رسّام الظل وشاعر الضوء

08:05 صباحًا الأربعاء 3 نوفمبر 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بقلم أسامة كمال، كاتب وشاعر ومحرر ثقافى حر، مصر

أسامة كمال

ذهبت إليه بعد أن وهن جسده وحمل على أكتافه سنوات وسنوات من عمر الزمن ، وركن إلى بيته مع زوجته العجوز بعد تفرق الأبناء بعيداً عنه .. بمجرد الحديث معه تدفقت الحياة إليه وعادت الدماء الشابة تجرى في قلبه ، الرجل  قضى عمره كله يحاكى ويقلد اللوحات العالمية، والآن يعيش سنواته الأخيرة مع آخر لوحاته المُقلدة ، ومع أوراق الكتابة البيضاء صلته الوحيدة بالحياة بعد إصابته بالشلل الرعاش فى يده واعتزاله الرسم ، المدهش أنه يكتب بنزق واندفاع ابن العشرين ، فقلبه ما زال عفياً ، وروحه ما زالت على وهجها ..

الفنان محمد طبل مع احدى لوحاته المقلدة

ولد ” محمد طُبّل ” – بضم الطاء – عام 1931 –  لأب يعمل حلاقاً ورساماً في ذات الوقت ، نذّره والده للرسم منذ طفولته . فى سن الثامنة رسم بإجادة مذهلة بالطباشير بورتريهاً شخصياً له نقلاً من المرآة الى  الحائط ، وبمجرد أن رآه والده حتى نادى على الدانى والبعيد ليشهدوا على موهبة ابنه فى الرسم الذى انتقلت إليه فى دماء أبيه ، بعدها تفرغ طيلة حياته للرسم ، وعهّد اليه والده  برسومات عديدة  ليقلدها ويحاكيها ويرسمها بالطباشير على الجدار الأسود الذى أعدّه خصيصاً لتعليمه .. ويذكر ” رسام الظل  ” أن والده  أمره ذات يوم برسم لوحة تُمثل غزالاً أو وعلاً يصعد الجبل وتوعده بالعقاب إن لم ينهِ لوحته فى ليلة واحدة ، فواصل رسم اللوحة طوال الليل على الحائط  وأرهقته جداً حركة وايماءات الغزال الصاعد إلى الجبل  وأعاد رسمها مرات عديدة ؛ وبسبب خوفه من والده لم يترك مكانه حتى أتم  لوحته وأنهاها  لدرجة أنه نام واقفاً دون أن تستطع عيناه إسدال جفونها ..

ولم يلتحق ” طُبل ” بأي مدرسة نظامية، وعند أعتاب المراهقة التحق بمعهد مسائي، وتعلم فيه أصول القراءة والكتابة، حتى يُلم بتفاصيل هوايته ومهنته ، وقرأ في علم التشريح وعلم المنظور والتجسيم ، وأبعاد الظل والضوء، والعلاقة بين العنصر الأمامي والخلفي في العمل الفني، وتشكيل الألوان على البشرة ، ودرجات تأثيرها على تكوين اللوحة واحساس المتلقى بها.. ويُرجع طُبل سر تفرده بين أقرانه من مستنسخي اللوحات القديمة إلى استخدامه لنفس خامات الفنانين القديمة..

ورسم ” طُبل ” مئات اللوحات العالمية، ولم يهتم يوماً باسم الفنان أوالمدرسة الفنية التى ينتمى اليها ، بقدر ما كان يعنيه رسم نسخة طبق الأصل من اللوحة الأصلية ، ويعترف بإنتمائه فنياً وروحياً إلى مدارس الفن التشكيلي القديمة بتياراتها وتنويعاتها المختلفة من كلاسيكية ورومانسية وواقعية وتأثيرية، ولم ترق له ابداً مدارس الفن الحديثة : التكعيبية أو الوحشية أو التجريدية أو السيريالية أو المستقبلية، ويرى أنها نحت بالفن بعيداً عن أهدافه وأصوله المتعارف عليها.

و حاكى ” طُبل ”  لوحات مشاهير الفنانين الكبار : ليوناردو دافينشي، مايكل أنجلو ، رامبرانت ، فرانشيسكو دي جويا ، بول سيزان ، رافاييل ، وآخرين لا يعرف أسمائهم ، وباع منها ألاف اللوحات ، وكل لوحاته مُوقعة بإسم ( طُبل) والتى تعنى باللغة التركية( الأعرج) ويعود اللقب إلى جده الذي تسربت إلى قدمه إحدى عظام سمكة القرش أثناء سيره على البحر وحاول زملاؤه إخراجها بطريقة بدائية نتج عنها إصابته بالعرج ، والتصق به الاسم وبعائلته من بعده .. و” طُبل ”  له لوحات عديدة من إبداعه الخاص ، مثل لوحات : غفوة ، حاملة الجرة ، عائشة ، حنان ، كفاح ، وقار ، مع الله ، الريس عمر ، وكلها لوحات استخلصها من بيئته المحيطة ، فاللوحات الأربع الأولى تخص أربع فلاحات مصريات من مدينة دكرنس بالدقهلية ، تعرف إليهن أثناء إقامته بالمدينة الصغيرة عقب حرب 1967، أما لوحة ” الريس عمر ”  فهي لأحد السقائين بمدينة أبو قير بالإسكندرية  ورسمها ليقبض على وجه السقاء  المُعبر قبل أن يختفى مع امواج البحر ومن بيننا إلى الغياب ، أما لوحتي : مع الله ، فتعبران عن شيخ كبير، والإيمان يملأ عينيه فى الأولى ،  والوقار يتجسد على ملامحه فى الثانية ، واللوحتان راجتا رواجاً هائلاً، وأعاد ” رسام الظل ” نسخهما ما يزيد عن المائة وخمسين مرة ..

ولم يكتف فنان الظل بمهنته كرسام ، وعمل ( روتشيراً) – صاحب اللمسة الأخيرة فى الصورة الفوتوغرافية سواء بتعديلها أو بتلوينها على النجاتيف أو الصورة ذاتها – مع الفنان المعروف ” شيرين شحاتة  “، الرسام والمصور الخاص للملك فاروق ( 1920 – 1965 ) ، وعمل مصوراً فوتوغرافياً في عدد كبير من الاستديوهات فى كل أرجاء مصر ، وظل طيلة عمره  يرسم تحت وطأة ظروف الحياة ومشاقها الصعبة ، وكان يعمل ما يقرب من ست عشرة ساعة يومياً لسد حاجاته وحاجات أسرته ، ولم ينفلت من ضيق العمل إلى رحابة الفن ، وظلت عيناه على اخلاصها لاستنساخ اللوحات وتقليدها  لكنه حينما تحول من الرسم إلى الكتابة ، قرر أن يكون نسيجاً وحده ، فالشيخ الذي تحول شاعراً  لا يقرأ لأحد من الشعراء  حتى لا يتأثر به ويسير على طريقته ، وحتى ينسخ  نسخاً شعرية أصيلة وأصلية لا تمت بصلة الى أحد ، وكأنه يطير حراً مع الشعر بعد ان ظل طيلة عمره مقلداً فى الرسم ..

غفوة

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات