(حِرباء وتفاحة ومِرْقاق) قصة قصيرة

08:31 مساءً الثلاثاء 28 ديسمبر 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية وكاتبة وأكاديمية، لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

انطلق طلاب صفِّ الأول متوسط من صفوفِهم الكثيرة كبركان قذف حممه. جموع بشرية تُعدُّ بالمئات وأصوات تُطلِقُ هديرًا كهدير الطّائرات.  

مشت الأمُّ المُستدعاةُ يلاصق كتفُها الجدارَ، تفتِّش بنظراتها عن لوحة النِّظَارة، ولم تنجُ من تعليقات صبيانية وأسئلة عما تريد أو عمَّن تريد لم تجبْ عن واحد منها.

   تذكرت هروبها من تدريس أحد صفوف الصّبية في المرحلة الإعدادية السّنة الماضية بعد شهر واحد قضَتْه في محاولة ضَبْط صفٍّ فاشلة، نجَتْ منها كمَن ينجو بنفسه من جَهَنَّم وسوء المصير.

والآن، وفي هذه اللّحظات بالذّات، تعود  فتشكر الله من جديد- وكما في كلّ مرة  تتذكر فيها “حادث التَّدريس”- على نجاتها.

-أريد، من فضلكِ، مقابلة معلمة  الفرنسي من أجل ابني.

   قالت هذا وهي واقفة أمام النَّاظرة ذات الشَّعْر الأشقر النَّاعم القصير، والجالسة أمام مدفأة المازوت تلفّ ساقًا فوق ساق، وتضع راحتيها مفتوحتين تكادان تلاصقان حديد المدفأة رغم جوَّ الغرفة خانق.

   تأملت النَّاظرة الأربعينية السَّيدة بنظرة شاملة متفحصة سريعة، ثم سألت:

-أنتِ أم الطَّالب…

-نعم.

-ابنكِ مهذب، ولكن لديه استعداد لأنْ يكون غير مهذب.

قالت الأم:

-مثلما كل الصّبيان في مثل عمره.

-معلمة الفرنسي تشكو منه وتقول عنه “إنَّه ثرثار”.

-نعم! وقد طلبَتْ منه أن يكتب قِصاصًا درس الفرنسي مائة مرة ولم يكن لديه الوقت الكافي بسبب امتحان التَّاريخ اليوم.

   قالت الأم هذا، وسكتت عن السّبب الثّاني، وهو اجتياح رفاقه البيتَ مساء؛ لأنها تؤمن أن جماعة الأتراب تساعد المراهق على النّمو الاجتماعي وتهيئ له الجو الملائم ليتدرب على الحوار الاجتماعي، ولينمي علاقاته الاجتماعية ومهاراته كما يقول علماء التّربية النّفس الّذين ما زالت تحتفظ بكتب الجامعة على أرفف مكتباتها وترجع إليها كلما صادفتها مشكلة تربوية.

ثم عادت لتخاطب نفسها:

“ليتدرب على الحوار الاجتماعي، لا على الثَّرثرة … على كل حال، يجب أن أتلمّس المشكلة من كلّ وجوهها”.

النَّاظرة النّحيلةُ ذات الشَّعْر القصير الأشقر والمتدثّرة بمعطف قديم بنيّ من الفرو الاصطناعي، قدَّمت للسَّيدة كرسيًّا:

-تفضلي اجلسي!

   وألحّت، داعمةً إلحاحَها بمنطق لا يُرفَض:

-خرج الطّلَّاب في هذه اللّحظة إلى الباحة، ومعلمة الفرنسي تأتي بعد الفرصة، وحين تصل سوف أستدعيها. تفضلي بالجلوس، فأنا أصْنع القهوة، وقد تكون قهوة اليوم آخر قهوة نشربها قبل رمضان الآتي غدًا كما يتوقعون.

   جلسَت الأم شاكرة لطف الأستاذة، ناظرة  إلى ساعتها الَّتي يمر وقتها سارقًا أثمن اللّحظات المقتطعة من تبييض محاضرتها الَّتي ستلقيها مساء في المجمع النّسائي الخاص بأهل قريتِها، والَّتي تتحدث فيها عن كيفية تطوير المجتمع القروي النّسائي، وقد اختارت موضوعًا مهمًّا عن: (كيف نتخلص من الشّعوذة).

   وقطع أفكارَها صوت النَّاظرة تحرِّك بالملعقة ذات اليد الطَّويلة البن في الرّكوة وتعلن:

-الأولاد في هذا السِّن متعِبون!

   كان الوقت بحاجة إلى ملء بحديث ما ريثما تأتي معلمة الفرنسي. والنَّاظرة- كما يبدو- اجتماعية وطيبة.

وضعت الأم حقيبةَ يدِها على كرسيٍّ مجاور، وعلَّقت:

-للزِّيادة السَّريعة في نمو الأولاد في هذا السِّن تأثير كبير في سلوك الأولاد اجتماعيًّا وعقليًّا ومدرسيًّا أيضًا.

-صحيح!

طبعًا أنا أقدّر جدًّا شعور الأولاد بذاتهم وحساسيتهم لها وسرعة تقلبهم الانفعالي النَّاتج عن التَّغيرات البيولوجية المرتبطة بالنّضج الجنسي، أو إلى الخلْط الّذي يتعرض له المراهق فيما يتعلق بهويته، هل هو طفل أم راشد…

-صحيح!

-وأعتقد أن الأساتذة يعاملون الأولاد كراشدين.

-صحيح!

   وحرّكَت القهوة، ثم نظرت إلى الأم الَّتي تابعت:

-أنا، في البيت، أقدّر أن ابني  يشعر أحيانًا بنقص في الثِّقة بنفسه ناتج عن أننا، كأسرة، نتوقع منه القيام ببعض المسؤوليات الَّتي لا تتناسب وقدراتِه ومستوى نموِّه، كوننا لم نعد ننظر إليه كطفل كما في السَّابق. وهذا ما يجعله، كما بقية مَن في عمره طبعًا، يلجأ إلى إخفاء هذا القُصور أو النَّقص إلى الصَّخب والصِّياح، وهي مرحلة مؤقَّتة لها حلولها.

وبنظرةٍ فاحصة سريعة، خمّنَت النَّاظرة أنَّها أمام متخصصة في علم النّفس أو علم الاجتماع، أو… لكنَّها لم تشأ أن تدخل في متاهات هذا العلم الّذي لا تعرف عنه إلّا اسمه، فعلَّقت:

-صحيح! تفضلي اشربي القهوة. 

   وشربت الأم الرَّشفة الأولى:

-على كل حال، يا أستاذة، يمكننا أن نحتوي أولادنا إذا قرأنا اتِّجاهات  نموِّهم عند علماء متخصصين كأريكسون وبياجيه وبرونر وغيرهم.

-صحيح! هل تريدين سكرًا؟

-لا؛ إذ أرى أنَّ القهوة تفقِد نكهتها المميَّزة عندما نضيف إليها السُّكّر.

   واشتعل الاهتمام في عيني النَّاظرة فجأة:

-يبدو أنَّك تشربين الكثير منها.

-نعم … نعم … إنَّها تعني لي الصَّحْو و…

-وماذا عن التَّبصير؟

   سألَت النَّاظرة بصوت أشبه بمواء قطة، فابتلعَت الأم ما في حلقها من قهوة ساخنة سعَلَت في إثْرِها:

-التَّبصير؟

-يبدو أنَّك تبصّرين بشكل جيد.

-أنا؟

   ضحكَت الأم وهي تحاول أن تجد في شكلِها شيئًا يدل على أنَّها تمارس التَّبصير، وفسَّرت النَّاظرة الضّحكة وهي تشربُ بقية فِنْجانها بسرعة وتقلِبه على طرف الصَّحْن:

-بلى! بلى!

-يا أستاذة، يا أستاذة، أنا..

   قاطعتها النَّاظرة:

-معنا عشر دقائق.

   وقدَّمَت إليها الفِنْجان. أرادت السَّيدة أن … آه … لا … لا مجال للاعتراض؛ لذا

قربَت الفِنْجان إلى عينيها.

وبدَتْ أشبه بطفل طُلِب منه أن يقرأ صفحة كاملة وهو لا يعرف حرفًا واحدًا من الأبجدية.

  “كيف تُقرأُ الفَنَاجين يا تُرى؟

    لو يدخل أحد الأساتذة!

    لو تبكّر معلمة الفرنسي في القدوم!

   تبييض المحاضرة مؤجَّلٌ، وأنا هنا أبصِّر، أقرأُ الفِنْجان، وأصبِحُ قارئة فِنْجان”.

   تأمَّلَت الخطوط السَّوداء والبَيْضاء، والفُسُحات السَّوداء والبَيْضاء، وزفرَتْ:

“يجب أن آخذَ وقتي، فإن انتهيْتُ بسرعة، ربما مدَّتْ لي كفّها فأصبح قارئة كفٍّ! يا إلهي! ما أجملَ أن أصبحَ قارئة فِنْجان وقارئةَ كَفٍّ”!

وغزاها الرّعب:

“وماذا لو دخل أحدٌ ما إلى الغرفة  ورآني حاملة  فِنْجان  القهوة  أقرؤه؟”.

 وسمعَتْ بالفعلِ أصوات  أقدام تقترب، فسارعَتْ إلى وضع الفِنْجان على الطّاولة لئلَّا تُمسَك بالجرم المشهود. لكنّ وقْعَ الأقدامِ ابتعدَ، فحملت الفِنْجان مدعّمًا بنظرة استجْداء منتظِرة.

   عبثًا حاولَت القراءة.

كأنَّها تقف أمام لغة سنسكريتية أو كتابة مسجودية أو هيروغليفية أو فينيقية قديمة.
        “كيف تُقْرأ الفَنَاجين؟”

   وتذكرَت فجأةً محاضرَتها اليوم، فلمعَت في ذهنها فكرة، واستدعت الكتب الَّتي قرأتها مؤخرًا من أجل أن تدعم محاضرتَها، فإذا بفِقَر وجُمَلٍ تتراكضُ إليها لإنقاذِها. آه!

  نظرَت داخل الفِنْجان معتمدة على ذاكرتها الَّتي تشبه جهاز كومبيوتر متطور والَّتي لا تخونها أبدًا، فانفرجت أساريرُها. وقبل أن تبدأ التّبصيرَ، حانَت منها التفاتةٌ مُتَشَفِّيَةٌ إلى وجه النّاظرة اللّعينِ والّذي صارت قَسَماتُه كلُّها مستجدِية، منتظرِة.

وفجأةً، اكتشفت في قعرِ الفِنْجان نخلةً:

-عندَك نخْلة.

-صحيح؟

-صحيح، وهي تعني الازْدهار والخصْب.

وفرحَت النّاظِرةُ، فتابعَتِ الأمُّ بلهْجَة فوقيّة:

-تعرفين أن النَّخيل ذُكر عشرين مرة في القرآن الكريم، وتعرفين أن النَّخْلَة في القديم كانت من  الأشجار المقدسة؛ فقد وحّد الفينيقيون بين النَّخْلَة الَّتي اعتبرها السَّاميون شجرة الحياة في جنة عَدْن وبين إلهة الخصب عشتروت. كما جعل العرب من النَّخْلَة، في العصر الجاهلي، إلهًا. أما سمعتِ كيف عبدوا في نجْرانَ نخلة طويلة واحتفلوا بها كل عام؟

-بلى!

    قالت رغم أنَّها  تسمع هذه المعلومة للمرة الأولى. وتابعت البصَّارة:

-وكانت النَّخْلَة هي الشَّجرة المقدَّسة عند الكاهنة والشَّاعرة العبْرية (دبوره). كذلك من التَّمر جاء اسْم الإله (تامور)، الّذي عُثر على آثاره في جزر البحر المتوسط الَّتي استعمرَها الفينيقيون، ومن هنا  اسْم (الدَّامور)، المنطقة اللُّبْنانيّة جنوبي بَيْروت. كما لا بدَّ أن أذكِّرك أنَّه كان يُصَكّ، على النّقود شكل نخلة.

   ابتسمَت النَّاظرة ابتسامة واسعة فيها الكثير من الاعتزاز، وعادت تنتظر المزيد.

   وعادت الأمُّ تستقرئ الفِنْجان: خيوط بيضاء، خيوط سوداء، خط أسود متعرج وحيد وبعيد عن البقية، يشبه… وهتفَت فجأة:

-في فِنْجانِكِ حية.

-أعوذ بالله!

   وتأملَتْ قارئة الفِنْجان الحيَّة، وقلّبَت صفحات ذاكرتها:

-تعرفين أن الحيَّة رمز للشَّر والعداوة والكراهية. ألم تتوحد بالشَّيطان حين تسلل إبليس إلى الجنة داخل أفعى؟

-بلى!

-ألم يستجب آدم لإغراء حواء فهبطا من الجنة إلى الأرض بسببِها؟

-بلى!

-ألم تعاقَب الحيَّة بأن تزحف على بطنها بعد أن كانت دابَّة جميلة من ذوات الأقدام الأربعة؟

-بلى عوقبتْ فزحفَتْ.

   قالت النَّاظرة بتشفٍّ واضح، مما شجع البصَّارة على المتابعة  محذِّرة:

-حسنًا، واجهي إذن الشَّرور المحيطة بك. واجهي الحيَّة الَّتي ستُهزَم بالتَّأكيد، فالشَّر مهزومٌ.

   وزفرت النَّاظرة:

-أعوذ بالله، أعوذ بالله!

   وعادَت إلى جلستها المنتظِرة، بينما قارئة الفِنْجان ما زالَت تفكّ طلاسمه: خطوط قهوة جافة، بعضُها طويلٌ وبعضها قصير، بعضها عريض وبعضُها رفيع، و….فراغ متطاول أبيض يشبه، يشبِهُ، يشبِهُ… وهتفَتْ:

-في فِنجانِك سيْف!

   وأشرقَت أسارير النَّاظرة:

-السَّيْف جيد!

-نعم جيد، نعم جيد؛ فالسَّيف لا يكون إلَّا في أيدي الأبطال والفُرسان.

   ورفعت النَّاظرة رأسها عاليًا حتى كاد يصلُ إلى سقفِ غرفةِ النّظارة:

-طبعًا!

-وهو علامة طبَقِيَّة مقتصِرة على النُّبلاء.

وما إن سمعَت كلمة “النُّبَلاءِ”، حتى كادَ رأسها يخرق السّقفَ:  

-طبعًا!

-وتعرفين أنَّ للسَّيف عند العرب  أكثر من ثلاثمائة اسْم ولقَب.

-ثلاثمائة؟ آه! طبعًا أعرف.

   وزفرت قارئة الفِنْجان متنهِّدة بينها وبين نفسها: “والله لا تعرفين شيئًا”.

ثم تابعت:

-وللسَّيف، يا أستاذة، تقاليد كثيرة ارتبطَت به مع الزَّمَن، فقد استُخدِم لإبعاد الأمراض الشَّيطانية عن بعض القبائل البدائية، وكان يُقَدَّم للعروس يوم زفافها  كتهديد لها وإنذار بألَّا تقع في الخيانة. وكان يُمَدّ عبر المدخل للحيلولة مِن دون دخول العروس بيت زوجها، أيضًا، لتهديد الزَّوجة بالعقوبة إنْ لم تخلِص.

   واستنكرَت النَّاظرة:

-والزَّوج؟

ورفعت الأمّ كتفيها:

‎‎‎‎-الزَّوج يُمد له “الشَّوْبَك”.

-الشَّوْبَك؟

-يعني: المرِقاق، مِرقاق العجين.  

وأطلقت النّاظرة ضحكة شبه هستيرية لم تجد الأُمّ لها معنى في هذا الموقف، ما أَكّد لها شكوكها في إصابتِها بقصور عقلي. وما لبثت النّاظرة أن رجَتِ الضّيفةَ: 

-نعود إلى السَّيف!

-نعود!

-من التَّقاليد الشّائعة في الفُتوح الإسلامية، أن يتَّكئ خطيب الجامع على العَصا إذا كان البلد قد فُتح صُلْحًا، ويتَّكئ على السَّيف للدَّلالة على أن الحكم بين الطَّرفين هو حَدّ السَّيْف، وكان، في بعض الأحيان، يقدَّم للمنتصِر كدلالة على خضوعِ المغلوب.

   فتحت الأستاذة عينيها على وسعهما معلِّقة:

-ياه، ياه!

   ولم تعرف قارئة الفِنْجان ماذا عنَت “ياه” النّاظِرة، لكنَّها رمت الفِنْجان جانبًا بسرعة وقْتَ سمعَت طَرْقًا على الباب ما لبث أن توقفَ من دونِ أن يدخل أحد، فعلقت النَّاظرة وهي تعيد الفِنْجان السَّاحر إلى يد القارئة وتعود إلى جلستها المنصِتة:

-لعلَّه أحد الطَّلبة “الزّعران”، أكملي!

   ونظرت القارئة في صفحة الفِنْجان وهي تدعو الله أن تكون معلمة الفرنسي قد وصلت إلى باحة المدرسة. وكثَّفت دعاءها وهي تتذكر تبييض المحاضرة، ثم عادت لتسير بين الخطوط البَيْضاء والسَّوداء والنّقاط:

-ثمة كفّ في فِنْجانك.

   قالت، ففتحت النَّاظرة كفَّها وقربت رأسها من الأم:

-هيه؟!

-الكفّ، وما أدراكِ ما الكفُّ.

– كف الحسَدِ كما أعرف وكما أنبأتني العرَّافات من قبلِك.

“العرّافات”؟ يا سلام! ها قد صرْتُ عرّافةً! لم لا؟ ليس معيبًا أن يكون المرءُ عرّافًا، فالعرّافات الشّهيرات- من عرّافة دلفي، إلى عرّافة الإله “زيوس” في بلدة “دودونا”، إلى عرّافات “أبوللو” في آسيا، إلى عرّافة معبد  “كلاروس” لا تنقصهنّ الشّهْرةُ، والشّهرةُ جميلةٌ ومربحة وتتقاطعُ مع علم النّفس.

وعادت إلى الكفِّ تشرح:

-الشُّعوب البدائية، مرورًا بالسّومريين والإغريق والفينيقيين جميعًا آمنوا بالعين الشّريرة. كذلك اليهود والعرب والأوربيون، فرمزُ الكفِّ كان ضد شر العين واللّسان في العهد الرّوماني وكان له عمل سحريٌّ عند الأوربيين.

-ضد السّحر، نعم.

-هل تؤمنين بالسّحر؟

-أحيانًا.

وقبل أن تشرح آراءَها القيّمة، عادَت “العرّافة” إلى التّنبّؤ:

-اسمعي، صحيح أن الخمسة كانت علامة شؤم عند الشّعوب القديمة، ومن هنا جاء القول: “خمسة بعيون الشّيطان”، لكن، إسلاميًّا، الرَّقم “خمسة” مبارَك وعظيم؛ لأن أصول الدِّين الإسلامي خمسة، والصّلوات اليومية عددها خمسة.

-وأولادي خمسة.

-الله “يخليكِ” على رؤوسِهم.

-شكرًا. تفضلي تابعي.

فتشَت “العرَّافة” عن عين، فلا بد مِن عين تكون مع الكفّ، لكنَّها لم تجد عينًا.

ماذا تفعل؟ هل تكذب عليها؟ وفتشت بعْد، فوجدت هناك في أسفل الفِنْجان ما يشبه العين وقالت:

-عندك عين.

-أعوذ بالله… حسد أيضًا.

-حسَد زائل، ثم… لو لم تكوني ناجحة، لم تثيري الحسَد.

   كشرَت النَّاظرة:

-يا أختي لا أريد أن أكون ناجحة ولا أن أُحسَد.

-حسنًا، خففي إذن من مظاهر نجاحكِ، خبّئيه، لا تُظهريه للنَّاس وخاصة مَن تجدين فيهم مظاهر حسَد.

  قالت النَّاظرة كمن تبوح بسرٍّ:

-ومَن قال لك إنَّني لا أفعل؟

-تفعلين؟

-طبعًا!

وزفرَت الأم هامسة لنفسها:

 -الله “يبعت” لي معلمة الفرنسي. 

   وعادت إلى الفِنْجان، ويبدو أنَّها صارت خبيرة قراءة:

-اسمعي، اسمعي: عندَكِ سمكتان.

-السَّمكةُ خير.

-أحسنْتِ. السَّمكة، يا أستاذة، رمز قديم دخل المسيحية وأصبح مِن أهم رموزها. وهو يعني  التَّجدد والخير والعيش الرّغيد. والأدلة في الميثولوجيا قاطعة؛ ففي الأساطير العربية والحضارات السَّامية والمعتقدات الدّينية السّماوية  غالبًا ما يدل هذا المخلوق على الانبعاث.

   هتفت النَّاظرة بفرح:

-ممتاز جدًّا، أكملي، أكملي!

-وثمة عصفور.

-العصفور فألٌ حسَن.

-طبعًا، وخاصّةً إذا كان بجانبه حمامةٌ.

وقفزت النّاظرةُ فرَحًا:

-وعصفوري بجانبِهِ حمامةٌ؟

-طبعًا.

-والحمامةُ…

قاطعتْها:

-رمز السَّلام.

-طبعًا رمزُ السّلام، وأنا أعرف هذا من زمان.

-ألم تَعُد  وفي منقارها غصن زيتون دلَّ نوحًا عليه السَّلام  أن الماء قد انحسر، وأن شاطئ السَّلام بات قريبًا وهو ما عجز عنه الغُراب؟

–  وهل في فم حمامةِ فِنْجاني غصن زيتون؟

   ولما أرادَتِ العرّافة أن تبحث عن غصن الزّيتون، لم تجد الحمامة! أين الحمامة؟ أهذه هي الحمامة، أم هو العصفور؟ ضاعت الحمامة، بل ها هي ذي، وفي فمها ما يشبه العود، بل في فمها غصن. وقالت للنّاظرة مؤكدة:

-والله، “يا ستي”، في فمها غصن زيتون، فلكِ البشرى.

   وانفرجَت أسارير الأستاذة، وأطلقت ضحكة رنانة:

-الله يبشرك بالخير، والله كادَت دقّات قلبي تتوقف ذُعْرًا. أخبريني بعد؟

-ثمة طاووس؛ أي: حظ سعيد.

-وبعد؟

-قطة سوداء؛ فأل خيرٍ أيضًا.  

-وبعدُ؟

-وتفاحة؛ رمز الأنوثة.

-وبعدُ؟

-وحرباء.

-إنَّها أم سليم، متغيّرة مثل الحرباية.

-ومربع هندسي ذو أضلاع متساوية.

-ماذا؟

-المربع جيد، فهو يعني التَّوازن والقدسية ويحقق علاقات متوازنة حول المركز.

-آه!

-ودائرة.

-هل مِن داعٍ أن نستعين بأستاذ الرّياضيات؟

-لا، لا، فالدّائرة تعني القدسية أيضًا: الشَّمس، القمر، الدَّوران للطّوفان حول الكعبة في موسم الحج.

-نعم، نعم! 

  ورنَّ الجرس؛ فتركت “العرَّافة” الفِنْجان متنفسة الصّعداء. ولما دُقَّ الباب، واقترب فرَجُ مجيء معلمة الفرنسي، فوجئت العرّافة بالنَّاظر العام يعلنُ:

-معلمة الفرنسي ستتأخر عشر دقائق. أرجو، حضرةَ النَّاظرة، إخبار صف الأول متوسط-  الشّعبة الثَّالثة.

وكمد لون الأمّ، بينما أشرقَتْ أسارير النَّاظرة الَّتي دفعَت بالفِنْجان، بعد أن غادر النَّاظر، إلى يد السَّيدة الَّتي نهضت حاملة حقيبةَ يدِها غاضبةً:

-أَستأذن.

   واعترضت النَّاظرة متوسِّلة:

-ابقي من فضلِكِ، عشر دقائق وتصل معلمة اللّغة الفرنسية!

-معلمة اللّغة الفرنسية؟ لماذا؟ 

-لتقابليها مِن أجل ابنك. 

-ابني؟ 

-نعم!

-مَن ابني؟

وصُعقَت النَّاظرة:

-بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. ابنك الّذي جئتِ لمقابلةِ معلمة اللُّغة الفرنسية من أجله.

-لا أولاد عندي، ولستُ متزوجةً أصلًا!

-ماذا؟ كنت تضحكين عليّ إذن؟ وكلّ ما تنبَّأتِه لي كان كذبًا تمامًا ككذبة ابنِكِ؟

وركضَت الأم خارج المدرسة، وركضَت النَّاظرة خلفَها حتى البوابة السّوداء الكبيرة وهي تسألها بأعلى صوتها:

 -لستِ عرّافة؟

لكنَّ صوت المديرِ أوقفَ النّاظرة بصوته الحازم:

-حضرة النَّاظرة، ما القضية؟

وضربت النَّاظرة رأسَها بقبضة يدِها:

-مصيبةٌ كبيرة، أكبر مما تتصور!        

[انتهت]

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات