إحياء طريق الكباش: تأصيل الهوية ورسائل السلام

08:50 صباحًا الأحد 28 نوفمبر 2021
خالد سليمان

خالد سليمان

كاتب وناقد، ،مراسل صحفي، (آجا)، تونس

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في حماية آمون وحراسة سخمت

” يا مقدس اليد يا آمون سيد الريشتين فلتحمى ملك مصر العليا و السفلى” .. كلمات نقشت قبل ما يقرب من أربعين قرنا على جدران المقصورة الحمراء لمعبد “الدير البحري” للملكة “حتشبسوت ” ضمن أنشودات ثلاثة صاحبت إعادة إحياء الإحتفال بعيد ” الأوبت ” الذي كان ضمن مراسم إعادة إحياء وكشف واكتشاف أحد أقدم طرق العالم إن لم يكن أقدمها ” طريق الكباش” .. حيث كانت جنبات الأوابد التي شيدها قدماء المصريين تردد رجع صدى نغمات و كلمات خالدة طالما صاحبت مواكب حكام مصر العظام لتمد مظلتها لتغطي أخرهم و هو يتقدم الموكب الاحتفالي ..

إبهار و خطة إضاءة محكمة أبرزت عظمة المكان و جلاله و روعته و منحت الحضور الطقسي الرسمي خيلاء ما بعدها خيلاء، و لم يفت صناع الحدث أن تكون كل مكونات وعناصر الشخصية المصرية حاضرة فتتسلل إليك موسيقى مصرية نوبية تحمل عبقا إفريقيا أسمر يؤكد حضور ملوك الأسرة النوبية في حضارة المصريين القدماء و جيناتهم، و أحفاد من ” الفديجكا” و ” الماتوكي .. الكنوز ” مازالوا على العهد يحمون الحمى، و حاكم اليوم الحفيد ابن الوجه البحري من الدلتا .. كان أستاذه و معلمه نوبي من مصر العليا، تحلق الدرونات و ترقب المكان وتحرسه بعين الصقر القوي الابن ” حورس” وتتجوّل في المكان عبر تواريخه .. قدماء المصريين، و الأغريق، و الرومان، و مسيحيي عصر الشهداء من أبناء العذراء و ولدها المسيح له المجد .. التي فرت بولدها بصحبة ” يوسف النجّار ” لتلوذ بمصر هاربة من بطش الرومان و كيد التّجار و الفريسيين أولاد الأفاعي  الذين دنسوا بيت الرب، مجتازة أحراش الدلتا حتى وصلت إلى صعيد مصر حيث الإباء و الشهامة و المنعة و الشّمم .. كل تلك الخواطر تغشاك و تجول بحشاك و الكاميرا تتفقّد الكنائس القديمة .. أديرة الرّهبان و بيعهم .. بيوت الله التي أسبل عليها الأمن و الستر بعد الله ( عهد الأمان العمري ) الذي حمل ختم أمير المؤمنين  ” عمر بن الخطاب ” وتوقيعه، لتستمر حضارة مصر في حقبتها الإسلامية شاهدة عليها مئذنة مسجد سيدي ” أبي الحجاج الأقصري” التّي تعلوا معبد الأقصر الشامخ كالجبل ليمتنع بيت الله من الغرق في الفيضان، و يتواصل المصري القديم مع الحقبة الإسلامية من خلال الزورق الرابع الذي أضيف لسيدي ” أبي الحجاج” مع الزوارق الثلاثة التي تتصدّر إحتفال ” عيد الأوبت “، تصدح الموسيقى و تعلو كلمات ” أنشودة إبحار الزورق ” في النهر .. يصاحبه ( مزج بالكاميرات – ديزولف ) بين ” فلايك النيل الشراعيّة الموحّدة ” و مياه النهر، و الزوارق المصرية التاريخية القديمة، و مشاهد جدارّية موحية تؤكد منزلة ” حابي – النيل – المقدس – المعبود ” في نفوس المصريين قدامى و محدثين .. و الذي تسأل ” ماعت ” آلهة العدالة عنه المصري القديم .. فيجيبها ” أنا لم ألوث ماء النهر ” فما بالكم بمن يحاول سرقة مياهه ..

رسائل ضمنية تتوالى عن حضارة مصر و تحدّياتها و نهرها الخالد .. و جميعها تؤكد تنوع الهوية المصرية و تجددها و تغير معتقدها لثلاث مرات في ديناميكية مذهلة لحضارة يصفها البعض بالإستاتيكية في حديث دار بيني و بين الصديق العزيز العلامة أد/” سامح مهران ” مؤخرا بعد العرض البديع ..

و لأنّ كل عمل إنساني مهما بلغت روعته لابد أن تشوبه هنات ما .. فقد كان لابد أن يصاحب العرض الكبير ترجمة فورية بعدة لغات ضمنها العربية و الإنجليزية .. لما كان يتم إنشاده باللغة المصرية القديمة لكي يصل ( المفهوم العميق ) لما يتضمّنه العرض و الرسائل التي حملها إلى العالم، و التي تحمل في مجملها رسائل سلام و تعاون و تآخي كما سنرى، لكنها أيضا تحمل من القوة و العظمة و الصرامة ما يحثّ العقلاء علي اتّقاء شرّ الحليم إذا غضب ..

– ” يتقدم إلهي في إبحاره آمون سيد عروش الأراضين و قلبه منشرح بما فعله من أجله سيد الأراضين ” و ربما الوجهين، فهاهو موكب الزورق يتقدّم في النهر نحو ” طيبة – الأقصر ” بالحاكم المتوج دائما   و كان آنذاك الملكة ” حتشبسوت ” مع مراعاة الرموز و قراءة ما بين السطور لرمزية عرش مصر     و من يعتليه ..

” يحيا من أجلي و يحبني أبي آمون سيد عروش الأراضين، تنتعش أنفاسي بالحياة و القوة،  فعظيمة تلك القرارات التي قدّرتها للمستقبل، و قد حظيت بالمجد الذي وهبه لي، فعظيمة مليكتي عبر الضفتين ” *الأنشودة الثانية ( تتويج حتشبسوت)، و كما ذكرنا آنفا رمزية الحاكم هنا رجلا كان أو إمرأة هي إحالة و كل من إطّلع على تاريخ الملكة ” حتشبسوت ” يعرف كيف وضعت اللحية و تشبهت بالرجال لتوحي للجميع بقوتها كما كان يتطلب السياق آنذاك ..

التصوير المتميز الذي يبرز جلال المكان و عظمته و توظيف الدرونات و خطة الإضاءة المدروسة بعناية فائقة تصاحب تقدم الموكب الذي يحفّ المراكب الثلاثة لإحتفالية عيد ” أوبت ” مدعمة بإضاءة في يد المجاميع و كأنهم يحملون مفردات نور الحضارة في تشكيلات بديعة ..

ثم ننتقل من جديد إلى رمزية جديدة في لوحة إستعراضية أسطورية ساحرة ببعدها الماورائي الذي يحمل نبوءة أو بشارة و  ربما كانت أروع لوحات العرض .. و هي لوحة الراقصات اللائي يمشين على الماء فوق البحيرة المقدسة تتوسطهن فتاة طائرة كأنها حورية و هن يعبثن بالماء ليشرق من ورائهن ضياء قرص الشمس أو القمر في مشهدية ( سينوغرافيا ) أخّاذة لتدعم و تؤكد النبوءة المستقبلية حول الدعم السماوي و إنتعاش أنفاس الحاكم بالحياة و القوة فتكون قراراته المستقبلية العظيمة ليحظى مع الوطن بالمجد و العظمة التي أكتسبها من خلال الذود عن الوطن و حمايته و رعاية أبنائه، و ناهيك عن التجهيز المتميز شديد المهارة لمسطح مسرحي معدني بعمق من 2:5 سنتيمتر من سطح المياه مرتكزا على قواعد بعمق 9 أمتار هي العمق الفعلي للبحيرة لكي تستطيع الراقصات أداء اللوحة الراقصة البديعة فوق سطح ( البحيرة المقدسة ).. لابد أن أحيلك عزيزي القارئ لدلالات يحملها الأداء و إختيار المكان، فبداية أنت ترى الفتيات يعبثن بالماء في إشارة لوفرته و تدفقه ..، و لكن أين في تلك البحيرة التي لا يتأثر منسوب المياه فيها بنقص إيراد مياه ” النيل ” أو فيضانه .. و تجدد و تطهر نفسها بنفسها منذ أنشأها أعظم ملوك الأرض الذي لم يهزم أبدا ” تحتمس الثالث ” منذ ما يربو على 3500 عام .. لتستخدم في تعميد الملوك و تطهّر الكهنة من أجل خدمة الإله و الوطن ..

– يصل الموكب من ” معبد الأقصر ” إلى ” معبد الكرنك ” عبر ( طريق الكباش ) الممتدّ لحوالي 2,7 كيلو متر مع كلمات الأنشودة الثالثة ” تحية لك يا آمون يا أزلي الأراضين، أمام الكرنك، خيام الإحتفال شيدت للحفل الذي في سفينة السفن”، تمتزج الموسيقى لتعود للأنشودة الأولى لتتكامل مع الصورة       و الإضاءة مع دخول المطرب و الراقصين من وسط الشاشة التي إنشقت لنصفين في لمسة إخراجية تعكس تواصل طريق الحضارة و إمتزاج التاريخ بالحاضر، و المتخيّل بالمعيش مع الأغنية الخالدة التي كتبها المبدع العظيم ” فتحي قورة ” صاحب ال 4000 أغنية قبل عقود لفرقة ” رضا ” ( الأقصر بلدنا ) ليمتزج الفنّ الشعبي الجديد لصعيد مصر بعبق تاريخ الأجداد و يختتم العرض الذي إحتبست من أجله أنفاس أكثر من مليار مشاهد في أربعة أركان الأرض بالألعاب النارية، و كان للعديد من المختصين على رأسهم الصديق العزيز و الكريوغرافي المتميز  و المبرز في تخصّصه  مجدي الزقازيقي ملحوظات حول الرّقصات و الأداء الحركي و الملابس و كذلك التوزيع الموسيقى تؤخذ في الإعتبار .. و تعد هنات يمكن تجاوزها أمام عرض عالمي بالغ الضخامة .. مذهل في دقّة تنفيذه خاصة أنّ ما لم نشاهده من جهد كافة الأطراف في الكواليس و ضمنها على سبيل المثال لا الحصر النظافة و الصحة    و الأمن ممّا يؤكّد أن مصر العظمى تستطيع فعل المعجزات بقدرتها الفريدة على العمل الجماعي منذ بناء الأهرام و حتى تلك اللحظات التي بعثت الأمل لبناء أهرام المستقبل بالعلم و البحث و العمل، و بعثت مصر كلّ رسائل السّلام للعالم أجمع تحرسها سخمت آلهة الحرب عند المصريين القدماء.

مخطئ من يظن أن عرض طريق الكباش مجرد عرض فني يراد منه الترويج السياحي، إنما هو عمل حافل بالرسائل و الإشارات و ربما بإنذرات لأطراف متعددة و على كافة الصعد و منها الصعيد السياسي فحواها أن مصر تستطيع و تمد يدها للجميع بالخير و السلام و ها أنتم ترون منها الجانب المشرق و قوتها الناعمة حتى اليوم فلا تجربوها في غير ذلك “

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات