لوحة لمسرح الرواية بريشة ديفيد روبرتس، وغلافها بريشة حسين جبيل
كلما غشى الموت – بسبب الثأر – عيون الأخبار، يفتح العقل مسارات البحث عن جذور ذلك المصير العبثي لإنهاء الحياة، وهنا تعود إلى الصدارة أدبيات تناولت ذلك الإرث الدامي، سواء كانت دراسة اجتماعية أو حكايات شعبية أو نصوصا أدبية. ولعل ذلك ما يجعل من رواية الكاتب والشاعر والصحافي الصديق عبد الحليم غزالي “دفاتر الطين والدم” وثيقة أدبية وضعت ثيمة الثأر محورًا لأحداثها، ومجالا لحركات شخوصها، في البيئة التي لا تزال ترى فيه معتقدا لا يناله الشك، وممارسة لا تهدمها أية محاولة، وطقسا تقتات منه الدراما البديلة في الأمسيات عوضا عن الدراما التي يغرق في متابعتها الآخرون.
أصوات بليغة للراوي العليم
في رواية “دفاتر الطين والدم” يأخذنا صوت الراوي العليم إلى أحد نجوع الصعيد، وعالم الحاج محمود أبو سعداوي، الذي لا يرى الحياة إلا اكتنازا للثروة. وسنرى صوت هذا الراوي العليم يتفرع إلى عدة أصوات يبين تنوعها ثراء ما يمتلكه المؤلف من عوالم تستدعيها الذاكرة، ويغذيها العلم، ويصورها التاريخ الذي يأخذنا إلى عمقه، والثقافة السياسية التي يستند لها.
الروائي والكاتب الصحفي عبد الحليم غزالي
نحن معه في العقد الثاني من القرن العشرين. وهذه الأصوات يعود أولها للشاعر الذي عرفه المؤلف، فقد كتب غزالي الشعر الفصيح والعامي، لذلك يحضر التركيب الشعري في أوصاف ومشاهد لا تخطئها عين القاريء، مثلما يجسد الحس السوسيولوجي حضوره وهو ينقل لنا الممارسات اللصيقة بعالم الصعيد وطقوسه، مع تدبير ذكي لكتابة قاموس مرادفات لما هو دارج، ومقابله الفصيح، حتى أننا نستطيع أن نؤلف قاموسا من المفردات ومقابلها، معالجا لغة الحوار التي تأخذنا للعامية البليغة كل حين، وما يلتصق بها من حكمة الأمثال.
يبدأ عالم الدفاتر بتقرير مصير رئيسفة؛ زوجة الحاج محمود، بالوفاة وهي تلد له طفله الثالث، حامد، الآتي من رحم الراحلة، منضما إلى أخ أكبر هو عبد الرحمن، وأخ أوسط هو عبد القادر “المتميز بحب الأب والموسوم بولاية العهد ، فلا بد للطين من وريث قوي يحميه ، وفِي هذه الحالة عبد القادر مسنود بسلطة الأب نصف الإله ومموَّل بنفوذه، ومقرب منه بالقدرة على فك رموز نظراته التي لا تشبع من الطين والفدادين!” .
في هذا العالم المادي يصبح حامد مشروعا إنسانيا وروحيا لجدته الحاجة إحسان، فهو الحبيب ابن الحبيبة، صحيح لا تنسى أخويه، لكن حامدًا هو الحلم والحكاية ، هو النخل والنيل البعيد الذي يبدو كالخيال في قرية بعيدة عنه … حامد – بلغة الراوي العليم والشاعر الفصيح – هو الكلام والصمت … هو المعنى الذي يعيش في شرايينها وتعيش في نظراته!
في غياب المدارس في سنوات العقد الثاني من القرن العشرين لا مفرّ من الكُتّاب، وتبدأ رحلة نبوغ فارق لحامد، من كُتّاب الشيخ حسنين ، وبرعاية العم الشيخ عبد اللطيف يسافر إلى معهد أسيوط، رغم كبر سنه، ليواصل التعلم والنبوغ الاستثنائي، حتى بعد وفاة وطنه الحامي له؛ جدته إحسان، بمرض حين كانت الأمراض بلا اسم، ويدخل حامد مدرسة المعلمين العليا، فعمه الأزهري الشيخ عبد اللطيف أدرك أن المستقبل ليس للعمائم ولكن للأفندية.
زهو الطرابيش
وينقلنا المؤلف عبد الحليم غزالي – بصوت المؤرخ – وتحت عنوان “زهو الطرابيش”، إلى عالم جديد: “الطربوش يصنف في ذلك الزمان ما تحته من أمخاخ وأدمغة ، ما تحت الطربوش يحمل برنامجا مختلفا للحياة … يسمح بالاستمتاع لسلطانة الطرب منيرة المهدية وعبده الحامولي والتعلق بظُرف نجيب الريحاني وخفة دمه وانتقاداته لطبقية قاسية، في أعماله بالسينما والمسرح. الطربوش سمح لحامد وأمثاله بالذهاب لأول سينما في محافظة أسيوط … (سينما خشبة)، نسبة إلى أصحابها باشوات عائلة خشبة، التي تتقاسم النفوذ والمال مع نحو أربع أو خمس عائلات في المدينة.”
وسيسمح الطربوش لحامد أن يتحدث بالسياسة لتتردد كلمات “كالوفد والاحرار الدستوريين والنحاس باشا” على الألسن في مدرسة المعلمين. لكن كل الأفكار والخطط والأحلام تنقطع، على إثر مكالمة له تأتيه من النجع ليرجع، وأن يترك امتحان آخر سنة المقرر له الغد، فقد وقعت حادثة كبيرة بين عائلته والرشايدة البحريين وقُتل من هؤلاء اثنان والحكومة أخذت أخاه عبد القادر وعمه صابر، وعليهما قضية “يمكن ياخدوا تأبيده … اتهموهم بقتلهم … أبوك عمّا يقولك تعالى دلوقتي”.
لكن حامدا يقرر أن يبقى ، حتى انتهى اليوم الأخير من الامتحان، وحامد يرى أن هناك موقفا فظيعا ينتظره يهدد مستقبله وحياته ، فالعائلة التي كانت تفخر بخلو تاريخها من الثأر والقتل داهمها الزائر الغبي، جالبا الدم المسفوح والحسرة والخوف والترقب والقلق، ومعها أشباح الموت والانتقام.
يصل حامد نجعه بعد رحلة تمر ببيت القتيل، لكنه كان على حمير عائلة أخرى؛ أي في حمايتهم، فيرون ألا يمسوه، ثم يجلس بجوار أبيه، وبعد صمت طويل
– يا بوي أنا تأخرت عليك بس ما كنتش أقدر اسيب الامتحان
– من بكره تاخد بندقية أخوك المحبوس وتطلع على الغيط الشرقي!
ويحدث حامد نفسه “صدر الفرمان يا حامد وليس عليك سوى التنفيذ … من الآن دخلت عالم البندقية والثأر … أما العلم فدعه يموت مخنوقا في الكتب!”
أثناء قراءتي للدفاتر أمس
تبدأ رحلة الثأر، بحكمتها المتمددة في الصعيد ؛ “راجل براجل، ومَرَة بمَرَة، وعيّل بعيّل، وكلب بكلب“. يمر شهر في رحلة موت مترقب كل يوم، ينتظر حامد رجوع منقذه، عمِّه الذي أخرجه أول مرة، لكن عبد اللطيف يعود مريضا، ويرحل سنده الأخير، بعد جدته، وتقام جنازة لم يسبق أن رآها أحدٌ ستظل تحلف بها النجوع الغربية لعشرات السنين، “جنازة لأول مرة تظهر فيها الطرابيش إلى جانب العمائم والبذلات ، مع الجلاليب على اختلاف تنوعاتها … جنازة سار فيها كبار الضباط مع بكوات العائلات الكبرى وجرابيع القرى، جنازة كانت فيها الأحصنة تتباطأ لكي تلحق بها البغال والحمير والمشاة. “
وحين يأتي خطاب التكليف بالعمل مدرسا يوم الحكم على الأخ بالسجن 15 سنة، تأتي المواجهة مع الأب الغاضب، الذي ينفجر:
يتزوج حامد من فتاة أحلامه ليلى، ولكن في الصباحية يُقتل شخصان من العائلة ويفشل حامد في تحفيظ الشهود ما يقولان، فتُفرج الحكومة عن المشتبه بهم، ويُعلَن أن الأفنديّ لم يستطع أخذ حق المغدورين.
بعدها يسافر حامد بزوجته إلى إلمنيا لتقيم معه، ويبدأ عالم جديد، كان أبرز من فيه صديقه القناوي الذي صار أخا له، لكن الأخ الذي لم تلده له أمه يموت بين يديه إثر تربص اثنين له، تلبية لحلقة ثأر تدور في قنا بين عائلتين.
ومحاولة للنجاة بنفسه وابنه شوقي وزوجته وجنينها القادم يطلب النقل إلى ملوي، جنوب إلمنيا، “التي لا يدخلها غريب بدون إذن”. لكن الثأر يأبى إلا أن يطالها وتؤهل سيرة حامد له أن يكون عضو مجلس صلح ينهي الثأر، ويبشر بنقل الطقس ذاته إلى مسقط رأسه.
ويبدو أن بعد قضاء خمس سنوات في ملوي أراد العودة المحصنة إلى نجعه، فيقرر الانضمام إلى فريق الثوار الجدد، عبر الانضمام للاتحاد القومي، فنُقل ناظرا لمدرسة الشرايدة في النجوع، مستغلا عضوية الاتحاد القومي التي باتت مفتاحا سحريا لكل مرام له. ولكن أعداءه يدبرون له مكيدة تتهمه بأنه ضد الثورة، وضد جمال عبد الناصر، فيعمل على تفنيد التهم، وينجح في دحرهم، ويحصل على تعويض ضخم، بينما هم يحاربون أباه في جبهة أخرى، اعتمادا على كبر سنه وتحالف ابنه الأصغر منصور مع أخواله منهم.
لكن هذا الابن الأصغر، الذي أعلن ترشحه للعمودية، يلقى حتفه، لأن أخواله الذين قتلوه رأوا أن العمودية لا يجب أن تخرج من دارهم، ويبدأ فصل جديد في ثنائية الثأر والهروب.
بعد وفاة الوالد وصراع حامد وعبد الرحمن مع شقيقهم على الثروة، ينالان قسطامن الإرث بمجلس صلح، وتبدأ معركة حامد الأخيرة ضد الجهل، وضد أصحاب الذقون المزيفة، فلا نجاة إلا بالعلم، ولا إيمان إلا بالله.
تاريخ مواز
ولكن الثأر يبقى، حتى أن إشاعة بمقتل حامد سرت إثر سفره خارج بيته ليومين. ويموت جمال عبد الناصر، فكأنه خبر موت كل من كان له في يوم واحد. ثم يبدأ التماهي بين ناصر في الرواية، وهو ابن المغدور منصور، وناصر التاريخي، فكلاهما كان يطلب ثأرا، وإذا بالثأر الذي حققه ناصر بقتل قاتل والده، يجد مباركة من حامد الذي ظل على مدى 272 صفحة يقنعنا أنه ضد الثأر، ويحاور نفسه أو يحاكمها:
– كيف يا حامد تبارك القتل والثأر الذي كرست حياتك لمحاربته؟
– ما اقدرش اعمل غير كده الناس يقولوا عليا إيه …. عايز يسيب تار اخوه؟!
– بس انت طول عمرك عما تقول: لازم حد يضحي ويوقف رحاية الموت … ليه ما ضحيتش؟!
– القتل حصل خلاص ولو كان شاورني كنت قولت له ما تقتلش !…
وبعد أيام يُقتل ناصر وصاحبه، وتبدأ رحلة ثأر آخر قديم ويبدأ استعداد العائلة للكبيرة لحرب ستظل أسابيع ببناء الكمائن، وتقترب ساعة الصفر بعد وصول البنادق والذخيرة من البداري ومنفلوط وغيرهما، وتوزع الأسلحة، بينما اوكلت للاولاد مهمة توزيع الغذاء والماء والذخيرة على المكامن.
رافق ذلك تاريخيا ثورة التصحيح التي دشنها الرئيس السادات، وبعد أسبوعين من تبادل الرصاص باعتباره المتحدث الأول والأعلى صوتا في النجوع، تبدأ الروايات التي تلقي هالات أسطورية على أبطالها، حتى أن “عبده العبيط” يدعي أنه “أطلق على الرشايدة ألف طلقة من بندقيته الخشبية، وأنه قتل منهم عشرين رجلا وأنهم يتكتمون الامر!”
لا أحد بمصر يدري عن تلك الحرب شيئا، واعتبرت الشرطة ما يجري شأنا عائليا، ونأت برجالها في بني صالح عن تهلكة الرصاص الطائش. وفي جلسة الصلح – التي جاءت بعد هدنة دشنتها اصابة أحد رجال الرشايدة واستدعاء الاسعاف والشرطة، يتصدر متحدث أولاد حسان، حامد، المشهد، بآية سورة الحجرات التي انهت خطابه وتفوقت له على ممثل الرشايدة: ” وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱقۡتَتَلُواْ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَاۖ فَإِنۢ بَغَتۡ إِحۡدَىٰهُمَا عَلَى ٱلۡأُخۡرَىٰ فَقَٰتِلُواْ ٱلَّتِي تَبۡغِي حَتَّىٰ تَفِيٓءَ إِلَىٰٓ أَمۡرِ ٱللَّهِۚ فَإِن فَآءَتۡ فَأَصۡلِحُواْ بَيۡنَهُمَا بِٱلۡعَدۡلِ وَأَقۡسِطُوٓاْۖ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ”.
وتبدأ حروب أخرى على الأرض، ومرة أخرى يوازي المؤلف عبد الحليم غزالي بين ما يحدث في التاريخ وانتصار حرب السادس من اكتوبر، وما يحدث في مصر الأخرى في الجنوب، فتنسحب جبهتان احتشدتا لحرب جديدة، وكأن النجوع كانت على موعد جديد مع حدث كبير، وفي مذكرته الصغيرة يدون حامد: “قُتل وصفي ابو عوض البواح برصاصة طائشة، وانسحب الخلافية خائبين … عبرت قواتنا قناة السويس وحطمت بارليف … والنصر لنا إن شاء الله!”
وعلى المعاش سينتقل ليعيش سنوات سلام في مدينة أسيوط، وبعد وفاة زوجته يقرر العودة للنجع، لكنه يختفي، ويتحول إلى أسطورة تنسج حولها الحكايات.
هكذا تختتم رواية عبد الحليم غزالي بتقديم إشارات عن ترويض الثأر باعتباره ممارسة مبغوضة لكنها اضطرارية باحثة عن العدالة الغائبة، لكن ما يمنع من وقف تلك الممارسة هو أن الإجراءات التي تتخذ لا توفر العدالة المطلقة التي توقف أتون عجلتها الطاحنة للأرواح.
ويشير حامد، الذي كان صوتا مثاليا وأضحى أسطورة غائبة، إلى أن العلم ومجابهة الخرافات سبيلان لتغيير الواقع، فلن ينجو مجتمع لا يزال يقع تحت أسر المرض والفقر والجهل، فضلا عن أسره بخرافات الرعاة المزيفين للأولياء.
وما أراه أن الرواية تقدم مشروعا لنظرة مغايرة، تجعل من مقومات العلم والعدل أدوات لسلام مجتمعي ونهضة شاملة، لا تزال غائبة عن المشهد في مسرح الأحداث.
يجب أن أشير إلى أن الثورة على العادات غير الجديرة بالاحترام يدشن لتقاليد جديدة، فحامد يرفض الانصياع لعادات النجع بإعلان دخول الزواج وفق ممارسة لا يراها تليق باحترام المرأة، ومن هنا يبدأ التغيير بالتنوير. كما قدم عبد الحليم غزالي صورة المرأة الصعيدية باعتبارها نموذجا قويا للحكمة (الجدة إحسان) والقوة (الحاجة زينب) ورجاحة العقل والعاطفة (الزوجة ليلى).
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.