عالم فريدا كالو: سينما الأقنعة فى الفن التشكيلى

06:07 مساءً الجمعة 21 ديسمبر 2012
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

سلمى حايك في دور فريدا

تعالوا نتفق على تسميتها “افلام الأقنعة”..

حيث المطلوب من الممثل، والمخرج، والماكير أن يجعلوا ملامح الشخصية من الخارج تشبه إلى حد كبير، أو لدرجة التطابق، الشخصية المشهورة التى يقدم الفيلم بعضاً، أو بعضاً من كل، عن سيرتها الحياتية، وهذا النوع من الأفلام صار محبباً للغاية لدى المشاهدين بما يعنى أنه عمل “حقيقى” ملىء بالصدق، كما أنه يمس إحدى الشخصيات القريبة وجدانياً من الناس فى مجالات الابداع، أو فى الحياة العامة، خاصة الفنانين بكافة أشكالهم.

ولا شك أن الشخصيات التى شغفت بها السينما، من الفنانين التشكيليين، قد عاشوا حيوات مليئة بالجدل، والصخب، ممزوجة بالمآسى، والفشل، والنجاح، وأن أغلب الشخصيات الموجودة فى هذه القصص كانت، وربما لا تزال، موجودة حولنا، وأنها شاركت فى نسج قصة حياة الفنان، خاصة أن العالم الخاص للفنانين التشكيليين ملىء بالغموض، والسحر، والابداع، وأنه فى عالم اللوحات توجد وراء كل لوحة شاهدها الناس توجد قصة تصلح أن تكون فيلماً، أو أن تكون جزءاً من الفيلم ولذا، فإن هناك ثلاث حالات من المشاهدة للقصص التى تعبر عن سير خاصة للفنان بشكل عام، والفنان التشكيلى بشكل خاص.

إما أن المشاهد لا يعرف شيئاً بالمرة عن الشخصية التى يراها فى قصة الفيلم، فتبدو له مدهشة، ويحاول أن يتعرف على المزيد من التفاصيل حول الحياة الخاصة للفنان، من خلال القراءة عنه.

أو أن المشاهد يكون على معرفة ما، وثيقة، أو غير ذلك، بالفنان، وأن يتابع سيرته، ويعرف لوحاته، وهذا العدد من المشاهدين قليل للغاية قياساً إلى ملايين المشاهدين، فيبدو كأنه يتابع ما يعرفه، وهو يمر فى أغلب الأحيان بحالة مقارنة بين القناع الذى يرتديه الممثل، وبين الوجه الحقيقى للفنان، حيث أنه فى حالة فيلم “فريدا” من اخراج جولى تيمور حول سيرة حياة فريدا كالو يعرف تماماً أن الممثلة سلمى حايك تنتمى إلى الثقافة نفسها للفنانة، وأنها أقرب فى الشكل إليها، والمشاهد هنا مقتنع تماماً أنه يشاهد “كالو” بقناع سلمى حايك، والفنان دييجو ريفيراب وجه الممثل انطونى موليود وهكذا بقية الشخصيات.

أو أن المشاهد قد يكون غير مهتما بالمرة بالشخصية، ولن تثير لديه أى فضول معرفى وهذا النوع من المشاهد لا يهمنا كثيراً.

فريدا كالو أمام بيتها الأزرق

فى عالم الفن التشكيلى، فإن ليس كل من قدمت حولهم سير خاصة، تمتعوا بنجومية كبيرة، ولكن أغلب الفنانين التشكيليين الذين قدمت سيرهم الخاصة فى أفلام سينمائية، حظت أسمائهم وأعمالهم بشهرة مميزة، وارتفعت قيمة أعمالهم الفنية عبر التاريخ، وقد تباينت الأسماء، حيث أن نجوم الفن التشكيلى الكلاسيكى أثاروا قريحة الناس شاهدنا قصصهم على الشاشة، مثل جويا، ورمبرانت، ومايكل انجلو، ثم حظا فنانو القرن التاسع عشر باهتمام ملحوظ، وعلى رأسهم فان جوخ، وجوجان، ثم تعددت الأفلام التى حكت لنا عن بيكاسو، وموديليانى، وايضا الفنان فريدا كالو “1907 – 1954”.

سوف نكون أقرب إلى النوع الأول من المشاهدين، الذين لا يعرفون شيئاً عن الفنانة، ولا عن سيرة حياتها، فيشاهدون الفيلم الذى تم انتاجه عام 2002، أى بعد رحيل الفنانة بـ 58 عاماً، والفيلم مستوحى من كتاب حول سيرة حياة الفنانة كتبه هايدن هيريرا عام 1984، وهو انتاج أمريكى، اشترك فى كتابة النص السينمائى “السيناريو” أربعة من التكاب المذكور المعنون “سيرة فريدا كالو”، هؤلاء الأربعة هم كلانسى سيجال، وديان بحيرة، وجريجورى نافا، وآنا توماس، ولاشك أن آلية تعامل أربعة كتاب سيناريو مع كتاب كمصدر تختلف من فيلم لآخر، لكن لا شك أنهم قد رأروا آمالهم شخصية درامية عاشت حياة غريبة، ليس فقط كفنانة، ولكن كإنسانة تألق نشاطها فى النص الثانى من القرن العشرين.

الكتاب المذكور يقدم سيرة عن حياة فريدا، بداياتها ومولدها، كما سنتعرف فيما بعد، لكن الفيلم يبدأ مباشرة عام 1925، يوم أن سقطت حافلة قوية على الطريق بالسيارة التى كانت تقلها فتاة فى الثامنة عشر من العمر.. لم تكن فريدا قد تشكلت كفنانة، وصارت أقرب إلى النضج وهى فى مقتبل حياتها، هذا الحادث كما يروى الفيلم، قد غير مسار حياتها تماماً، وقد جسدت المكسيكية سلمى حايك الشخصية حيث نراها تعانى من الحادث بدرجات متفاوتة، ابتداء من حدوثه، ولمرحلة متقدمة من حياتها، ويرى الفيلم، أنه لولا الحادث، ما تم اكتشاف موهبتها كفنانة، حيث أن أسرتها تجلب لها كل ما يلزم لرسم لوحات، كى تقضى وقت النقاهة، حيث أن المشهد يبدأ من خلال لوحة، ثم يبدأ فى التلاشى ببطء ملحوظ.

فريدا وريبيرا: علاقة جدلية

ثم يدخل بنا الفيلم إلى علاقة غير سوية بين الفتاة النحيلة المصابة، مع فنان بدين بشكل ملحوظ يجمع بين الغلظة والرقة، وهو أيضاً معروف فى تاريخ الفن التشكيلى يسمى ريفيرا دييجو، وهو مشهور بجدارياته، ونحن أمام فنانة واثقة فى نفسها رغم اصابتها، وفى فنها، وعليه تتشكل علاقتها بالفنان البدين، تقول له فى مرحلة من علاقتهما، إنها تتوقع منه الولاء ان لم يكن الاخلاص، ولا شك أن هذه العلاقة الثنائية أعطتها المزيد من الثقة فى نفسها، وفى فنها، فالفارق فى العمر بين الاثنين ليس قليلاً، لذا فإن وقوفه بجانبه، وزواجه منها، يقللان من فترة العلاج، والنقاهة.

انه ثنائى متحاب، لكنه ليس مخلصاً، ذلك الاخلاص الذى بدا أنهما لم يتوافقا عليه، فهو رجل لحمى بطبيعته، متعدد فى علاقاته النسائية، فى الوقت الذى يكشف الفيلم عن علاقات مثلية تربط بين الفنانة ونساء أخريات، اما كتصرف طبيعى رداً على خيانة الزواج، أو أنه ميل ذاتى للفنانة التى تعيش مثل هذه الظروف، بالإضافة إلى أنها أيضاً تخون زوجها إذا أتيح لها ذلك.

وقد ركز الفيلم على هذا الجزء من سيرة حياة فريدا كالو.. فالزوجان يسافران إلى مدينة نيويورك، حيث سوف يعرف ريفيرا جداريته الشهيرة “رجل فى مفترق الطريق” فى مركز روكفلر، وفى أثناء هذه الرحلة، تضطر المرأة الأولى إلى الاجهاض، بينما تموت أمها أثناء غيابها.

وفى رأيى أننا أمام فيلم عن ريفيرا وزوجته كالو، أكثر من أننا أمام فيلم عن الفنانة وحدها كما يعلن بذلك عنوان الفيلم، ففى الولايات المتحدة، يعانى الفنان من مشكلات ترتبط بأيديولوجيته كشيوعى، فى مواجهة الرأسمالى نيلسون روكفلر، ويجد نفسه مضطراً لعودة إلى المكسيك. ويتابع الفيلم رحلة الفنان السياسية تساعده فى مواقفه زوجته التى تكتشف أن زوجها على علاقة عاطفية مع أختها كرستينا، ويكون مصير ذلك هو الاقبال على الكحول بشكل صار ادماناً.

فيما بعد تتحسن العلاقة بين الزوجين، عندما تتوطد علاقتهما بالزعيم الشيوعى ليون تروتسكى الذى حصل على حق اللجوء السياسى فى المكسيك، هذه الشخصية جسدها ممثل بريطانى بالغ الأهمية هوجيوفرى رش، ويمعن الفيلم فى وصف علاقات غير مألوفة، حيث يشير إلى أن علاقة بين تروتسكى وامرأته الشبقة، وعندما تعود زوجته من رحلة إلى باريس، يموت تروتسكى مقتولاً، وتذهب الشبهات نحو الزوج.

السينما الأمريكية، لم تشأ أن تقدم فيلما بمثابة سيرة حياتية عن الفنانة التشكيلية بقدر ما حاولت أن تقدم فيلماً سياسياً، تدين فيه الشيوعين من جديد، وتصف المنتمين إليها على أنهم يتصرفون بكل هذا التناقض الانسانى، من خيانة متبادلة بين الزوجين، وعلاقات غير مشروعة، أكثر من الاهتمام بالجانب الخاص بكالو كفنانة ذات سمات فنية متميزة، وإن كان الفيلم قد توقف عند رسم بعض اللوحات الشهيرة فى حياة الفنانة، خاصة صورتها الخاصة الأقرب إلى البورتريه.

من لوحات فريدا

لا شك أن المتفرج الذى لم يكن على معرفة باسم فريدا كالو، ومكانتها كفنانة، عندما يشاهد مثل هذا الفيلم، فإنه سوف يندفع، من أجل اشباع فضوله للتعرف على المزيد من حياة كالو، حيث انتهت أحداث الفيلم برحيل الفنانة، والتركيز على معرضها الكبير الذى أقيم فى المكسيك، وقد رأينا إلى أى حد كانت العلاقة متشابكة بين الزوج وامرأته، فهما ينفصلان بالطلاق، وفى مرحلة لاحقة من العمر يعاودون الارتباط من جديد بينما تنهار صحتها، لدرجة ان الاطباء يقومون بقطع ساقها.

وبالبحث عن سيرة حياة فريدا كالو، فإن هناك تناقضا بين تواريخ ميلاد الفنانة، حيث تشير بعض المصادر إلى أنها ولدت عام 1907، ثم هناك مصادر تشير إلى عام 1910، والأول هو التاريخ الصحيح، بما يعنى أن الفنانة ماتت عام 1954 عن عمر يناهز السابعة والاربعين، فهى مولودة فى نيو مكسيكو، لأب مهاجر يهودى ألمانى أما الام فهى مكسيكية، والذى رواه المؤلف فى كتابه عنها، أنها أصيبت بشلل أطفال فى قدمها اليمنى وهى فى سن السادسة، ولا شك أن الحادث الذى بدأ به الفيلم قد أعطى اثرا قويا باعتبار أن الاصابة جاءتها فى القدم المصابة، وقد ترك الشلل لدى الفتاة أثراً نفسياً بالغ السوء لفترة طويلة من حياتها، حيث أشار الكتاب ان فريدا تبعا لاصابتها لم ترتد الفساتين طوال حياتها اسوة بمن حولها من البنات خاصة أختها كرستينا فقد كانت ترتدى الجوارب الصوفية فى شهور الصيف من أجل اخفاء اعاقتها.

فى عام 1925، تعرضت لحادث حافلة كانت تقلها إلى منزلها، وتجسدت مأساة حياتها أكثر، حيث اضطرت للتمدد فوق ظهرها دون حركة طوال عام بأكمله، بعد أن كسر العمود الفقرى، والترقوة والحوض، وتم خلع قدمها اليمنى، وهنا بدأت رحلتها مع الفن، حسبما صور لنا الفيلم، وجدت نفسها أمام مرآة لا ترى فيها سوى وجهها، فطلبت ريشة وألوانا، وأوراقاً لترسم، وبدأت برسم نفسها كما تراها، فوق هذا الفراش ولدت فنانة موهوبة.

فى هذه اللوحات التى رسمتها فريدا، بدا الألم فى مرآة خاصة، ينعكس على وجه فريدا الاخرى الموجودة فى اللوحة، وجه مستطيل، ورقبة طويلة، لا تعرف الشفاه اى طريق للابتسام، أو الفرحة، كما أنه وجه يخلو من الجمال.. ولعل هذا الصدق فى التعبير عم يجول بداخل الفنان من مشاعر قد وجد هوى لدى الفنانين التشكيليين فى تلك السنوات التى امتلأت بالتجريب، والمحاولات ويشير المؤلف فى كتابه أن لوحات فريدا كالو كانت أقرب إلى الواقعية، سهلة الفهم تجمع بين التوثيق، والتقرير، يمكن للمشاهد البسيط أن يستوعبها بسهولة.

توقف الفيلم، عند الاشخاص الذين مروا بها، ابتداء بزوجها ريفيرا، وايضا تروتسكى وزوجته وقد عانت الفنانة من الأمراض، والازدواجية الجنسية فى حياتها، وان كان الفيلم قد أعطى تفاصيل أكثر فى هذه الناحية، وفى أواخر حياتها، أصابها التهاب رئوى، وقيل ان وفاتها كانت بسبب تناول جرعة مفرطة غير مقصودة، وقد تم ذلك بعد أن تم بتر رجلها اليمنى حتى الركبة، وذلك بسبب الغانغرينة.. وتجمعت اسباب صحية اخرى منها الالتهاب الرئوى.

حياة مثل هذه المرأة الفنانة تناسب عمل اكثر من سيرة ذاتية، ويمكنها أن تصنع فيلما حصل على العديد من الجوائز، فى محافل سينمائية عديدة خاصة الممثلة سلمى حايك.

وقد كانت هذه المرأة زخراً فى حياة زوجها الفنان المشهور الذى علمها أيضاً فى بداية حياتها كيف ترسم لوحة عظيمة، وهو الذى كان يكبرها باثنين وعشرين عاما، وهو الذى كتب فى سيرته الذاتية: “ان اليوم الذى ماتت فيه فريدا كان أكثر الأيام مأساوية فى حياتى، لقد اكتشفت مؤخراً ان الجزء الافضل من حياتى كان حبى لها.

هذه المرأة التى لم تكن جميلة، خلبت لب فنان من طراز دييجو ريفيرا، وسياسى مثل تروتسكى رغم قدمها الملحوظ، والحاجبين الكثيفين كأنهما شارب ثقيل فوق عينيها، فهى امرأة عرفت الحوادث المؤلمة، وأجرى لجسدها العديد من العمليات، ورشق فى عظامها الكثير من المسامير، وارتدت المشدات من أجل اصلاح ظهرها.وعليه فقد قضت تسعة أشهر عام 1950 فى المستشفى، ورغم ذلك فقد كانت امرأة ذات ارادة حديدية، حيث اصرت على حضور افتتاح معرضها الاول عام 1953، فذهبت إلى هناك فى سيارة اسعاف، وراحت تتحدث إلى الجمهور.

لم يتوقف الفيلم بالطبع عند مرحلة ما بعد وفاة الفنانة، حيث أن البيت الأزرق الذى عاشت ودفنت فيه، صار مزاراً فنياً، وتنامت شهرة الفنانة عالمياً، لدرجة ان صار بيتها متحفاً عالمياً، وقد أثارت هذه الحياة الكاتب هايدن هيريرا لينشر تابه الضخم عنها عام 1983.

والغريب أن السيرة الذاتية للفنانة أشارت أن هذه المرأة الدميمة المليئة بالأوجاع، قد أقامت علاقات مثلية، مع نساء شهيرات عرفن بجمالهن الخارق، مثل الممثلة دو لوريس ديل ريو، وايضا مع زوجة الشاعر السريالى اندريه بريتون، ومع الممثلة الجميلة بوليت جودار التى كانت زوجة لتشارلى تشابلن فى تلك الحقبة.

الأفلام لا تفسر اللوحات، بل تحكى الحكايات، اما النقاد، فهم الذين يتحدثون عن اتجاه الفنانة ومدرستها، فقد أضافوا فريدا كالو الى السرياليين، الا انها اكدت انها كانت ترسم، مجرد “ترسم” لقد وضعت على القماش كل ما يدور بخاطرى.. كما أن الفيلم لم يتوقف عند محاولة فريدا التشبه بالرجال، والحرص على ارتداء زى يوحى انها رجل، انها كانت تتمتع بشعر طويل يوحى بالبدائية، كما أن الفيلم لم يتوقف عند الرغبة الشديدة لدى كالو فى انجاب طفل خاصة انه تم اجهاضها عام 1934.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات