مسار “الحركة” ودبلوماسية “المساومة” على إيقاع “أردوغان”

12:59 مساءً الإثنين 4 أكتوبر 2021
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

خلال لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إنه “لا يوجد طريق للتراجع” عن الصفقات العسكرية التركية الروسية التى يعارضها الغرب. في رسالة واضحة بأنه قد توصل إلى شريك بديل في الصفقات التجارية والعسكرية والمفاعلات النووية: هو الرئيس بوتين. وذلك مع استمرار حالة التوتر بين إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” والرئيس التركي.

أردوغان

يأتي هذا التطور، المتوقع، رغم حالة التناقض وربما الصدام الواضحة في العلاقات الروسية التركية على مدار السنوات السابقة؛ فإذا كانت الدولتان صديقتان في صفقات الطاقة والأسلحة إلا أنهما أيضا أعداء فى حروب الشرق الأوسط المتعددة. من خلال المرتزقة والوكلاء، وهو ما جعل البلدين على طرفي نقيض في الحروب في سوريا وليبيا، بينما تعمل القوات التركية والروسية كقوات حفظ سلام في الصراع على إقليم “ناجورنو قره باغ”.

تتركز العديد من التفسيرات لدبلوماسية أردوغان مع روسيا على أنه “موقف مساومة”، يهدد الولايات المتحدة من خلال التقرب من بوتين.

ففي مقابلة مع محرري صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الأسبوع الماضي على هامش الاجتماع السنوي للأمم المتحدة، رفض أردوغان الإتهام المتداول عن أنه يقوض الناتو، التحالف العسكري الغربي الأساسي، من خلال شراء نظام صاروخي روسي متطور. حيث يؤكد خبراء الحلف العسكريين إن صواريخ إس -400 الروسية مصممة بالأساس لإسقاط طائرات الناتو.

وقال أردوغان: “إننا نشتري أسلحتنا الخاصة”، مؤكدًا أن كلاً من الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرج، والرئيس دونالد ترامب قد أعادا تأكيد حق تركيا في اختيار موردي الأسلحة، مضيفا أنه “لو باع الأمريكيون لتركيا نظام دفاع صاروخي //باتريوت// ولما اضطر إلى شراء صواريخ إس -400؛ … يمكننا تعزيز دفاعنا كما يحلو لنا”.

للوقوف على تلك التحركات وتحديد إيقاعها يجب دائما رصد كل ما سبق على قمة “سوتشي” بين “بوتين” و “أردوغان” لان ذلك المشهد يأتي كمحصلة لما سبقه من مشاهد وقطع متناثرة على رقعة شطرنج الشرق الأوسط.

الميدان سوريا

في محاولة لكسب أرضية سياسية فى الداخل التركي، شنت أنقرة عمليات عسكرية متعددة فى سوريا. لقد أرسى هذا، الأساس لسياسة خارجية قومية أكثر عدوانية مع تداعيات عميقة على العلاقات مع الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي؛ وإرتباطا بحجم المصالح فى كل من سوريا ومناطق تمركز الأكراد داخل تركيا وإيران والعراق وسوريا.

فمنذ أغسطس 2016 وحتى اليوم، شنت تركيا أربع عمليات عسكرية في شمال سوريا حيث خدمت كل عملية أهدافًا محددة تم تصميمها للاستجابة للسيناريوهات المتغيرة بسرعة على الأرض. ومن الممكن تحديد الأولويات الرئيسية التي شكلت سياسة تركيا تجاه سوريا على مر السنين. داخليا، استخدمت أنقرة الصراع السوري كذريعة لقمع حقوق الأكراد الذين يعيشون فى تركيا والحد من تمثيلهم البرلماني لتأمين إصلاح دستوري تاريخي في عام 2017.

في السنوات التالية، ساعدت العمليات العسكرية المتتالية في سوريا أردوغان على التواصل مع دوائر انتخابية قومية بشكل متزايد وحشد الدعم حول التواريخ الانتخابية الرئيسية. أخيرًا، بعد الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، لعبت سياسة الحكومة التركية تجاه سوريا دورًا رئيسيًا في إعادة بناء مصداقية القوات المسلحة التركية مع إعادة رسم التوازن بين القوة المدنية والعسكرية.

إن سياسة تركيا في سوريا مدفوعة في جوهرها بالسياسات الداخلية. بدعم من جمهور كبير فى جميع أنحاء تركيا، ساعدت هذه السياسة أردوغان وحزبه العدالة والتنمية (AKP) في الحفاظ على السلطة خلال بعض السنوات الصعبة سياسيًا بعد محاولة الانقلاب عام 2016.

وبناءً على خطاب وسياسات الحكومة التركية القومية المتزايدة، عملت عمليات تركيا في سوريا على إضعاف المعارضة السياسية وحشد الشعب التركى حول العلم فى الفترة التي سبقت الانتخابات الرئيسية، من خلال تعزيز سلطة أردوغان.

من منظور السياسة الخارجية، أدت العمليات العسكرية التركية فى سوريا إلى علاقات متوترة بشكل متزايد مع الولايات المتحدة. أدى دعم واشنطن للأكراد السوريين إلى نفور أنقرة إلى حد فشل صانعي السياسة الأمريكيين في توقعه. الموضوع الشائك اليوم في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا – قرار أنقرة نشر نظام الصواريخ الروسى S-400 – يرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بالأزمة السورية. تم اتخاذ هذا القرار فى سياق إعادة تنظيم استراتيجي بين تركيا وروسيا ساعدت البلدين على تحقيق أهدافهما في سوريا: بقاء نظام الرئيس السوري بشار الأسد لموسكو وإضعاف الأكراد السوريين لأنقرة.

أخيرًا، منح تدخل أنقرة في سوريا أيضًا تركيا نفوذًا جديدًا على الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر بإدارة تدفقات اللاجئين. كان حل مسألة اللاجئين السوريين في تركيا أولوية للحكومة التركية منذ المراحل الأولى من الحرب الأهلية السورية – ومحركًا رئيسيًا لسياسات أنقرة تجاه كل من سوريا والاتحاد الأوروبي.

وبشكل عام، لم يكن تدخل أنقرة فى سوريا مصدرًا للصراع – أو للتقارب – مع شركائها التقليديين وجيرانها فى جميع أنحاء المنطقة. كما زودت تركيا بأدوات جديدة لإدارة سياسة خارجية قومية أكثر عدوانية. ومن وجهة نظر صانع السياسة التركية فقد عززت الاستراتيجيات التي استخدمتها تركيا في سوريا صورة البلاد ودورها الدولي والإقليمي.

لقد ضمنت هذه العمليات مقعدًا لتركيا على طاولة المفاوضات مع روسيا والولايات المتحدة. لقد استخدمت أنقرة هذه الأدوات، وهذه الدروس المستفادة، وقدراتها الجديدة لتوجيه موقفها التعديلي في السياسة الخارجية. للمضي قدمًا، ومع التركيز على الانتخابات الرئاسية في البلاد لعام 2023، ستواصل تركيا استخدام هذه الأدوات لتعزيز مكانتها على الساحة الدولية.

تُرجم هذا النهج إلى علاقات متوترة على نحو متزايد بين تركيا والولايات المتحدة حيث كان تدخل تركيا في سوريا أيضًا حجر الزاوية في إعادة الاصطفاف الاستراتيجي مع روسيا. واستخدمت الحكومة التركية مسألة اللاجئين السوريين لتبرير التدخل العسكرى التركى في سوريا والضغط على الاتحاد الأوروبي للحصول على التمويل وإعادة التفاوض على الحدود البحرية في شرق البحر الأبيض المتوسط.

بشكل واضح، زودت العمليات التركية في سوريا الحكومة التركية بمخطط لسياسة خارجية أكثر اضطرابًا. منذ عام 2016، نشرت أنقرة قواتها في ليبيا وواصلت بقوة مصالحها في شرق البحر الأبيض المتوسط. وقد غيرت الطائرات التركية بدون طيار مسار النزاعات ليس فقط فى سوريا ولكن أيضًا في ليبيا وجنوب القوقاز. لقد أطلعت الدروس المستفادة في سوريا على سلسلة من تحركات السياسة الخارجية التركية التي تهدف إلى تغيير الوضع الإقليمي الراهن، وعلى نطاق أوسع، إطلاق إعادة توجيه استراتيجي لسياسة تركيا الخارجية.

“النار والجليد”

حلل العديد من الخبراء، العلاقة المتغيرة بين تركيا وروسيا في السنوات الأخيرة. وتتراوح أوصاف العلاقات بين البلدين من “المنافسة التعاونية أو التعاون التنافسي” و “زواج المصلحة” إلى “التعاون العدائي”، حيث تكون التسمية الأكثر إثارة للذكريات هي “النار والجليد”.

منذ عام 2011، كانت سوريا واحدة من المسارح الرئيسية التي تكشفت فيها العلاقة بين موسكو وأنقرة. منذ البداية، كان اهتمام روسيا الأساسى هو بقاء نظام الأسد، بينما تحولت أهداف تركيا من تغيير النظام فى دمشق إلى إضعاف قوات حماية الشعب. بشكل عام، استفاد كلا الجانبين من العلاقة بطرق مختلفة.

تمكنت تركيا من إزالة كل تلميحات الوجود الكردى من حدودها مع سوريا وهي في وضع جيد للعب دور فى أى عملية سياسية من شأنها إنهاء الصراع. بالإضافة إلى ذلك، تمكن أردوغان – في بعض الأحيان – من الاستفادة من علاقته مع بوتين وتعزيز مكانته الدولية مع تأمين الدعم الروسى فى القطاعات الاقتصادية الرئيسية، مثل الطاقة والسياحة.

على النقيض من ذلك، تمكنت روسيا من استعادة سيطرة الأسد على كل سوريا تقريبًا. مع انسحاب القوات الأمريكية من شمال البلاد، استغلت موسكو توترات أنقرة مع الأكراد لتقريب وحدات حماية الشعب من النظام السورى. من خلال الاستفادة من الوضع على الأرض، وخاصة فى إدلب، أوجدت روسيا نفوذًا على تركيا. أخيرًا، من خلال علاقتها مع أنقرة في سوريا وخارجها، تمكنت موسكو من دق إسفين بين حلفاء الناتو، فى المقام الأول من خلال نشر نظام الصواريخ الروسي S-400 في قلب البنية الأمنية للتحالف.

وللتقارب بداية؛ ففى صيف 2016، دفعت عدة عوامل تركيا وروسيا إلى التقارب. وبينما حسبت تركيا أن الاتفاق مع روسيا من شأنه أن يساعد في إبقاء الأكراد السوريين تحت السيطرة، رأت موسكو قيمة في توثيق العلاقات مع أنقرة أيضًا. ظلت المصلحة الأساسية للكرملين هي بقاء نظام الأسد، لكن العلاقة الوثيقة مع أنقرة سمحت لموسكو بإلحاق الضرر بالمصالح الأمريكية في المنطقة بطريقتين على الأقل. أولاً، خلق نزاع S-400 نقطة ضعف فى الجناح الجنوبى لحلف الناتو. ثانيًا، السماح لتركيا بمحاربة وحدات حماية الشعب يعنى إضعاف حليف رئيسى للولايات المتحدة في المنطقة.

حلت زيارة أردوغان فى أغسطس 2016 إلى سانت بطرسبرج الخلاف السابق بين البلدين الناجم عن إسقاط تركيا لطائرة روسية فى نوفمبر 2015. كما ناقش الرئيسان مجموعة واسعة من القضايا ذات الاهتمام المشترك، من الطاقة إلى التجارة إلى السياسة الخارجية. في ذلك الوقت، توقع عدد قليل من المحللين احتمال أن تلعب روسيا ضد تركيا ضد الغرب.

أثمرت الشراكة الجديدة أولى ثمارها بعد وقت قصير من اجتماع سانت بطرسبرج، عندما تسامح الروس مع أول توغل تركى فى الأراضى السورية. كشفت عملية “درع الفرات” عن ديناميكيات القوة الجديدة فى سوريا: كانت روسيا حريصة على قبول نشاط تركيا المتزايد مع التركيز على هدفها طويل الأجل المتمثل فى إضعاف الدولة الإسلامية ووحدات حماية الشعب والولايات المتحدة. للأسباب نفسها، حظيت عملية “غصن الزيتون” فى عفرين وعملية “نبع السلام” فى تل أبيض ورأس العين فيما بعد بموافقة ضمنية من الكرملين.

كما شكلت عملية “درع الفرات” منعطفًا رسميًا في سياسة أنقرة تجاه سوريا. ففى ديسمبر 2016، أوضح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن تركيا تتخلى عن هدفها الأولى المتمثل في الإطاحة بالأسد واختارت بدلاً من ذلك لعب دور أوسع فى الأزمة السورية من خلال إطار عملية السلام فى أستانا. عُقد هذا الحوار المنظم، كبديل لمحادثات جنيف للسلام بقيادة الولايات المتحدة، لأول مرة فى ديسمبر 2016 وكان أداة أخرى صممتها روسيا لإبعاد تركيا عن الغرب. نجحت صيغة أستانا فى اكتساب الزخم الدبلوماسى. أعطى هذا لأردوغان الشهرة الدولية التى تمتع بها لاحقًا مرارًا وتكرارًا في مناسبات متعددة بما في ذلك من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2018، خلال زيارة سبتمبر 2018 إلى برلين، وفى قمة اسطنبول في نوفمبر 2018 حول سوريا.

كانت عملية أستانا أقل فعالية فى إصلاح الوضع على الأرض فى سوريا مما كانت عليه في تمكين المواقف الجيوسياسية. جلبت الاتفاقات المتتالية بين روسيا وتركيا وإيران بعض الاستقرار في أجزاء معينة من سوريا، من خلال إنشاء مناطق خفض التصعيد بين النظام والمتمردين، على سبيل المثال. لكن هذه الصفقات قللت أيضًا من احتمالات اتباع نهج شامل لسوريا ما بعد الصراع.

الوضع الحالي في إدلب شهادة على ذلك. تم إنشاء إدلب كواحدة من أربع مناطق خفض تصعيد فى عام 2017، ولا تزال آخر معقل للمتمردين السوريين المسلحين حتى كتابة هذه السطور. بمرور الوقت، نجحت ما يقرب من اثنتى عشرة اتفاقية بين تركيا وروسيا فى استباق هجوم واسع النطاق من قبل النظام السورى على محافظة إدلب وتدفق حتمى للاجئين إلى تركيا. ومع ذلك، لم تتمكن أنقرة وموسكو من توفير مخرج من المأزق بين المتمردين وقوات الجيش الوطنى السورى، مما يوضح الطبيعة الصعبة للعلاقة التركية الروسية.

الطريق إلى إدلب

أخذت التوترات بين تركيا وروسيا منعطفاً نحو الأسوأ في أواخر عام 2019 وأوائل عام 2020، عندما أدت السياسة الخارجية الغاشمة لتركيا إلى لحظة فاصلة مع حلفاء أنقرة التقليديين. كانت ليبيا واحدة من مسارح هذه العلاقة التنافسية المتزايدة، حيث جلست تركيا وروسيا على طرفى نقيض من الصراع بين حكومة الوفاق الوطنى المعترف بها من الأمم المتحدة ومقرها طرابلس وقوات الجيش الوطنى الليبى بقيادة الجنرال خليفة حفتر. فى مقابل الدعم العسكرى التركى، وافقت حكومة الوفاق الوطنى فى طرابلس على الاعتراف بمجموعة من الحدود البحرية فى شرق البحر المتوسط ​​لصالح تركيا.

سارت التطورات على الجبهة الليبية جنبًا إلى جنب مع حالة الفوضى المتزايدة في إدلب. ابتداءً من مايو 2019، وبعد ذلك بشكل مكثف اعتبارًا من ديسمبر فصاعدًا، شن الجيس الوطنىالسورى، بدعم من روسيا، سلسلة من الهجمات لاستعادة السيطرة على المحافظة. تقدمت القوات لمحاصرة نقاط المراقبة التركية وأدت العمليات إلى تشريد أكثر من مليون شخص على طول الطريق. فى أوائل عام 2020، حشد جيش الإحتلال التركى لاستعادة أجزاء استراتيجية من الأراضي، وتحديداً على طول الطريقين السريعين M4 و M5 وعند تقاطعهما في سراقب، وهي عقدة مهمة للسيطرة على شمال سوريا.

تصاعدت التوترات فى 27 فبراير 2020، عندما شن سلاح الجو السورى، بدعم من الروس، غارة جوية أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن ثلاثة وثلاثين جنديًا تركيًا في قرية باليون. وبينما قررت أنقرة غض الطرف عن تورط موسكو، ردت على الهجوم بشن عملية “درع الربيع” لوقف تقدم الجيش الوطنى السورى على إدلب. مرة أخرى، اختتمت العملية العسكرية باتفاق بين أردوغان وبوتين. وفقدت تركيا الزخم العسكرى بالموافقة على وقف إطلاق النار لكنها تمكنت من إبقاء معظم محافظة إدلب بعيدًا عن سيطرة الجيش الوطنى السورى، ومنعت مرة أخرى النازحين داخليًا من العبور إلى الأراضي التركية والحفاظ على درجة من النفوذ فى المحادثات بشأن مستقبل سوريا.

تلتقي جميع الديناميكيات السياسية والمصالح المتنافسة فى الحرب الأهلية السورية على إدلب. هناك، لن تتخذ تركيا إجراءات للقضاء على هيئة تحرير الشام، الجماعة الإسلامية المسلحة التي تحكم المحافظة والتى تعد واحدة من آخر العقبات المتبقية أمام هدف روسيا الطويل المتمثل في إعادة توحيد سوريا تحت حكم بشار الأسد. الوضع معقد من وجهة النظر الروسية؛ فلن تدعم موسكو بدورها تقدمًا كاملاً للجيش الوطنى السورى فى إدلب لأن القيام بذلك من المحتمل أن يؤدى إلى رد عسكرى تركى لمنع التدفق الهائل للاجئين إلى تركيا. من شأن هذا التطور أن يدق إسفينًا بين الحليفين المترددين ويجبر موسكو على التخلى عن نفوذها على أنقرة التى لم تخجل من استخدامها – من خلال مهاجمة الوكلاء الأتراك فى إدلب، على سبيل المثال، ردًا على نشاط تركيا فى ليبيا وجنوب القوقاز.

بالنسبة للمراقبين أصبحت السياسة الخارجية لتركيا متغيرة بشكل متزايد في السنوات الخمس الماضية. وذلك بسبب التقارب بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، الذي تم إضفاء الطابع الرسمى عليه فى ائتلاف حاكم اعتبارًا من عام 2018 فصاعدًا، مما أدى إلى إعادة توجيه السياسة الخارجية التركية نحو المواقف الغاشمة التى تهدف إلى تغيير الوضع الإقليمى الراهن وإبراز القوة التركية بطرق جديدة فى المناطق المجاورة. لذا نجد أن أهم السمات الجديدة لسياسة تركيا الخارجية تشمل: الشروع فى التدخلات العسكرية فى الخارج، والانخراط فى الهندسة الديموجرافية والتدخل السياسى، واستخدام الوكلاء والمرتزقة والإرهابيين لتعزيز أهداف أنقرة الجيوسياسية. فى جميع هذه النواحى، وقد استخدمت تركيا سوريا كحالة اختبار وأرض تدريب.

السبب الأعمق وراء تدخلات تركيا فى شمال سوريا – القتال ضد حزب العمال الكردستانى وتفرعاته الإقليمية – ليس شيئًا جديدًا فى التاريخ التركي الحديث. لكن حجم وطموح العمليات السورية جديدان. فى حين أن خصوصيات الحرب الأهلية السورية قد أوجدت أرضًا خصبة بشكل خاص لأعداء تركيا المتصورين، إلا أن الاستراتيجيات التى استخدمتها أنقرة للرد نادرًا ما شوهدت من قبل. وشمل ذلك استكمال تحول الجيش التركى إلى قوة استكشافية، وزيادة حجم الإنتاج والمستوى التقني لصناعة الدفاع التركية، والاستثمار فى العديد من الدول العميلة على طول الحدود من أجل إعادة توطين اللاجئين السوريين. على الأرض، قد يكون استخدام الجيش الوطنى السورى كقوة بالوكالة غير فعال فى بعض الأحيان، لكن هذا النهج سمح لتركيا بالاحتفاظ بالسيطرة على المناطق التي لها مصلحة فيها. فى إدلب، مكّن وجود هيئة تحرير الشام، الصديقة لتركيا، أنقرة من الحفاظ على مستوى معين من السيطرة على المحافظة.

“الطبيعة تكره الفراغ” مرورا بأفغانستان

أثبتت الأحداث الأخيرة أن أفغانستان ليست فقط “مقبرة الإمبراطوريات” لكنها أيضا مفترق طرقهم وذلك فى ظل عصر المنافسة بين القوى الدولية والإقليمية. لقد فتح الانسحاب المتسرع للرئيس الأمريكي جو بايدن الطريق ليس فقط لعودة طالبان إلى السلطة، ولكن أمام الدول الأخرى لتأسيس نفوذها أيضًا. تركز الكثير من الاهتمام على الدور الذي يمكن أن تلعبه الصين وإيران وروسيا. ومع ذلك، سيكون أحد الأسئلة الرئيسية هو: ماذا ستفعل تركيا؟ التى لا تترك فرصة للتمدد والنفوذ.

أعلن أردوغان مؤخرًا أنه على عكس أعضاء الناتو الآخرين، ستحتفظ أنقرة بوجودها الدبلوماسى فى كابول. وتدرس أنقرة أيضًا طلبًا لتشغيل مطار كابول. فى الواقع، وافقت أنقرة بالفعل على إدارة أمن المطارات قبل الانسحاب المفاجئ للحلفاء. وكان المطار فى قلب المحادثات الأولى التى جرت بين تركيا وطالبان، قبل أربعة أيام من صعود آخر طائرة أمريكية على متنها.

وقال مسؤولون أتراك لرويترز مؤخرا: “إن أنقرة لن تدير المطار ما لم توافق طالبان على وجود قوات الأمن التركية. قد يكون من الصعب على النظام الأفغاني قبول هذا الشرط، لكن من المرجح أن يقبله. إذا حدث ذلك، فسيعتمد الطرفان على بعضهما البعض لإدارة النافذة الرئيسية للبلاد على العالم – وهى شراكة محفوفة بالمخاطر ولكنها رفيعة المستوى لأنقرة”.

يشبه المطار إصبع قدم تركيا فى مياه طالبان حيث يأمل أردوغان في توقيع اتفاقية تعاون أمنى مع طالبان على غرار الاتفاقية التى وقعت بين أنقرة وطرابلس. حين سمح هذا الاتفاق لأردوغان بوضع غرب ليبيا تحت جناحه العسكرى وأوجد مكان لجنوده من المرتزقة ودعما لاخوانه فى تنظيم الأخوان المسلمين الإرهابى، مما أدى إلى زيادة النفوذ التركى هناك بشكل كبير.

وصرح أردوغان لصحيفة ديلى صباح: “لا أستطيع أن أقول إن التوصل إلى اتفاق كهذا مع أفغانستان أمر غير وارد؛ يمكننا عقد اتفاق مماثل طالما وجدنا محاورًا.” وهو ما يعكس أن أردوغان يأمل في زيادة نفوذه فى أفغانستان حيث ترى أنقرة أن التأثير على أفغانستان عامل رئيسى فى توسعها السياسى والاقتصادى فى آسيا الوسطى.

قد يرغب أردوغان أيضًا في وقف المشكلة قبل أن تبدأ. تستضيف تركيا حاليًا 3.7 مليون لاجئ سورى. قد يؤدى عدم الاستقرار الأفغانى إلى موجة هجرة ضخمة أخرى. إن منع حدوث تسونامى بشرى آخر سيجعل حياة أردوغان أسهل ويكسبه الكثير من حسن النية فى أوروبا الغربية، الأمر الذى يخشى أيضًا تدفق جماعي آخر للاجئين. وقد صرح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مؤخرًا: “بصفتنا تركيا، قمنا بما فيه الكفاية بمسؤولياتنا الأخلاقية والإنسانية فيما يتعلق بالهجرة”. وأضاف: “إنه أمر غير وارد بالنسبة لنا أن نتحمل عبئًا إضافيًا للاجئين”.

قد يرى أردوغان نفسه أيضًا وسيطًا بين الناتو والجهات الفاعلة المتورطة حاليًا في الأزمة الأفغانية. قطر، الحليف الوثيق لأنقرة، تهدف إلى القيام بدور مماثل، كما هو الحال مع شبكة الإخوان المسلمين، التى لها علاقاتها الخاصة مع جميع الفاعلين المعنيين.

وترى تركيا أنها يمكن أن تفيد مشاركة أنقرة الولايات المتحدة؛ سيكون من الجيد أن يكون لديك حليف من الناتو على الأراضي الأفغانية يمكنه التفاوض على بعض المصالح الأمريكية – مثل إخراج المواطنين والأصدقاء والحلفاء – دون أن تضطر واشنطن إلى التعامل مباشرة مع طالبان.

من جانبها؛ فإن الصين، على سبيل المثال، من المرجح أن ترغب في تشكيل وتعميق مشاركة تركيا في أفغانستان لمصلحتها الخاصة. تهدف بكين إلى مشاركة عميقة في إعادة بناء الاقتصاد الأفغاني. هذا الهدف – على الرغم من التوترات السابقة بسبب القمع في منطقة شينجيانغ الصينية – دفع الحكومة الصينية إلى اتخاذ نهج ناعم تجاه طالبان. قد ينتهي الأمر بتركيا والصين إلى إطلاق نوع من الشراكة الذى ستستغله أنقرة كورقة ضغط على الغرب استمرارا للنهج الذى تسير عليه فى كل المناطق.

فليس هناك شك في أن طالبان ستكون شريكًا غير مناسب وغريب ظاهريا بالنسبة للغرب، وملاذًا مقلقًا للإرهاب العابر للحدود، ومنتهكًا هائلاً لحقوق الإنسان. إن تطبيع طالبان وإشراكهم لن يجلب سوى الحرج والأسى. لذلك ربما بحثت واشنطن وأوروبا عن وكيل أو شريك يتعامل نيابة عنهم وتركيا تجيد هكذا أدوار حين نجحت لبعض الوقت فى إقناع واشنطن بأنها تدافع عن المصالح الامريكية والغربية فى ليبيا بالوقوف فى وجه التمدد والأطماع الروسية.

إنزعاج الجيران

جاءت تصريحات وزير خارجية قبرص الأخيرة معبرة عن رؤية جيران تركيا فى إقليم شرق المتوسط والتى من وجهة نظر الغالبية لم تتغير بل تراوغ وتساوم على موقع ومكانة وثروات فى المنطقة؛ وذلك عندما قال نيكوس كريستودوليدس فى مقابلة مع وكالة الأسوشيتد برس AP “أن أردوغان يعمل على الترويج لإمبراطورية عثمانية جديدة فى شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط” – وأشار إلى “إن مثل هذا النهج فى الجغرافيا السياسية يمكن أن يؤثر سلبًا على الأمن الإقليمى… هذا السلوك التركى العدوانى ليس فقط فى قبرص ولكن فى سوريا والعراق وليبيا و دول عربية أخرى في المنطق”. وأضاف كريستودوليديس: “نرى عسكرة السياسة الخارجية التركية، وهذا مصدر قلق كبير لجميع دول المنطقة” .  واستدعى كريستودوليدس نموذج الإمبراطورية العثمانية، التى سيطرت على جزء كبير من جنوب شرق أوروبا وغرب آسيا وشمال إفريقيا بين القرن الرابع عشر وأوائل القرن العشرين من القسطنطينية، التى تعد الآن أكبر مدينة فى تركيا، اسطنبول. وذلك حين دخلت الإمبراطورية الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والقوى المركزية التي هُزمت، مما أدى إلى تفككها وصعود الجمهورية التركية الحديثة. كما استشهد كريستودوليدس بسياسة وزير الخارجية التركي السابق أحمد داود أوغلو المتمثلة فى {عدم وجود مشاكل مع الدول المجاورة}، والتي كانت مفهومًا رئيسيًا لحزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة أردوغان. وقال: “من صفر من المشاكل مع الجيران، انتهى بنا المطاف اليوم إلى وجود مشاكل مع تركيا مع جميع الجيران حيث لا توجد دولة واحدة ليس لديها مشاكل مع تركيا. ”

وقال كريستودوليدس إن إعلان أردوغان الأخير عن قاعدة طائرات بدون طيار في شمال قبرص الانفصالى هو مثال على سياسة تركيا العثمانية؛ والسبب الرئيسى لإنشاء قاعدة الطائرات المسيرة هذه هو السيطرة على الشرق الأوسط، للسيطرة على إسرائيل، والسيطرة على مصر. إنه ليس لقبرص، فى الواقع، لأنك لست بحاجة إلى قاعدة طائرات بدون طيار فى قبرص لكي ترى الوضع فى الجزيرة.”

وقد انتهت جولات عديدة من المحادثات فى الملف القبرصى التى توسطت فيها الأمم المتحدة بالفشل، وانتهت آخر دفعة للتوصل إلى اتفاق سلام في يوليو 2017 بحدة. وأدى هذا الاجتماع أيضًا إلى تحول من جانب تركيا والقبارصة الأتراك نحو السعي إلى اتفاق الدولتين بدلاً من السعى وراء هدفهم المعلن بإعادة توحيد البلاد كاتحاد فيدرالى يتكون من مناطق تتحدث اليونانية والتركية على النحو الذي دعا إليه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

الحكومة القبرصية من جانبها تعارض بشدة حل الدولتين لأنه سيمنح تركيا السيطرة الكاملة على ما يسمى “بدولة القبارصة الأتراك ذات السيادة ”، وهذا ليس هو الحال اليوم لأن تركيا فقط هى التي تعترف بالشمال القبرصى التركى، وليس المجتمع الدولي. ولفهم سياسة أردوغان فى قبرص، يجب أن يُنظر إليه في سياق ما تفعله القوات التركية في شمال سوريا والعراق وفى ليبيا وفي بعض الدول الأفريقية. حيث تتحرك بإيقاع ثابت لإمتلاك ما يتاح لها من أوراق تفاوض ومساومة تسمح لها دائما بالجلوس على مائدة التفاوض وتوزيع الثروات والنفوذ وإعادة صياغة المشهد الجيوسياسى وفق رؤية لا تتغير إستراتيجيا لكنها تخضع لبعض التدخلات التكتيكية التى تمكنها من إدارة الأزمات والهروب دائما للأمام من أى حصار أو عقوبات.

وأشار كريستودوليدس إن جميع دول المنطقة حددت حدودها البحرية باستثناء تركيا، مضيفًا أنها رفضت الدخول في علاقات ثنائية لتحديد حدودها مع قبرص أو الذهاب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي بهولندا.

وتراقب دول منطقة شرق المتوسط نتائج التفاهمات الروسية التركية؛ وكذلك المساومات التى يدفع بها أردوغان فى مواجهة حلفاءه الغربيين؛ وأيضا ما سوف يترتب من تغييرات على الموقف الفرنسى بعد الصدام الأخير مع واشنطن ولندن بسبب تحالف اوكوس والذي قد يدفع باريس إلى دراسة نوع من التفاهمات مع موسكو وأنقرة حول عدد من الملفات الإقليمية مثل سوريا وشرق المتوسط وليبيا.

ختاما: نحن أمام عملية تغيير جلد للسياسة الخارجية التركية تستند إلى تحديات يواجها أردوغان وحزبه الحاكم وتحالفاته داخليا؛ فأردوغان لا يسعى فعليا إلى تغيير فى رؤية ومضمون توجهاته الإستراتيجية لكنه يسعى جاهدا إلى إضافة المزيد من الأوراق والتحركات التكتيكية لتحقيق تلك الرؤية والتي قد تدفعه لإعادة فتح قنوات حوار والتخلي عن بعض الحلفاء وإعادة صياغة لمشروعات التعاون تخفيضا لحدة التوتر قبل سنة الإنتخابات الرئاسية فى 2023 والعودة ولو ظاهريا “لصفر مشاكل وخلافات” مع الجيران وذلك دون أن تتخلى أنقرة عن العديد من أوراق الضغط والمساومة التى تضمن لها استمرار بقائها في “اللعب مع الكبار” على المسرحين الدولي والإقليمي.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات