كوكب المعدية

02:07 مساءً الجمعة 5 نوفمبر 2021
أسامة كمال

أسامة كمال

كاتب وشاعر ومحرر ثقافي حر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بين بورسعيد وبورفؤاد تتوهج قناة السويس كأيقونة مقدسة متجددة مغبّشة بكل أحلام وأحزان الذين وصلوها عبر البحر الهادر من كل بقاع وجزر وشواطىء البحر الأبيض أو من تركوا نهر النيل فى سكونه وثباته وركبوا البحر مضطرين ومجبرين فى سنوات الحفر المؤلمة أو من اعتلوا أمواجه بحثاً عن حلم بات قريباً بعد خروج المدينة من أصدافها المغلقة والموصدة على سحرها إلى النور والبحر والحياة ..  برقت المدينة برقاً فى أرواح كل من وصلوها عبر البحر أو ارتحلوا اليها من جوار النهر، وسكنت فى قلوبهم منذ دق أول معول صحرائها الخلاء عام ١٨٥٩ وحتى صعود الخديوى اسماعيل وصحبه من ملوك وأباطرة الشرق والغرب أعلى يخت المحروسة وأعلى المياه المحفورة بالدم والاحلام عام ١٨٦٩ ..

القناة ليست مجرد لقاء عشق طال انتظاره بين البحرين الأبيض والأحمر وليست مجرد مفازة سحرية للعبور إلى الشمال أو الجنوب، هى أهم عملية جرت فى التاريخ  لاعادة بث الحياة فى العالم القديم وشق رئة جديدة فى جسده المتهالك واعادة ترسيم الخريطة بالاحلام من جديد ..

واستقر الوافدون من البحر والقادمون من قلب الدلتا وجنوب النيل على ضفة واحدة من ضفتى القناة وانقسموا فيها الى قسمين، أجانب وصفوة يجاورون الميناء ويعيشون تحت لمعته ومظلته وأحلام ثرائه وتجارته، ومصريون عرب يعيشون تحت سماء حيّهم المسمى باسمهم – حى العرب – ويقيمون بالأعمال الشاقة والمجهدة فى الميناء الوليد من نقل وحمل البضائع وبخاصة الفحم مصدر طاقة نقل الحياة من مكان الى مكان ونقل الحروب من استعمار قديم الى إستعمار حديث قبل الكشف والتنقيب عن ذهب العصر، الذهب الاسود (  البترول ) ودخول الفحم الى كهوف الحياة .. ولما ضاقت المدينة بالبشر قررت ادارة شركة القنال التى تدير وتدبر أمر المدينة والميناء أن تمد بصرها وأعمالها الى الضفة الاخرى فأنشات ترسانتها البحرية وعينت ما يقرب من ثمانمائة عامل وموظف لتشغيلها وإدارتها وأسست ما يقرب من ثلاثمائة فيلا لعمالها وموظفيها بطول الضفة الجديدة، ولم تكتف بما بنت وشيدت بل منحت لبعض من عمالها وموظفيها أراض للبناء بشرط أن يحافظوا على سر وسحر وطراز المكان الجديد، والتزم الحالمون بحلمهم حتى امتدت الأنوار وظلالها على سماء الضفة الثانية، وكما أسموا الضفة الاولى بورسعيد نسبة الى الخديوى سعيد، لم يكن هناك من مهرب أو مفر من تسمية الضفة الجديدة بورفؤاد نسبة الى الملك فؤاد خاصة أنه الحاكم الحالى المتوج بتاج المملكة ومن قبلها بعصا السلطنة .. ويختلف المؤرخون حول تاريخ نشأة المدينة التى تقول أوراق ميلادها الرسمية إنها خرجت من رحم بورسعيد عام ١٩٢٦ بعد أن دبت الحياة على أرضها عند اعلان الملك فؤاد تأسيسها وامتزاج اسمه باسمها وحروفه بحروفها لكن وثائق نادى ( شكاربيه ) تؤكد أنه اعتلى أرض بورفؤاد عام 1902 ، ولم يدخله سوى الأجانب الذين يديرون الميناء العالمى الجديد قبل أن يتبدل اسم النادى الى نادى بورفؤاد بعد ان دانت ضفتى القناة عند التأميم عام 1956 الى الحكومة المصرية .. ويبدو أن شمس بورفؤاد أشرقت مع بداية القرن العشرين ولم يتحقق للشروق اكتماله الا بعد ستة وعشرين عاماً حين أتى المدينة حامل اسمها ومفتاحها الملك فؤاد  ..

وبعد استقرار الضفتين كان لزاماً على الشركة أن تبث الحياة ما بين المدينتين، فصممت وشكلت ودشنت (  المعدية ) التى سرت فى القناة مثل محفة من الضوء بين البقعتين ..  معدية فرنسية حالمة تسرى على الماء كما يسرى الخيال فى الروح ، أقرب الى باخرة تبخر ببخارها وتدفع الأحلام أمامها وخلفها، لها بابان للدخول، الأول منهما أمام قسم الميناء الشهير الذى ما زال  على زمنه وحاله رغم تغير الأحوال والأزمان  .. والباب الثانى على الجهة المواجهة، فى داخل المعدية صالون مزدان بالكراسى الجلدية الفاخرة، وهناك أماكن مخصصة للدراجات وأخرى للسيارات الشحيحة جدا حينها، واستمرت المعدية الفرنساوى – كما يطلق عليها أبناء بورسعيد –  فى عملها لمدة تزيد عن خمسين عاماً منذ نشأة المدينة وحتى منتصف السبعينيات من القرن الفائت، وما ساعد على وجودها طوال تلك الفترة قلة عدد سكان بورفؤاد مقارنة ببورسعيد والتى لم يزد عدد السكان فيها الا فى تسعينيات القرن الغارب بعد إقامة عدد كبير من مشروعات الاسكان التابعة للمحافظة والهيئات المختلفة بداخلها .. وتتشابه لحظة اكتشافى للمعدّية بلحظة اكتشافى للبحر، الإثنان معادلان لمعنى الحرية والإنفلات من ضيق المكان الى رحابة العالم واتساعه..  عرفت المعدية  بعد البحر لأننى عشت طفولتى الأولى أسيراً لمباهج اللعب مع الأقران وفك أحلام وألغاز العالم المغوى حولنا ولم تتلق أُذنى أو روحى أى إشارة عن المعدّية أو حتى عن بورفؤاد  حتى سن السابعة حين ذهبت مع والدى اإلى عمله بهيئة قناة السويس الكائن بمنتصف القبة الوسطى من قباب المبنى الشهير، ومن صالة المبنى الرحيبة شاهدت المعدّية لأول مرة وسكنت عيناى ولم تغادرها حتى الآن .. سكنت بإعتلائها البحر وعبورها من مكان معلوم إلى مكان آخر مجهول ومسحور .. رأيتها بعين طفولتى جزيرة  تتوسط الماء يلفّها الغموض وتحوطها الأسرار، مثلها مثل جزر ” السندباد ” السحرية الذى كنا نتابع حلقاته البديعة مشدوهين فى الثمانينات من القرن الفائت فى تلفاز الدولة المصرية الفقير المحصور فى قناتين ليس لهما ثالث والمالك الحصرى لخيال طفولتنا البريئة ..

ما زالت رحلتى الأولى بالمعدية تحمل دفقة الاكتشاف والدهشة التى بدأت من شارع ” محمد على ” على بعد خمسمائة متر من المعدية وحتى النزول إلى ضاحية بورفؤاد والتجول فى نصفها الأوربى أو الفرنسى تحديداً المسكون بأراوح من عاشوا فيه  وغادروه الى الغياب وما زالت تفاصيلهم وحكاياتهم تومض فى المكان بوهن انسانى شجى وبليغ  ….  كل المبانى من شارع ” محمد على ” مروراً  ” بالمعدية ” وحتى النصف الأوربى من بورفؤاد تطل بحكاياتها علينا وكأنها سنابل جافة حزينة قطعوا عنها سبل الماء والنماء خاصة أن أبراجاً أخرى تحل محلها وتُخفيها تحت طبقات النسيان .. و ترتبط المعدية فى ذاكرتى بحضور الشتاء وتدفق طيور النورس بأسرابها البيضاء المتدفقة من السماء مصحوبة بقطرات المطر المتتابعة والمتلاحقة بينما أنا قابع فى المعدية كظل ضوء هارب أنتظر لقاء المطر مع النورس مع لحظة الغروب الفاتنة، ومثل صائد بهجة محترف ألقى لقيمات الخبز فى الماء لتلتم حولها أسراب النوارس بلونها الأبيض الحميم المفعم بالدهشة والأحلام وتنعكس فى عيونها صمت لحظة الغروب الأبدية وتظلل النوارس بلونها الحالم البحر والسماء وتبلل روحى بمعنى الحقيقة الكامن فى لحظة الغروب التى هى أيضا لحظة شروق فى شاطىء آخر وسطوع على حلم بعيد .. وفى طريق العودة ينتابنى الحزن لأن الشتاء أيامه قليلة ومحدودة  والغروب يأتى  وحيداً ويغادر وحيداً وجميعنا غارقون فى أعبائنا الصغيرة والكبيرة والنوارس ستغيب حتما فى شواطىء أخرى ربما تشبه مدينتى أو تختلف.. ومع آخر غروب للشتاء وتوالى الفصول من ربيع إلى صيف إلى خريف إلى شتاء تظل المعدية كوكب وحدها، تحولت من قبة أحلام تبخر بالبخار بين الضفتين وتحمل أعلاماً فرنسية ويونانية وروحاً بحر متوسطية، وتبدلت وتغيرت إلى معديات مصرية قلباً وروحاً وحياة تعلو الماء وكأنها تعلو السحاب وتمر من باب المدينة الام الى أجمل  قطعة فيها القابعة وحدها على الضفة الاخرى وتستغرق الرحلة خمس دقاىق بين المدينتين من الماء الى الماء وقبلهما خمس أخرى تحت الترقب والانتظار والتأهب ورفع الباب والانطلاق لكنها ليست دقائق من عمر الزمن بل من عمر الأرواح:  المبتهجة والمهمومة، الحالمة والحزينة، القوية والضعيفة، الواضحة والمأزومة … تحولت المعدية من قبة حالمة فى سماء السنين البعيدة الى كوكب يدور حول الشمس يلتمس العابرون فيه قبسا من الشروق ويخافون كل الخوف من غروبهم مع لحظة غروب الشمس …

الاسم: أسامة كمال محمد  أبو زيد

الاسم الأدبى: أسامة كمال

المؤهل : ليسانس آداب ـ جامعة القاهرة

النشاط الأدبى والثقافى والصحفى  

  • كاتب ومحرر ثقافي حر بجريدة الاهرام ويكلى ( 2008 – 2012 )
  • مجلة السياسي ( المصري اليوم ) ( 2012- 2013)
  • مدير تحرير موقع السلم والثعبان الثقافي ( 2013 -2014) ..
  • رئيس تحرير مجلة تنيس الأدبية ( الهيئة العامة لقصور الثقافة )  عام 2017
  • مدبر تحرير نشرة مؤتمر أدباء مصر( 2018 -2019 )
  • عضو  عامل باتحاد الكتاب المصرى( عضوية رقم 3273 )
  • عضو عامل باتحاد الكتاب العرب
  • محاضر مركزى بالهيئة العامة لقصور الثقافة
  • مقرر لجنة القصة والمقال بالمجلس الأعلى للثقافة ببورسعيد
  • عضو الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر
  • عضو عامل بنقابة الصحافة المستقلة
  • عضو عامل بنقابة الصحافة الالكترونية

الجوائز:

* الترشح لجائزة الصحافة العربية ( فئة الصحافة الثقافية ) عام 2014

* منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون ( أفاق ) عام 2012

* جائزة صندوق التنمية الثقافية المصري في شعر الفصحى  عام 2011

* جائزة العودة ( الفلسطينية ) في أدب الأطفال عام 2015

* جائزة إقليم القناة وسيناء الثقافي في الشعر عام 2002

* حائزة إقليم القناة وسيناء الثقافي في القصة القصيرة عام 2001

* جائزة مديرية ثقافة بورسعيد في القصة القصيرة لخمس سنوات متتالية 1998 : 2002

الإصدارات:

*  لك الموت يا راعى اليمامة ( قصص)- الهيئة العامة للكتاب عام 2000

* الفراشة الخضراء (  أطفال )- الهيئة العامة المصرية للكتاب عام 2006

* رائحة الغياب ( سرد أدبي ) – دار شرقيات المصرية عام 2013

* كتابة بيضاء ( ديوان شعري ) – الهيئة العامة للكتاب عام 2014

* بورسعيد شهادات في الحرب والحب  الهيئة العامة لقصر الثقافة عام 2014

* صباح جديد ( من فنون السرد ) الهيئة العامة لقصور الثقافة  عام 2017

* كل الأشياء جميلة ( أطفال ) هيئة قصور الثقافة عام 2018

تحت الطبع :

*  ضوء واهن ( قصص ) )

* وجوه العائلة ( ديوان شعري)

* فنون مصرية ( مقالات )

أعمال منشورة :

 مجلة العربي الكويتية ، جريدة الأهرام ويكلى –  جريدة الأهرام – مجلة السياسي ( مؤسسة المصري اليوم ) – مجلة الهلال –  جريدة أخبار الأدب –  مجلة الشاهد –  مجلة الدوحة – مجلة تراث الإماراتية – مجلة المجلة ( الهيئة العامة المصرية للكتاب ) –  مجلة المجلة السعودية – جريدة الحياة اللندنية – جريدة البديل – جريدة الأهرام المسائي – جريدة العرب الدولية –  جريدة الدستور الأردنية – جريدة الأحرار المصرية –  جريدة الحقائق اللندنية –  جريدة الجمهورية المصرية – جريدة صوت العروبة-  جريدة القاهرة- جريدة القدس العربي- جريدة الأهالي – جريدة اليوم السابع – جريدة  السياسي المصري  – مجلة قطر الندى للأطفال  – مجلة الثقافة الجديدة المصرية- مجلة المرجان – مجلة أصداف –  مجلة نون الأدبية – مجلة الفاتح للأطفال  – كتاب الأدباء

النشر الالكتروني:   موقع كيكا- موقع جهة الشعر- موقع قصيدة النثر المصرية- موقع القصة العربية – موقع القصة السورية – موقع دروب – موقع فوانيس – موقع محيط – موقع ديوان العرب- موقع عناوين ثقافية الكتابة الثقافى – مدينة – صدى بورسعيد

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات