رحلة العامري بين ديرة الإمارات ودار الهند

06:08 مساءً الخميس 5 أغسطس 2021
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لعلنا نبدأ بالعنوان، والديرة، التي إن قلتها في الكويت كان المعنى تلك البقعة في قلب الكويت (العاصمة) القديمة، وإذا ذكرتها في محافظة القطيف بالمملكة العربية السعودية فهي أحد أحياء قرية تاروت، وإن كتبتها في سياق يمني، بعاصمتها الإسلامية تريم، فهي مستوطنة في اليمن، وإن مررت عليها في تاريخ سلطنة عمان فيقصد بها دماء والطائيين، لكن ديرة الإمارات هي دبي، تقول الديرة فتعني بها تلك المدينة التي تحولت في عقود قليلة لتصبح رمزا للنهضة العمرانية في دولة الإمارات العربية المتحدة.

ولكن ما هي دار الهند؟

إنها في اعتقادي كل بقعة تسكنها يوما أو بعض يوم، وتقيم فيها أياما وشهورا وسنوات، لأنك حين تبيت في مكان يصبح دارك، ولو كان قصرا لمهراجا في السابق، أو ركنا ببيت صديق، أو غرفة في فندق، فهنا أو هناك استظلك سقف، ارتحت تحته، وأغلق عليك باب أمنت خلفه، فأصبح مقامك دارا، ولو لم تمتلك فضاءه إلا وقتا يسيرا.

لذلك أرى في رحلة عبد الله ناصر سلطان العامري خير نموذج لتلك المراوحة بين الديرة والدار، وفي سيرته ما يتجاوز الشخصي إلى العام، وينقل أدب الرحلة إلى التاريخي، والمعرفي، والبوح، مثلما يبني ذلك الجسر بين مكانين أو أكثر، وهو جسر ليس باتجاه واحد – وهنا تأتي أهميته – فخير الجذور هي التي تتيح السير في الاتجاهين، تبادل المعرفة، تثاقف الحضارات، تلاقح الأفكار، وتزاوج العادات والتقاليد.

رحلة طولها 40 سنة

ومن المثير في الكتاب أننا سنتصفح رحلة امتدت لأكثر من 40 سنة، جمع فيها المؤلف الرحالة نسيجا من تجاربه الشخصية، وغزلها  مع أحاديث الأكبر منه  في المجالس والملتقيات، حيث تدور قصص تجمع بين الواقع المعاش والخيال الذي يبالغ في حين  آخر.

ويتقمص الكاتب دور المؤرخ حينا، والمحلل السياسي في أحيان أخرى، خاصة حين يخصص فصولا للتعريف بالهند ونظامها السياسي، والتجربة الدستورية والسياسية، وديموجرافيا الهند التي توقع لها أن تكون أكبر دولة في العالم سكانا العام القادم (وقت نشر الكتاب الذي كان قوامه مقالات على مر سنوات)، وأعظم ديمقراطيات العالم، فضلا عن المرور بأعلام الهند الأشهر، ليخصص فصولا أخرى للمهاتما غاندي، أبو الهند الحديثة، وجواهر لال نهرو، طريق المنهج الاشتراكي، وأنديرا غاندي زعيمة بلا منازع، والحكيم والشاعر طاغور.

إلا أنني أعد بداية متون الرحلة مع استعداد المؤلف وهو شاب ليسافر إلى  الهند في طقس جماعي، يقول فيه: 

“ذات يوم اتفقت مع أخي محمد ومجموعة من الأصدقاء على زيارة الهند درة الشرق الساحر، والمكوث فيها طوال العطلة الصيفية والتي تمتد إلى ثلاثة أشهر، كنا نوفر بعض المبالغ ونوفر من مصروفاتنا (إن كان هناك مصروف بمعناه الحقيقي!) والحقيقة إن كل ما نفعله هو الانتظار  على ما تجود به يد الأم الحنون (ومن لنا غيرها!) كانت هذه هي الخطوة الأولى لشراء التذاكر، أما الخطوة الثانية لتحل نقص المصروفات للبقاء لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر كاملة في الهند ، هو المرور على بعض المحلات والدكاكين في سوق دبي، ليجود أصحابها بنثريات   –  مع ما نأخذمن البيت ليقوم الزوار الشباب للهند بدور التجار الصغار. وأحيانا  يعطي تجار هنود في سوق دبي حوالة ورقية صغيرة مقابل ما يدفع الشباب من مال، تماثل طابع بريد حجمه سنتيمتر في سنتيمتر يخبئها المسافر في ملابسه الداخلية بحرص حتى لا يكتشفها رجال الجمارك، وحين يصلون إلى مومباي، يسلمونها إلى صاحب المحل الموصى به من زميله التاجر في الإمارات، ليستلموا النقود المبادلة!

في القانون، يشبه ذلك تهريبا، لكن في السياق الاجتماعي نجدها وسيلة لعدم ضياع النقود أو حظرها. كان السفر بلا نقود  حتى لا تتم مصادرتها، ولكن لهؤلاء الرحالة الصغار حيلتهم التي تعبر بنقودهم الحدود عبر بنك الفانيلات التي أخفت الحوالة السرية!

ثم يقص علينا الرحالة أطرافا من زياراته،  بين بوابة الهند في مومباي … “كان الصغار يلاحقوننا في مجموعات ويغنون لنا أغاني محمد عبده وأبو بكر سالم وطلال مداح وعبادي الجوهر وغيره من مطربي الخليج والعرب أمثال كوكب الشرق أم كلثوم،  وأغاني وكلمات أخرى تخدش االحياء أحيانا وليس لها في القواميس من تفسير وسلطان، وشوارع مومباي التي أبهرته “فما أراه هو عبارة عن كل شيء متناقض ومتجانس في نفس الوقت”.

ولكن إذا كانت تلك رحلة الشباب، فكيف برحلات آبائهم؟

كانت الرحلات للهند على ظهر مراكب تجارية كبيرة تمتليء بأعداد من تجار الإمارات، يأخذ منهم السفر ثمانية أيام إبحارا للوصول إلى مومباي، بعد المرور على موانيء بندر عباس أو مسقط أو كراتشي في الطريق إلى الهند، ليلتقوا جميعا – التجار القادمون والمقيمون _ من عائلات كثيرة في مجالس عربية كل مساء ويقيمون ما بين ثلاثة إلى أربعة أشهر في كل سفرة.

الرحلة بين أيدينا لا تخلو من الصور المصاحبة، وهي دالة على صغر حجمها، سواء كانت أرشيفية أو أنها من ألبوم المؤلف، فهنا صورة لتجار خليجيين وعرب في مومباي، وهناك صور للمؤلف كثيرة، جالسا في مركب أمام بوابة الهند، ووواقفا في السوق قرب محطة القطارات، ومستمتعا بالطعام في مطعم وكافيتريا الباشا، وفي أيام الدراسات العليا له في دلهي، وهي فرصة لأحكي لكم عنه قليلا.

ولد العامري في الديرة، دبي، سنة 1954، وحصل على دكتوراه في العلوم السياسية، وماجستير علوم الطيران، وماجستير إدار الكوارث، وقد خدم في السلك العسكري، والسلك الدبلوماسي، وعين سفيرا للدولة في فرنسا، ومثل الإمارات في اليونسكو، كما عين سفيرا لها إلى المملكة الأردنية الهاشمية ودولة فلسطن، وله إسهامات رياضية وإنسانية، منحته عدة أوسمه محلية ودولية منها وسام الاستقلال الأردني، ووسام نجمة القدس من فلسطين، كما حصل على جائزة الشخصية الاتحادية لعام 2014.

هذه الموسوعية في العمل هي ثمرة تلك الرحلة الجغرافية والتاريخية، التي جعلته يحول هذه المقالات الهندية إلى معجم لأعلام في الإمارات والهند، فيكتب – مثالا – عن محيي الدين ثومبي، الرئيس التنفيذي لمجموعة ثومبي الطبية، ورئيس مجلس إدارة جامعة الخليج الطبية بعجمان، الذي يقول بأنه تعلم من الإمارات النظام والقواعد والقيم الدينية والثقافية التي ساعدت كما يقول في توسيع مشاريع أعماله على مدى السنوات، وينقل لنا المؤلف شهادة ثومبي:

“نحن نؤمن بأننا جزء من المجتمع، وعلينا تجاه البلد واجبات تمليها فلسفتنا وقيمنا الأخلاقية والإنسانية بعيدا عن الربح المادي، لقد تعلمنا من حكام الإمارات وشيوخها معاني الأخلاق والقيم وحب الناس، تعلمنا تقديم العون للمحتاج، هذه بلاد زايد رحمه الله الذي أحببناه صغارا وكبارا وقد رأينا أياديه البيضاء الممتدة لنا في الهند بالخير والمساعدة، ونحن إذ نقيم في رمضان من كل سنة حفل ختمة قرآنية على روحه الطاهرة فإننا لن نصل بالوفاء إلى ما يوازي ما قدمه لنا وفي كل بقاع الأرض قاطبة”.

تحت عنوان (الهنود يقرأون الفاتحة على روح الشيخ زايد، يأخذنا الكاتب إلى مشاهد في كيرالا ونيودلهي أقامت إحياء لذكرى الشيخ زايد قراءات لختم القرآن الكريم، وخاصة المؤسسات الخيرية والتعليمية التي تحمل اسمه.

هذا التواصل ليس إنسانيا وحسب، وهذا الجسر من العطاء لم يخصص الاتجاه فيه للعمل الخيري، بل إن جزءا أصيلا كان للثقافة، وهو ما يحكي عنه المؤلف بعنوان ” بين سينما الوطن وسينمات مومباي … تتشكل ثقافات”:

“سينما الوطن بالقرب من ميدان جمال عبد الناصر بالديرة إحدى دور السينما التي عرفتنا بالسينما والأفلام الهندية، أحببنا تلك الأفلام الغنائية الراقصة التي تعرض فيها، وأستطيع أن أقول بأن ثقافتنا المكتسبة من تلك الأفلام كانت البوابة الرئيسية لأحد مداخلنا على ثقافة الهند وحضارتها العظيمة، وفي شارع الجراند بمدينة مومباي دخلنا دور السينما كالرويال، والإمبريال القريب من مركز الشرطة، وكذلك سينما روشان لنستمتع بالأفلام المعروضة لأعظم الممثلين … عشر روبيات تعطيك ثقافة واسعة، وإطلاعا معرفيا يبقى في الذاكرة لا ينسى.

على أن الرحلة إلى شبه القارة العجائبية لا يخلو من العجائب، وأول العجائب يسردها لنا العامري تأتي بسيرة زميله في الجامعة بنيودلهي ساتيش:

“ستيش حالة نادرة من الزملاء، فهو شديد لذكاء، وسريع البديهة، وأحلامه كبيرة”

كان ستيش يحمل على ظهره دائما حقيبة صغيرة لا تفارقه، وحين سأله العامري عن سرها، وهي الحقيبة التي تحمل بسببها تندر الزملاء، اكتشف أنها تحوي قرصا معدنيا صغيرا وعصا وعلبة إلكترونية، توصل ببطاريات جافة، ظنها جهازا لكشف الألغام، لكن ستيش قال:

“لا … إنه جهاز كاشف للذهب من ابتكاري”.

الغريب أن الجهاز كان يصدر أصواتا على كل المعادن إلا الذهب!

ثم حكى ستيش سر حب الهنود للذهب ذلك الحب الكبير، والذي من مظاهره ما تشهده أعياد ديوالي (عيد الأنوار الهندوسي) من موجات شراء الذهب, وانتشار ذلك المعدن النفيس في المعابد بكثرة: فمعبد أنانت في ولاية كيرالا (149) يعتبر أغنى معبد في العالم، وقد شيد في القرن السادس عشر، وتقدر كمية الذهب فيه بنحو ثلاثة آلاف طن، أي ما يعادل ثلثي الذهب الأمريكي المودع في خزانة احتياطي الذهب بالولايات لمتحدة. وحافظت الأساطير على ثروات الذهب بالمعابد حيث انتشر أنها تحرسها الأفاعي!

بعيدا عن عجائب ذهب ستيش، تأتي غرائب أخرى، فالرحلة – أية رحلة – يجب أن تكون مزيجا بين الاستقرار والتنقل، بين التاريخ والأسطورة، بين الواقع والخيال، وهنا يصل بنا إلى بوابة واكا الحدودية الفاصلة بين الهند والباكستان، حيث يقام استعراض يومي من 50 عاما وإلى الآن، لفتح وإغلاق بوابة واكا بين الجانبين، تقوم به سرية حرس هندية، وأخرى باكستانية،

أخذ صديق هندي زملاءه ليشاهدوا تلك الاستعراضات البهلوانية التي سماها العامري (استعراض الديوك على الحدود)، حيث تكون هناك مشاهد لصراع تمثيلي بين غريمين لإغلاق البوابة الفاصلة وسط صخب الجمهور.  

ثم يقوم المؤلف برحلة أغرب إلى أرض قاطعي الرؤوس، في أرض الناغا، وهي منطقة تقع شمال شرق الهند يشتهر أهلها بأنهم محاربون من الطراز الأول يقطعون رؤوس أعدائهم.  

بعيدا عن الأساطير والعجائب سيأخذنا المؤلف إلى الجانب العلمي في الهند، بين التنجيم وعلماء الفلك، ودراسة الفضاء، وقد وصلت الهند للفضاء بعيدا عن التنجيم، بفضل علمائها، وفي أواخر 2014 دخل الهنود التاريخ والمريخ بمركبة فضائية هندية خالصة، كما تقدمت يتقنية النانو، وهناك أكثر من 100 شركة دوائية وتقنية طبية حيوية تعمل استنادا للنانو، يقول: (لابد من الإشادة في هذا المجال بالعلماء الهنود الذين تخلوا عن أرباحهم الهائلة في أمريكا، وآثروا العودة إلى وطنهم الأم ليساهموا في رفعته وتقدمه).

وأخيرا، سنجد أن هذا الكتاب على ضفاف نهر الغانج – مقالات هندية، للكاتب عبد الله ناصر سلطان العامري، الصادر عن ندوة الثقافة والعلوم في دبي، يعد نموذجا يستحق الدراسة، لقيمته العلمية والتاريخية، وكذلك   لقدرة مؤلفه على تقديم وجبة متكاملة لقارئه، مفعمة بالتفاهم الناضج بين الثقافتين؛ العربية والهندية، ففي أكثر من 300 صفحة يبحر بنا عبد الله ناصر سلطان العامري بين ديرة الإمارات ودار الهند، رحلة على موجات الكلمات المُحبة، والتي تزين ذلك الجسر بين الثقافتين. .

……………………………

)قراءة في كتاب أدب االرحلة: على ضفاف نهر الغانج – مقالات هندية، للكاتب عبد الله ناصر سلطان العامري، المؤتمر العلمي الثاني، أكاديمية التميز، الهند)

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات