جامعة هندية تحتفل بجماليات الرواية العربية

04:14 مساءً الجمعة 17 ديسمبر 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يعد قسم اللغة العربية في كلية تونشان التذكارية الحكومية أحد مراكز تعليم اللغة العربية الرائدة في ولاية كيرالا. يقدم القسم كلا من  درجتي بكالوريوس وماجستير اللغة العربية وآدابها، وهو مركز أبحاث معترف به من قبل جامعة كاليكوت، يقوم بإجراء أنشطة أكاديمية مختلفة وبرامج موجهة نحو البحث من وقت لآخر.

يحتفل القسم الآن بمرور 40 عامًا من الإبداع والتميز. يتضمن الاحتفال أربعين برنامجًا متنوعًا ، تم تنظيم ندوة دولية مع عروض لكتاب العالم وكبار الشخصيات المرموقة كجزء من الاحتفال، وتهدف هذه الندوة إلى مناقشة المجالات ذات الصلة بالأدب العربي الحديث بما في ذلك الروايات العربية ما بعد الحداثة، ومدارس الفكر المختلفة والنظريات الأدبية. وقد يساعد البرنامج في نقل تراث هذه اللغة الموقرة لعدة قرون والنهج النقدية التي طورها العرب

من برنامج المحاضرات ، نضع هنا محاضرة الروائي والشاعر والرحالة أشرف أبو اليزيد، التي ألقاها يوم الخميس 16 ديسمبر 2021.

جماليات الرواية العربية المعاصرة

بقلم أشرف أبو اليزيد، مصر

كان يمكننا، منذ مائة عام، نتحدث عن السجع  في النثر العربي باعتباره من الجماليات، يدخل في باقة العبارة الرشيقة، واللغة الشعرية، والعبارات المقفاة. لكن ما كان ممكنا قبل قرن لم يعد مباحًا أو متاحا اليوم.

فالجماليات غدت خارج اللغة، هي لا تناقضها ولا تتجاهلها، وإنما تنطلق منها لتتجاوزها، وإلا لأصبح كل أصحاب اللغة الجميلة روائيين وشعراء.  ومن هنا فإن البحث عن جماليات الرواية العربية المعاصرة تبدأ في أبنيتها السردية، المفاجئة والجديدة والفارقة.

سنرى من بين تلك الجماليات  استدعاء التاريخ على نحو مغاير، إذ يبني المؤرخ نصه على وقائع تاريخية، لا لتصبح رواية تاريخية أو تسجيلية، وإنما ليناقض ذلك التاريخ بكتابة تاريخ مواز.   وهو أمر مباح في الرواية ومحرم في نصوص السيرة الذاتية التي أكاد أزعمُ أن فنها في الأدب العربي قد ناله ظلمٌ كبير من كُتّابه، الذين خرجوا به من إطار التأريخ والتوثيق والبوح المدوَّن، إلى فضاء تجميل الذوات الكاتبة، وتحسين الصور الباهتة، بل واختراع تواريخ مزيفة تتكيء على الجهل بجذور  أصحاب هذه السير.

وما كانت الأعمال المستثناة  من تلك المساحيق المجملة  إلا ضحية ظلم آخر؛ وهو الإهمال لها أو الهجوم على أصحابها، أو النيل من قيمتها. وقد بقيت أجساد السير القليلة  المنشورة أسيرة لهذين الاتجاهين؛ رماح التزييف أو سهام الهجوم.

وقد رأينا كيف أن كبار المبدعين في الشرق، بلغتنا العربية، ينأون بأنفسهم عن المصارحة المدونة، فالمكاشفات – التي قد تهدم دولا – يمكن أن تؤسس قطيعة  بين الأفراد، وتغييبا للمصالح، فلم يقو على تدوين السيرة الذاتية إلا قليلون في تاريخنا الأدبي والفني مثل طه حسين، ولويس عوض، ومحمود بيرم التونسي، ويوسف وهبي…

وبات العثور على سيرة مجهولة لشخصية استثنائية تدون كل شاردة وواردة، يتطلب أحد أمرين؛ إما الكشف التاريخي لتلك السيرة، في صندوق كنوز، أو درج أسرار، أو العثور على روائي باحث، يمتلك شجاعة تكفيه ليكون صاحب ذلك الصندوق، مثلما يمتلك من الخيال ما يرسله لمرافقة تلك الشخصية منذ الميلاد، فيكون أقرب لها من حبل الوريد، ليتمثل شخصيتها جسدا وروحًا، بل ويتسرب إلى كوامنها لتحدثه بأسرارها، وتوسده تلافيف دماغها ليقرأ أفكارها، فلا يروي كشاهد، ولكنه ينقل لنا بلسان الشخصية ما يتخطى الأزمنة ليصل إلينا بلغة سردية شاعرة، لا تشوب بلاغتها الفصحى إلا العامية  الفصيحة.

هكذا كان لسان الحال في أحدث أعمال الروائي محمد بركة (حانة الست)، الذي قدم في هذا العمل، ليس واقعا روائيا، كتقنية ولغة وعالم معرفي. وهي العناصر التي تأخذ بنا من كون اختبار (حانة الست) عملا من أعمال السيرة الذاتية، لنكون أمام رواية أدبية راقية.

الأمر الثاني الخاص بجماليات الرواية العربية المعاصرة، يأتي كون الراوي المعاصر، سواء كان منفيا أومهاجرا، يسعى لتأكيد ذاته ووجوده من خلال استحضار هويته وإبرازها،  فمسألة الهوية لا تقدم البعد السياسي، وهو انتماء الكاتب لدولة ما، وإنما هي انحيازات ثقافية ومجتمعية، بل واقتصادية. هنا نجد الهوية في أن تكون الرواية جذورها في بيئة معينة، وأن تكون الشخصيات في عوالم زمنية بعينها. إن الطريد يستدعي مرابع طفولته، مثلما يستحضر الأحداث التي ر بها ودفعته للرحيل. كثيرٌ من الرواية العراقية والسورية تكتب ذلك المكان الذي لم تعد إليه، إلا أنه يعيش داخلها في المهجر أو المنفى.

نكاد نزعم أن تصورات الروائيين عن واقعهم تتماس مع هوياتهم. فالروائي السوري هيثم حسينـ في روايته “عشبة ضارة في الفردوس”، يقدم واقع المجتمع الكردي في سوريا التي غادرها الكاتب. ويعد استدعاء الهوية الكردية نوعا من الكشف الروائي المفاجيء حيث لا يُعرض في فضاء عام هذا الواقع بشفافية ولا يقدم بجمالية،  تجعلنا نسأل عن تلك العشبة الضارة التي سممت الحياة بين العرب والكرد. هنا تقدم الرواية سببا للقاريء كي يسعى بنفسه للحصول على زاده من التاريخ والمتابعة لحاضره والتنبؤ لمستقبله. إن تحولات الزمن لها جمالياتها حيث يتأسس الحاضر على ماض ويؤسس لمتقبل، لذلك تعد قراءة الرواية العربية استقراء لرحلة الأجيال، واستشرافا لمصير الأوطان.

 من بين الجماليات كذلك هو استحضار الفنون في حيوات الأشخاص، سواء كان الرسم، أو الموسيقى، أو المسرح، أو السينما، أو سواها. هذا الاستدعاء لتلك الفنون يقدم وجبات روائية ممتعة، ويؤصل لفكرة تزاوج الفنون والآداب، ويؤكد أن الحياة ليست نصا على الورق وحسب، وإنما هي فصول متواترة ومشاهد سينمائية أو حركات سيمفونية أو باليتة ألوان، وهذا جزء مؤسس من عمل الروائي أن يلم بعوالم الفنون، فلن يكتب عن العمارة وهو جاهل بها، ولن يذوب فيها عشقا بينما تخفى عليه جذورها.

المؤكد أن الجماليات كالسحب، تنهل من الأمطار، لتنتقل تحمها رياح التجريب من حقل إلى آخر، فتهطل هنا وتمطر هناك, حيث يمثل النص الروائي فضاء منفتحا، فيه من الواقع قدر ما به من الخيال، ويرصد الانكسارات مثلما يوثق للانتصارات، وهو ما يجعل الرواية العربية المعاصرة ابنة التجريب المختلف، وهو سر جمال نصوصها.  ولا نغفل أن الرواية المعاصرة مثلها كالشعر العربي المعاصر، يحول مبدعهما أزماته الشخصية إلى عوالم كونية، وهو ما نراه في رواية الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب.

حيث نتابع الأرجوحة التي اتخذتها الراوية في «برتقال مر»   مكاناً مراوحاً مخاتلاً تطلُّ منه لتحكي، بين هزة للخلف تطل على ماض أكثر ما فيه مؤلم، وأجمل ما فيه يكاد يغيب، وهزة للأمام، تشرف على مستقبل غامض لشخص منتظر، وكأنه آتٍ من الحكايات الخرافية، أعدت له نساء العالم تاريخاً من الوجبات على مائدة طولها ثلاثون سنة.

تمثل هذه الأرجوحة صيغة سردية جمالية بين أكثر من زمن، وتحت أكثر من سماء، في فضاء زمني قريب نسبياً من حاضرنا، وفي جغرافيا متقاربة نوعاً ما في شرقنا العربي.

في روايتها الأولى «برتقال مُر» اختارت الكاتبة اللبنانية بسمة الخطيب أن تكون ذلك الصوت الذي يدوِّن للمرة الأخيرة أسراراً محاها الزمن، بعدما نهشتها الحروب، وليس أكثر ألماً من أسرار نساء يعانين، تجسدهن بطلة العمل/ الراوية التي تقترب من تمام عقدها الثالث. كلّ الأسرار الكاشفة تدور في فلك الطعام، داخل المطبخ وخارجه، وتربط بين النساء حيناً، وبينهن والرجل أحياناً ، بل وبين الشعوب كذلك: «عاش الفلسطينيون معنا دهراً، لكن ملوخيتهم لم تدخل بيوتنا، بل بقينا نسمّيها «سايطة»، ولم نستعذب «المسخن» بحجة أنه يهدر مؤونتنا من السمّاق! ساكناهم وصاهرناهم، لكنّ الطبخ شيء آخر. ليس الأمر تعالياً أو عنصرية، بل لعلّه مسألة توقيت. لقد ساكنونا أواسط القرن العشرين، وذاك زمن تكاسلنا عن الاجتهاد والتطوير. ربما دخلت النكسات والهزائم إلى المطابخ، وجعلت التفنن في الطبخ رفاهية لا تجرؤ النسوة عليها. وأكيد أنّ الحرب قتلت شهيّة الابتكار وسنّة التجديد، فحاول المهاجرون منا موازنة المسألة، واهتموا في مهاجرهم بطبخات الوطن المحترق».

وفي المقابل، تهجو الكاتبة على لسان بطلتها كل الوجبات المصنعة، وكل نفايات مطبخ العولمة، وتستهين بأية وجبة لا تخرج من المطبخ التقليدي: «البيتزا منقوشة بجبنة، بس زايدين عليها زيتون وبندورة وخضرة، والهمبرغر سندويشة لحمة مدورة، هاي كل القصة… لا اختراع ولا شيء». أمّا المرتديلا فمجرد «جلاغيم اللحم والجلود والشحوم… زبالة الحيوانات»، وهو ما كانت تقوله لنساء الحي حين كنّ يطلبن منها علب مرتديلا من مصنع للمعلبات كانت تعمل فيه قرب مدينة صيدا.

تبْرَع بسمة الخطيب، على لسان راويتها، في استجلاب الوصفات السرية للأكلات المندثرة، أو تكاد، وكأنها تكتب موسوعة حنين لتاريخ طاب فيه الطعام، فطابت به الحياة. ولكنها تُبدع – كذلك – في ابتكار وصفات أخرى للبشر، باستخدام مؤونة الطعام في المطابخ. نقرأ ، مثلاً، كيف تصف عامل صيانة جهاز التكييف بأنه هزيل “أشبه بعرق نعناع أخضر في كوب شاي ساخن”.

عاشت القروية الشابة سنوات طوالاً بندوب ظاهرة وخفية، لجروح ماضية وآنية، اسمها المجهَّل أصبح يخص كل النساء، وبيتها المجهول أصبح يشير لكل القرى، ووجعها الخفي أصبح رمزاً لدروب آلام البشر، وأملها الوحيد الذي تستعد له أصبح أمل القاريء في مُخلص يدرك أن حضوره قد ينقذ الراوية وعالمها في آن.

ها هي تستعد له، حتى تتوه عن بيتها الجديد، وفي قلب التيه تحكي عنه، بكثير من الحب والنقد، وفي غمرة الاعتقاد بأنه رحل، وأنها غسلت بالمطر الذي هطل فجأة ذكراه، تعود ليلتقيا عند العتبة، ويناديها باسمها الذي نقرأه للمرة الأولى في الرواية، فيظهر بآخر كلماتها، وكأنها عثرت على هويتها حين نطقه.

الرواية العربية المعاصرة ظلت زمنا أسيرة لهزيمة 1967، لتدرك أن البقاء أسيرة لهذا التاريخ هو الأسوأ من الهزيمة ذاتها، لذا أنشأت عالمها الجديد، بالأسطورة، والعلم والمعرفة، كل على قدم سواء، دون التقيد بالنظريات الحديثة، التي يطبقها نقاد الغرب على المنتج الغربي، ومن هنا تأتي الجماليات العربية، بتاريخها العربي، وفضائها العربي، لتستقطب جماليات عربية، في الكتابة، وتستحث جماليات مماثلة في النقد.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات