(تبًّا للصَّيْد!) قصة قصيرة

08:39 مساءً الثلاثاء 28 ديسمبر 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تمدد على الأريكةِ واضعًا ذراعه اليُسرى تحت رأسه بعد أن أسند ظهره إلى مخدتين صغيرتين، وقرَّب الطّاولة الصَّغيرة الَّتي وُضعت عليها مدفأة الكهرباء طلبًا لمزيدٍ من دفء غادر أصابع كفيه وقدميه كما غادر جسده وعقله وقلبه، بل وحياته كلها. ثم لفَّ جسده الضَّخم  بحِرام صوفيٍّ برتقالي سميكٍ قديم تآكلت أطرافه “السّاتان” حتى بدا وكأنَّه موروث من أيام أقدم جدّات زوجته الَّتي عاشت في العصر الحجري والّذي أصرّت أن تنقله معها إلى بيتهما الزّوجي مع ما سمّته بجهاز العروس.

أما زوجته، فقد غاصت في كرسيّها مُستغرِقةً في قراءة كتاب لا يقلّ قِدَمًا عن الحِرام البرتقالي.  وكانت عيناها تركضان خلف الكلمات برشاقة غزالٍ رغم مسحة اللّا مبالاة الَّتي تتميزان بها عادةً. وبدا شعرها الأسود منفوشًا كشعر ساحرةٍ شريرة خرجَت للتّوِ من معركةٍ شرسةٍ، وقد خلت عيناها وشفتاها من أي أثر للزِّينة. وطالما تساءل- في الشُّهور الأخيرة- إن كان قد رأى على سحنتها الشَّاحبة التُّرابية لونًا غير هذا “البيج المصفرّ” الكئيب.

وفجأةً، توقفتْ نظراتها عن الرّكض، وتمطَّت ولما تُشر السَّاعة إلى التَّاسعة مساء، وأعداه تثاؤبها، ففتح فاه على وسعه، واسترقَ نظرة سريعة إليها، ثم علَّق:

ما سر التَّثاؤب يجتاحُنا هذه الأيام باكرًا؟

وأجابته بإعادةِ فتح كتابِها على الصّفحة الَّتي توقفت عندها قبَيْل التّثاؤب، وبركضِ عينيها من جديد خلف الكلمات، فأغمض عينيه الخضراوين بكسل، ثم فتحهما نصف فتحة، وأجاب بنفسه عن تساؤله:

-ربما لأنَّه لا يوجد “صيْد”؟

وبدت لها اللّفظة غريبة، فتوقفت نظراتها عن الرّكض، وتوجهت إلى شفتيه متسائلة باستغراب وقد لمعت عيناها السَّوداوان:

صَيْد؟

ابتسمَ لأنَّه استطاع أخيرًا أن يستحوذ على انتباهها:

الصَّيدُ قد اصطيد!

وقبل أن تعودَ عيناها إلى الرّكض خلف الكلمات، شرح بكسل، مِن دون أن يغير جلسته أو يبذل عناء تحريك يديه وعضلة من عضلات وجهه أو حتى يفتح عينيه أكثر:

قبلَ أن نتزوج كنْتُ نشيطًا. آه! ستسألينني كيف؟ وسأجيبكِ: كنت أعدّ نفسي للذَّهاب إليك، أعدّ ملابسي، عطري، مهاراتي، كلماتي.. كتبت ديوان شعر في شهر، ورواية في شهرينِ، لأنَّهم قالوا: المرأة  الَّتي تحبُّها تهوى الشَّعْر والأدب. نعم! نعم! كان ثمة دافع يجعلني نشيطًا، منشدًا. وأنتِ…

وحسَّن جلستَه، ووجَّهَ سَبَّابته المرفوعةَ إليها، ثم قطب حاجبيه الكثيفين وقد لمعت فيهما نظرة مليئة بالشَّك المفعم بالضّيق والمضض:

كنْتِ مختلفة، كنْتِ منتظِرة، وكانت عيناكِ كحيلتين، وشفتاك ورديتين،  وكانَ- يا إلهي- كان كل شيء فيك متألقًا.

ونظرَ باشمئزاز إلى شعرها، وعلّقَ:

حتى شعرك كان حريريًّا منسدلًا.

وتوقعَ أن تتفحصَ خصلاتِ شعرها أو- على الأقل- تربطها، فلم تفعل؛ فتابع:

وكان لديك ابتسامة. ولن أقول ابتسامة ربيعية أو ابتسامة ساحرة، بل ابتسامة، مجرد ابتسامة.

وتنهدَ بوجع:

وكنتِ…آه! كنتِ جميلة!

وتركت الكتاب جانبًا، وراحت تصغي إلى أقواله من دون أن تشاركه الحوار ولو بنظرة استحسانٍ أو بنظرة استنكار؛ فتابع:

كنتِ جميلةً! وكانت حيويتك تجعلك كالشَّمس في بهائِها. أتعرفين لماذا؟

ولم تكلف نفسها حتى عناء هزّ رأسها؛ فأكملَ:

وقتهالم تكوني قد امتِلْكَتِني بعد؛ فكانت طاقاتُك كلّها موجهة إلى الكينونة والعطاء وتنشيط المشاعر.

ابتسمت ابتسامة هادئة أرفقتها بومضة من ومضات عينيها الَّتي كان يومًا يحبها، فنهضَ من وضعه الاستلقائي، وجلس متسائلًا بوجع:

ما الّذي تغير؟ كم سنة مضت على زواجنا؟ مائة سنة؟ مائتان؟ مليون سنة؟ مليونان؟

وضرب كفًّا بكف، ثم همس كمن يرجوها أن تساعده على التَّفكير، وكانَ- في هذه اللّحظات بالذّات- مستعدًّا للإنصات:

أليسا عامين فقط؟ ما الّذي حدث في هذين العامينِ؟ أخبريني!

ولما لم تساعدْهُ؛ قال:

لقد امتِلْكَنا الحبّ! نعم! لقد صار مُلكية مضمونة حتى لم يعد من شيء يستحق أن نبذل من أجله الجهد؛ فضاعت- ويا لَلهول- كلماتي ومهاراتي وضاعت إصغاءاتك وحيويتكِ.

وأعلنَ بشراسةٍ:

تبًّا للزَّواج!

واعتقد أنَّها قد تثورُ، وقد تدافعُ عن هذه المؤسسةِ كما كانتْ تفعل قبلَ زواجهما، ولكنَّها كانت جامدةَ النَّظراتِ، غبيَّتَها؛ فتابع باستسلام:

كنت أعرف أن هذا ما سوف يحدث لي، تمامًا كما حدث لكل أصدقائي المساكين من  قبلي، ولكنَّك أصرّيت على أن نتزوج كما تصر النّساء، كل النّساء.

وزفر، ثم قال:

أتعرفين؟ أعتقد أننا…

وقبل أن يكمل، نهضَت وكأنَّها سمعت تقريرًا قديمًا ليس فيه فكرة مشوقة واحدة، وليس فيه أي اكتشاف. انتعلَتْ خفَّها، وشدَّت شعرها أكثر إلى الخلف، ثم قالت:

أطفئ المدفأة والضَّوء؛ فأنا ذاهبة لأنام!     

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات