الحرير المخملى

09:35 مساءً الأربعاء 19 ديسمبر 2012
أميمة عز الدين

أميمة عز الدين

أم وكاتبة مصرية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

رواية الحرير المخملى

5- الانتظار

مازالت عمتى مهرة تنتظر فى شرفتها وقد سال دمعها مدرارًا حتى جف نبعه، تنتظر أوبة فارسها إسماعيل، لا تريد أن تصدّق أن الموتى يعودون، لا تريد أن تعترف بذلك أبدا، حتى ذهلت وصارت تغشى متاهات اللامعقول ومسها عارض من جنون، يقول الأطباء النفسيّون الذين باشروا حالتها المتدهورة، إنها حالة ميئوس من شفائها إلا إذا قضى الله عز وجل أمرًا كان مفعولا، لذلك هم ينتظرون معجزة من السماء تهبط عليها كى تبرد نار قلبها وتنداح السكينة أرجاء عقلها الذاهل، عمتى المسكينة صنعت الكثير من مفارش السرير المصنوعة من أرق خامات الحرير المخملى، حينما وصلها الخبر الفاجعة قامت من مكانها وحفرت حفرة كبيرة بفناء البيت الكبير ودفنت كل مفارشها وأهالت التراب عليها وظلت تخبط وتدق بقدميها، كأنها تدفن حبيبها إسماعيل وتواريه الثرى، تحثو عليها قبضات من رمل وتراب حتى وقعت وقد انتفض كل جسدها وغابت أياما كثيرة عن الوعى، لم نرها على تلك الحالة قبل هذا، ورغم أن جدى لفظ روحه أمامنا لكنها تماسكت كما تماسكنا جميعا، لكن قتل إسماعيل المباغت أهدر عقلها واستباح رشدها ولم تعد عمتى مهرة التى نعرفها.

غالب عمى رءوف أحزانه وهو ينقل الخبر إلى عمتى مهرة، ظل ساعات طويلة يناور ويماطل، حتى إنه لجأ إلى عمتى زينة ذات العقل السديد والجرأة الكبيرة فى إبلاغها الخبر، لكنها رفضت بشدة وانتابتها حالة هستيرية من البكاء الحاد، وأغلقت الباب على نفسها وهى تلوم نفسها، لأنها ذات يوم تساءلت وكدرها السؤال، لماذا اختار إسماعيل مهرة، لعنت نفسها كثيرا فى تلك اللحظات القاتمة وقالت بصوت مبحوح من أثر البكاء:

–   لقد كنت مثل إخوة يوسف، لا فرق بينى وبينهم، الغيرة السوداء تسللت إلى قلبى كقطع من الليل ونهشته.

وقف عمى رءوف أمام غرفة أخته مهرة، يقدم رجلا ويؤخرها، وقد تصبب عرقا، كيف يمكن له أن يبلغها هذا الخبر الأليم، لا شىء أكثر قسوة على النفس من تمرير الأخبار السيئة والتى غالبا ما تنتهى بارتداء أصحابها السواد، السواد ولا شىء غير السواد يراه عمّى الآن، تغلب على تردده وطرق الباب برقة، مرة، مرتين حتى فتحت عمتى الباب وبيدها فستان الزفاف المرتقب، داهمته بالأسئلة الحارة عن إسماعيل، وقالت فى دلال وشوق:

–   لن أعاتبه على تأخيره، سأهجره ولن تشفع له عندى، لقد حرم عينىّ من رؤيته أسبوعا كاملا، أخبره أننى أحبه، أجل إننى أحبه، بالطبع ستقول عنى إنى فتاة قليلة الحياء، لا يهم، مادام إسماعيل يحبنى، لقد اشتقت إلى عينيه الملونة، انظر.

ناولته الفستان فقام بوضعه جانبا على طرف السرير دون أن ينظر إليه وامتلأت عيناه بالدموع فقالت عمتى وقد ازداد وجيب قلبها:

–   لا تقل لى إن الكابوس الذى يطاردنى منذ زمن سوف يتحقق الآن، أرى نفسى وقد أحاطتنى الظلمة من كل مكان، أظل أنادى، فلا يسمعنى أحد، أنا أمامكم ولكنكم لا تبصروننى، أتشبث بكم وأراكم تهلون فرادى وزرافات تهيلون التراب علىَّ، تحشون قبرى بجسدى وتتركونى، وحدى، ولا تدعوا لى بالتثبيت وأنا على قيد الحياة.

تنهَّد عمّى ونَظَر إليها بعمق وقَبَّل يدها قائلا:

–        أنا لن أتركك أبدا، أنت أختى، حبيبتى الكبيرة.

–        ماذا دهاك؟!

–        لا شىء، فقط ساعدينى حتى أقول لك شيئا.

–        بخصوص إسماعيل، أليس كذلك؟

–        لقد نصحته مرارا، لكنه لم ينصت إلىَّ..

–        هات ما عندك.

–   كان يظن نفسه فارسا فوق العادة، نسى أنه بالكاد يقدر على الإمساك بالفرشاة والألوان وصمم على الاشتراك فى قافلة لنقل المعونات والمساعدات الطبية وصناديق الأغذية والتى يشرف عليها الإتحاد الإفريقى إلى الفاشر حيث مازالت بقية من قبيلته متشبثين بالأرض والحرث رغم قسوة التهجير القسرى والمروحيات وطائرات الانطونوف التى تملأ سماءهم كل حين وتتفنن فى إلقاء القنابل، ورغم أن الوقت كان محددا بهدنة إلا أن المراحيل استولوا على القافلة قبل أن تبلغ وجهتها وأفرغوا المدافع الكلاشينكوف فى صدور…..

صرخت عمتى صرخة مدوية طويلة قائلة فى وهن شديد:

–        إسماعيل!

من وقتها لزمت عمتى غرفتها وأوصت عندما يحين الكتاب ويفرغ أجلها أن تكون قطعة الكفن الخامسة من الحرير المخملى الذى لم يستطع جسدها ملامسته وهى حية ترزق.

مازالت أصداء حكاية عمتى مهرة وحبيبها إسماعيل تراودنى، وتلح علىَّ وأنا أراها قابعة تمر السنوات وهى قابعة لا يتغير مكانها من الشرفة، حتى حسبها أهل القرية من الدراويش وكانت فرصة للنيل من عائلتنا العريقة أيضا، وأشيع أنها ورثت الجنون عن أبيها الذى عاش ومات وهو مفتتن بالنساء وها هى عمتى تفتتن برجل حتى الموت، يبدو أنه سلسال!

 لم يستطع عمّى رءوف رؤيتها وهى على تلك الحالة المزرية، فشد رحاله إلى الإسكندرية، وفرحت جدتى برحيله، وأمرت أمى بإحضار زير فخارى مملوء بماء الورد ودشته وراءه واستعادت عافيتها بطريقة مذهلة وطلبت من أبى أن يحضر لها أكبر الأطباء فى الأعصاب وعلاج الشلل، واستجاب جسمها لجلسات العلاج الطبيعى وبدأت فى تحريك بعض أصابع يدها اليمنى المشلولة ورأيت وجهها طافحا بالحياة، واندهش أبى من تلك الحيوية، حتى أمى عدته نوعا من التشبث بالحياة فى الرمق الأخير.

بقيت عمتى زينة بدون زواج، وعندما شعرت بجسمى يفور، وأوشكت على الانتهاء من دراستى الجامعية نصحتنى ألا أعطى قلبى لأى رجل والسلام.

لم أنصت لكلام أمى وتهديدات أبى الذى منعنى من الخروج والعمل، وقال:

–        ليس هناك مبرر لدخولك وخروجك مثل بندول الساعة.

–        أريد أن أعمل يا أبى.

فى قسوة لم أشاهدها فى عينيه قبل هذا، أمسكنى من ذراعى وقد سدد نظراته إلى عينى مباشرة:

–        لا عمل، لا خروج، لن أسمح لك أن تكونى نسخة مكرورة من زينة.

 انزوت عمتى زينة ولزمت حجرتها عندما صكت كلمات أبى الثقيلة أذنيها ولم أعد أسمعها تحدثنى فى شىء أو تشير علىَّ بأىّ نصيحة، كانت تهرب من مجالستى وتعتبر هذا نوعًا من المهادنة، فهى قد ملَّتْ من حوارات أبى العقيمة، وتخشى أن ترى الشماتة فى عينيه لأنها لم تتزوج حتى الآن، بعد قليل وجدتها هى الأخرى تحزم حاجياتها وكتبها وتغلق باب غرفتها وترحل عن البيت الكبير.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات