصة سيدنا موسى عليه السَّلام- فجرفتهُ المياهُ إلى جزيرةٍ استوائيّةٍ معتدلةٍ وخصبة، نشأ فيها بجوارِ ظبيَةٍ أرضعَتهُ؛ فكانت كالأمِّ بالنسبة له. ومن ثمّ بعد ذلك يروي الرأيَ الآخرَ الذي تقاولَهُ الناسُ عن حي بن يقظان حول أنَّه قد تخلَّقَ ذاتيًا باجتماعِ العناصرِ الطبيعيَّة مع بعضها، ويتحدّث عن بعضِ الأمورِ النظريَّة، ولم يُرجِّح أحدَ الرَّأيين، بل اكتفى بعرضِهِما.

وبعد ذلك ننتقلُ بالأسلوبِ السَّرديِّ الروائيِّ عن نشأة حي بن يقظان الفطريّةِ بين الطبيعة، ثم تأتي اللحظةُ الفارقةُ لحي بن يقظان التي ينبثِقُ منها وعيُه: عندما تموتُ الظبية، ويقومُ بتشريحِ جثّتِها ليبحثَ عن علّةِ سكونِها ليصلحَها، ومن هُنا تبدأُ تساؤلاتُهُ عن أمرِ الموتِ والحياة، الجسدِ والرّوح، ومعانٍ أكثرَ وأكبر؛ فيمرُّ عمرُهُ في التأمُّلِ والتعلُّم، وتتكوَّنُ لديه الفِكَرُ والحقائق؛ فيلجأُ لتشريحِ الحيواناتِ لستنبطَ أوجُهَ الشبَهِ في العلَلِ المختلفة، ويتفحّصُ النباتَ والأحجارَ والماءَ والتراب، وتارةً ينظرُ إلى الفَلَكِ والقمرِ والنجوم، وتتكوّنُ لديه الحقيقة: أنّه لابُدَّ من وجودِ روحٍ غير الأجسام، و أنَّ كُلَّهم لابُدّ لهم من خالقٍ واجد؛ هذا الذي أوجدَ ذاتَهُ التي وَعَت به:

“وقد كان تبيَّن له أن أدركَهُ بذاتِه، ورسخَت المعرفةُ به عنده، فتبيّنَ له بذلك أن ذاتَه التي أدركَهُ بها أمرٌ غيرُ جسمانيّ، ولا يجوزُ عليه شيءٌ من صفاتِ الأجسام، وأنَّ كلَّ ما يدركُهُ من ظاهرِ ذاتِهِ من الجسمانيّة فإنّها ليست حقيقةَ ذاتِه، وإنّما حقيقةُ ذاتِهِ ذلك الشيءُ الذي أدركَ به الموجودَ المطلقَ الواجبَ الوجود”.

ويصلُ ابنُ طُفَيْل ببطلِهِ إلى أعماقِ التصوّف، ومن خلالِ جولاتِ(حيٍّ) وتفكُّرِهِ في السماءِ والأرضِ والصفاتِ الإلهية؛ أخذ ابنُ طُفَيْل يسردُ تأمُّلاتِه وأفكارَه عن الكثيرِ من القضايا.. ويصلُ ابن يقظان في النهايةِ إلى أن يرتقي بفكرِه ويَصير عابدًا زاهدًا.. لذلك يمكنُنا القولُ أنَّ (حي بن يقظان) بمُجمَلِها تعبِّرُ عن الوعيِ الإنسانيِّ في نموِّه وارتقائِه.

“وعَلِمَ إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائدًا على ذاتِه، بل ذاتُهُ هي عِلْمُهُ لذاتِه؛ وعِلْمُهُ بذاتِه هو ذاتُه، تبيّنَ لهُ أنّهُ إن أمكنَهُ هو أن يعلم ذاته، فليس ذلك العلمُ الذي عَلِمَ به ذاتَه معنى زائدًا على ذاتِه، بل هوَ هو!”.

أمَّا في الجزءِ الأخير؛ يعرضُ قضيَّةَ الصِّلَةِ بين الفَلْسَفَة والدِّينِ بحكايةِ الصديقين (أبسال) الذي كان يميلُ للزهدِ والتصوّف، و(سلامان) الذي كان فقيهًا في الدِّين ويميلُ إلى الاختلاطِ بالنَّاس، واللذان كانا يعيشان في الجزيرةِ العامرِة بالسُّكانِ التي كانت قريبةً من جزيرة (حيّ بن يقظان)، ويرتحلُ (أبسال) إلى جزيرةِ حيّ لكي ينعَزِل، وهناك يلتقيان ويتفاهمان، ويعلِّمُ (أبسال) (حيًّا) الكلام، ثم يتعرَّفُ منه على تأمُّلاتِه وأفكارِه، ويقرِّرُ (حيّ) الذهابَ إلى الجزيرةِ العامرةِ لكي يعلّمَ الناسَ بما عرفَه، ويذهبان بالفعل، وهناك تحدُثُ جملةٌ من المواقفِ الدراميّة -التي صاغَها ابن طُفَيْل ببراعة وإبداع الأديب-، ويقرِّرُ كلاهما العودةَ إلى الجزيرة، كلٌّ منهُما في عُزلَتِهِ وتأمُّلاتِه حتى يتوفَّاهُما الله.


[1] إيمان بقاعي: معجم أدب الأطفال والشّباب، حرف الحاء.  

[2]أحمد أمين: أحد أعلام الفكر العربي والإسلامي في النّصف الأول من القرن العشرين، وأحد أبرز مَن دعَوا إلى التَّجديد الحضاري الإسلامي. وُلد  في القاهرة عام 1886م، لأبٍ يعمل مُدرسًا أزهريًّا. بدأ مشواره في التَّأليف والتَّرجمة والنَّشر 191. وفي عام 1026م،  اختِير  لتدريس مادة النّقد الأدبي بكلية الآداب بجامعة القاهرة بتوصية من (طه حسين)، كما انتُخب عميدًا للكلية فيما بعد، [على الرغم من عدم حصوله على درجة الدّكتوراه]، ثم استقال ونال ادكتوراه الفخرية. كتب في العديد من الحقول المعرفية، كالفلسفة والأدب والنَّقد والتَّاريخ والتَّربية، إلا أن عمله الأبرز هو ذلك العمل الذي أرَّخ فيه للحركة العقلية في الحضارة الإسلامية؛ فأخرج لنا (فَجر الإسلام)، و(ضُحى الإسلام) و(ظُهر الإسلام)، أو ما عُرِف باسم (موسوعة الحضارة الإسلامية). وظل  مُنكَبًّا على البحث والقراءة والكتابة طوال حياته إلى أن انتقل إلى رحاب الله عام 1954م.

[3]أحمد أمين: (الحكمة في الأدب العربي) فيض الخاطر، الجزء الثَّامن. صدر هذا الكتاب عام 1950، ثم صدرت هذه النّسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2011.

[4]المَعْنَوِيُّ (ع ن ي): (المَعْنَوِيُّ): ما يتّصل بالذِّهن والتَّفكيرِ كفِكْرَةِ الحَقِّ أو الواجبِ، ويُقابِلُه المادِّيُّ، و(الشَّخصُ المَعْنَوِيُّ): هيئةٌ أو جماعةٌ يعتبرُها القانونُ كأنّها شخصٌ حقيقيٌّ ويَمنَحُها صفةً خاصّةً مُتَمَيِّزَةً عن أفرادِها، و(المَعْنَوِيَّاتُ): حالَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِشَخْصٍ تُؤْخَذُ فيها بعَيْنِ الاعْتِبَارِ دَرَجةُ استعدادِهِ لِمُوَاجَهةِ الخَطَرِ والتَّعَبِ والصُّعُوبَاتِ.

[5] -المقارنة أيضًا من نص أحمد أمين: (الحكمة في الأدب العربي) فيض الخاطر، الجزء الثَّامن، بتصرف على شكل جدول لتسهيل المقارنة. 

[6]خليل مردم: شاعرٌ وسياسيٌّ سوري، وهو مؤلِّفُ النَّشيدِ الوطنيِّ للجمهوريةِ السُّورية. وُلِدَ (خليل مردم بك) في دمشقَ عامَ 1859م، وهو ينحدرُ من عائلةِ (مردم بك) الدمشقيةِ العريقةِ التي تمتدُّ إلى فاتحِ قبرصَ العثمانيِّ (لالا مصطفى باشا). له العديدُ من المؤلَّفاتِ عنِ الشّعراءِ العربِ القدماء، وحقق دواوين شعريّة، وجُمِعَ إنتاجُه الشّعريُّ في ديوانِ (خليل مردم بك) الذي أصدرَه المَجْمَعُ العلميُّ بدمشقَ عامَ 1960م، أي بعد أن توفي بعامٍ واحدٍ، حيث دُفِنَ  

بجوارِ جدِّه (لالا مصطفى) في (سوقِ السّنانية).

[7]خليل مردم: ابن المقفَّع: أئمة الأدب، الجزء الثَّاني. صدر هذا الكتاب عام 1930، ثم صدرت هذه النّسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2019.

[8]السَّفِلَةُ والسِّفْلَةُ (س ف ل) مِن النَّاس: السُّقاطُ، أسافلُهم وغَوغاؤهم.

[9])) البيان والتَّبيين 1/109 (السندوبي).

[10] – يعني: الصَّفَيْن. وقال أبو هلال: وجدنا النَّاس إذا خطبوا في الصُّلح بين العشائر أطالوا، وإذا أنشدوا الشِّعر بين السِّمَاطين في مديح الملوك أطنبوا، والإطالة والإطناب في هذه المواضع إيجاز.

[11] – (البيان والتَّبيين)، ج1/ص64، مصورة دار الكتب العلمية. وبعضه في “(كتاب الصِّناعتين)، لأبي هلال العسكري (ص20) ط: دار الفكر العربي، و(ديوان المعاني) له (2 /88)، وما بين المعقوفين من مفاريده، و(العمدة في محاسن الشّعر وآدابه ونقده) لابن رَشِيقٍ القَيْرَوَانيِّ (1 /243) ط/دار الجيل-بيروت. وفي (صناعة الكتاب) لأبي جعفر النّحاس [(ص202) ط/ دار العلوم العربية- بيروت- لبنان] كلمةٌ منه، بلفظ”البلاغة الإيجاز”. [للمزيد، انظر: الجامع لأقوال ابن المقفع مما ليس في كتبه المطبوعة (1): الألوكة].

[12] – أعتقد أن بيئته الأصلية أثرت في ثقافته.

[13] – المُعْجِزُ المُخْتَصَرُ غَـايَـةٌ في الإيجازِ.

[14] – ابن طُفَيْل: فيلسوفٌ ومفكر، وقاضٍ، وفلَكِي، وطبيب، ووزيرٌ، وشاعر عربي أندلسي. وهو- وابن رشد- تلميذا (ابن باجة) الفيلسوف الأندلسي الذَّائع الصِّيت الذي ارتكزت فلسفته على التَّأمل وعلى المعرفة العقلية الخالصة التي توصل وحدها إلى معرفة الله، قائلًا إنها تغني عن الدِّين والرّسل، والذي مات مسمومًا بتدبير طبيبه. وقد اشتهر (ابن طُفَيْل) بقصته (حي بن يقظان)، التي تقص قصة طفل تربيه غزالة في جزية معزولة، ليصل إلى نتيجة تشبه نتيجة أستاذه (ابن باجة)، وهي: “العقل هو الذي يقود إلى الله”، وأن “لا تعارُضَ بين الفلسفة والدين”؛ والدليل: أن الصبي (حي بن يقظان) تعرّف غلى معرفة وجود الله من غير أن يكون متدينًا، بل من خلال تفكيره، وقد تُرْجِمَ هذا الكتاب إلى العديد من اللغات حول العالم.

[15] – (حي بن يقظان) هي قصّةٌ فلسفيّةٌ عربيّة، كان أوّل من صاغها ابن سينا(ت ٤٢٨هـ)؛ إذ استلهمَها بينما كان في سجنِ قلعةِ همدان، ثمّ تلقّاها الفكرُ العربيُّ على نطاقٍ واسع؛ فتناقلَها النُّساخُ والكُتّاب، وقد أعادَ صياغَتها بعد ابن سينا بقرنين الفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن طُفَيْل(ت: ٥٨١هـ) الذي استبقى عنوانَها وأخرجها من طورِ القصّةِ إلى طورِ الرواية. وكان نَصُّ ابنُ طُفَيْل هو الأكبرُ شهرةً ودويًّا والأوسعُ انتشارًا من بين صياغاتِها الأربعة؛ ففي قريبٍ من زمنِ ابنِ طُفَيْل؛ أضافَ شهابُ الدين السهروردي(ت: ٥٨٧هـ) فصلًا ثانيًا من (حي بن يقظان) ليطيلَ هذا العملَ الإبداعيّ، وجعل الفصلَ بعنوانِ “الغُربة الغربية”. ثم عاودَ الكتابةَ العلّامةُ “ابن النفيس(ت: ٦٨٧هـ) بنفسِ الإطارِ الروائيِّ لحي بن يقظان باختلافِ العنوانِ والمحتوى. فمثلت إِبداعًا أدبيًّا مُمتَّدًا في التراثِ العربيِّ الإسلامي. أمّا بالنسبةِ لمقالنا هذا؛ فإنّه سيتناولُ نصَّ ابن طُفَيْل على وجهِ الخصوص. [عبير الششتاوي: دراسة موجزة حول رسالة (حي بن يقظان).. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟ المنشورة في منصة (المحطة) الإلكترونية: 6 نوفمبر 2020].

[16]محمد شفيق شيّا: في الأدب الفلسفي، ص: 13-14.

[17] – لاقَى هذا العملُ البارزُ في الأدبِ العربيِّ نجاحًا وصيتًا كبيرين حتَّى في الغربِ غيرِ الإسلامي؛ فتُرجِمَ إلى العبريّة في القرنِ الرابعِ عشر الميلادي، وثمّ إلى اللاتينيّة وعُرِفَ باسم: “philosophus autodidactus” أي: “الفيلسوفُ المعلِّمُ نفسَه” ولحقتها العديد من الترجماتُ اللاتينيّةُ الأخرى ثم إلى الانجليزيّةِ “the improvement of human reason”والهولنديّةِ والألمانيّةِ والأسبانيّةِ والفرنسيّةِ والروسيّة.. وقد قيل بتأثُّرِ العديدِ من الأعمالِ الأدبيّة بها بعد ذلك: مثل قصة (النقّادة) لجراسيان و(روبنسُن كروزو) لدانيال ديفو و(طرزان) لإدجار بوروز، و(كتاب الأدغال) لكبلنج وغيرها؛ لتصبحَ رسالة”حيّ بن يقظان” من أهم الكلاسيكيات المُلهِمَةِ على مرّ العصور المُخْتلِفة. [عبير الشّشتاوي: دراسة موجزة حول رسالة (حي بن يقظان).. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟].

[18] – “اكتشف أنه إن خرج هذا الرّوح بجملته عن الجسد أو فَنِيَ أو تحلَّل بوجه من الوجوهِ، تعطل الجسد كله وصار إلى حالة الموت”. [حي بن يقظان: هنداوي، 2012، ص17]

[19] – نَفَرَ (ن ف ر)، ينفِرُ: هجرَ وطنَهُ وضربَ في الأرضِ، و(إلى الشّيء): أسرع إليه، و(من كذا): ترفَّعَ عنه، و(عن كذا): أعرضَ عنه ومالَ، ومصدره: نَفْرًا.

[20] – في مذهب ابن سينا: النَّفس جوهر قائم بذاته مستقل عن البدن .ومذهبه في النَّفس اثنيني: لأن الإنسان مُركب من نفس وجسد، وكلاهما يؤثر في الآخر. وقد قسم ابن سينا قوى النَّفس إلى ثلاثة أقسام هي: (أ) النَّفس النَّباتية: وظيفتها النّمو والتَّوالد والتَّغذية وهي موجودة في النَّبات والحيوان  والإنسان، (ب) النَّفس الحيوانية: تدرك الجزيئيات وتتحرك بالإرادة وهي موجودة في الحيوان والإنسان، (ت) النَّفس الإنسانية: وهي النَّفس النَّاطقة التي تدرك الكليات وتمارس وظيفتها بالاختيار الفكري .

[21] – عرض كتاب (حيّ بن يقظان) لابن طُفَيْل. [منقول عن شبكة الألوكة، 2018]

[22] – عبير الششتاوي: دراسة موجزة حول رسالة (حي بن يقظان).. لماذا هي درّةٌ من دُررِ الأدب العربي؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات