بقلم أسامة كمال، كاتب وشاعر ومحرر ثقافى حر، مصر
ذهبت إليه بعد أن وهن جسده وحمل على أكتافه سنوات وسنوات من عمر الزمن ، وركن إلى بيته مع زوجته العجوز بعد تفرق الأبناء بعيداً عنه .. بمجرد الحديث معه تدفقت الحياة إليه وعادت الدماء الشابة تجرى في قلبه ، الرجل قضى عمره كله يحاكى ويقلد اللوحات العالمية، والآن يعيش سنواته الأخيرة مع آخر لوحاته المُقلدة ، ومع أوراق الكتابة البيضاء صلته الوحيدة بالحياة بعد إصابته بالشلل الرعاش فى يده واعتزاله الرسم ، المدهش أنه يكتب بنزق واندفاع ابن العشرين ، فقلبه ما زال عفياً ، وروحه ما زالت على وهجها ..
الفنان محمد طبل مع احدى لوحاته المقلدة
ولد ” محمد طُبّل ” – بضم الطاء – عام 1931 – لأب يعمل حلاقاً ورساماً في ذات الوقت ، نذّره والده للرسم منذ طفولته . فى سن الثامنة رسم بإجادة مذهلة بالطباشير بورتريهاً شخصياً له نقلاً من المرآة الى الحائط ، وبمجرد أن رآه والده حتى نادى على الدانى والبعيد ليشهدوا على موهبة ابنه فى الرسم الذى انتقلت إليه فى دماء أبيه ، بعدها تفرغ طيلة حياته للرسم ، وعهّد اليه والده برسومات عديدة ليقلدها ويحاكيها ويرسمها بالطباشير على الجدار الأسود الذى أعدّه خصيصاً لتعليمه .. ويذكر ” رسام الظل ” أن والده أمره ذات يوم برسم لوحة تُمثل غزالاً أو وعلاً يصعد الجبل وتوعده بالعقاب إن لم ينهِ لوحته فى ليلة واحدة ، فواصل رسم اللوحة طوال الليل على الحائط وأرهقته جداً حركة وايماءات الغزال الصاعد إلى الجبل وأعاد رسمها مرات عديدة ؛ وبسبب خوفه من والده لم يترك مكانه حتى أتم لوحته وأنهاها لدرجة أنه نام واقفاً دون أن تستطع عيناه إسدال جفونها ..
ولم يلتحق ” طُبل ” بأي مدرسة نظامية، وعند أعتاب المراهقة التحق بمعهد مسائي، وتعلم فيه أصول القراءة والكتابة، حتى يُلم بتفاصيل هوايته ومهنته ، وقرأ في علم التشريح وعلم المنظور والتجسيم ، وأبعاد الظل والضوء، والعلاقة بين العنصر الأمامي والخلفي في العمل الفني، وتشكيل الألوان على البشرة ، ودرجات تأثيرها على تكوين اللوحة واحساس المتلقى بها.. ويُرجع طُبل سر تفرده بين أقرانه من مستنسخي اللوحات القديمة إلى استخدامه لنفس خامات الفنانين القديمة..
ورسم ” طُبل ” مئات اللوحات العالمية، ولم يهتم يوماً باسم الفنان أوالمدرسة الفنية التى ينتمى اليها ، بقدر ما كان يعنيه رسم نسخة طبق الأصل من اللوحة الأصلية ، ويعترف بإنتمائه فنياً وروحياً إلى مدارس الفن التشكيلي القديمة بتياراتها وتنويعاتها المختلفة من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وتأثيرية، ولم ترق له ابداً مدارس الفن الحديثة : التكعيبية أو الوحشية أو التجريدية أو السيريالية أو المستقبلية، ويرى أنها نحت بالفن بعيداً عن أهدافه وأصوله المتعارف عليها.
و حاكى ” طُبل ” لوحات مشاهير الفنانين الكبار : ليوناردو دافينشي، مايكل أنجلو ، رامبرانت ، فرانشيسكو دي جويا ، بول سيزان ، رافاييل ، وآخرين لا يعرف أسمائهم ، وباع منها ألاف اللوحات ، وكل لوحاته مُوقعة بإسم ( طُبل) والتى تعنى باللغة التركية( الأعرج) ويعود اللقب إلى جده الذي تسربت إلى قدمه إحدى عظام سمكة القرش أثناء سيره على البحر وحاول زملاؤه إخراجها بطريقة بدائية نتج عنها إصابته بالعرج ، والتصق به الاسم وبعائلته من بعده .. و” طُبل ” له لوحات عديدة من إبداعه الخاص ، مثل لوحات : غفوة ، حاملة الجرة ، عائشة ، حنان ، كفاح ، وقار ، مع الله ، الريس عمر ، وكلها لوحات استخلصها من بيئته المحيطة ، فاللوحات الأربع الأولى تخص أربع فلاحات مصريات من مدينة دكرنس بالدقهلية ، تعرف إليهن أثناء إقامته بالمدينة الصغيرة عقب حرب 1967، أما لوحة ” الريس عمر ” فهي لأحد السقائين بمدينة أبو قير بالإسكندرية ورسمها ليقبض على وجه السقاء المُعبر قبل أن يختفى مع امواج البحر ومن بيننا إلى الغياب ، أما لوحتي : مع الله ، فتعبران عن شيخ كبير، والإيمان يملأ عينيه فى الأولى ، والوقار يتجسد على ملامحه فى الثانية ، واللوحتان راجتا رواجاً هائلاً، وأعاد ” رسام الظل ” نسخهما ما يزيد عن المائة وخمسين مرة ..
ولم يكتف فنان الظل بمهنته كرسام ، وعمل ( روتشيراً) – صاحب اللمسة الأخيرة فى الصورة الفوتوغرافية سواء بتعديلها أو بتلوينها على النجاتيف أو الصورة ذاتها – مع الفنان المعروف ” شيرين شحاتة “، الرسام والمصور الخاص للملك فاروق ( 1920 – 1965 ) ، وعمل مصوراً فوتوغرافياً في عدد كبير من الاستديوهات فى كل أرجاء مصر ، وظل طيلة عمره يرسم تحت وطأة ظروف الحياة ومشاقها الصعبة ، وكان يعمل ما يقرب من ست عشرة ساعة يومياً لسد حاجاته وحاجات أسرته ، ولم ينفلت من ضيق العمل إلى رحابة الفن ، وظلت عيناه على اخلاصها لاستنساخ اللوحات وتقليدها لكنه حينما تحول من الرسم إلى الكتابة ، قرر أن يكون نسيجاً وحده ، فالشيخ الذي تحول شاعراً لا يقرأ لأحد من الشعراء حتى لا يتأثر به ويسير على طريقته ، وحتى ينسخ نسخاً شعرية أصيلة وأصلية لا تمت بصلة الى أحد ، وكأنه يطير حراً مع الشعر بعد ان ظل طيلة عمره مقلداً فى الرسم ..
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.