السُّوداليبيّ (الفيتوري)

12:26 مساءً السبت 15 يناير 2022
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

السُّوداليبيّ

زنجيّ الجدّ، من أعالي بحر الغزال، مصري الأم، سودانيّ الوالد. وفوق هذا وذاك، قضى الجانب الأكبر من حياته في مدينة كبيرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط لا يهدأ لها نشاط، هي: مدينة الاسكندرية. ومنذ طفولته المبكرة، كانت ترتعد في آذانه أصوات طبول ودفوف، وترتعش أمام عينيه أجساد بشرية ترقص رقصات متوفزة؛ فقد كان والده من رجال الطرق الصوفية، لا يمل القيام بموالدها وطقوسها.

وكانت بشرته السَّوْداء تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا بها حاجزًا كثيفًا يحرمه المشاركة والاندماج، ويؤجج في باطنه مشاعر مريرة صفراء ويشحذ حساسيته[i]

إنه محمد الفيتوري، الشَّاعِر الإفريقي السّودانيّ الذي ولد عام (1930)، الذي ولد  في بلدة (الجنينة)، عاصمة دار مساليت الواقعة على حدود السّودان الغربية. والمساليت من القبائل السّودانية الكبيرة، وتشتهر بالفروسية. ووالد الفيتوري هو “الشّيخ مفتاح رجب الشّيخي الفيتوري”، أما والدته، فهي”الحاجة (عزيزة علي سعيد)، من أسرة شريفة من قبيلة الجهمة العربية الحجازية التي هاجرت إلى صعيد مصر، ومن ثم إلى ليبيا، وكانت تشتهر بالتِّجارة والفروسية أيضًا. ومن أشهر رجالها: جد شاعرنا (الشّريف علي سعيد)، وكان تاجر رقيق وعاج وذهب وحرير. وكانت له صلات بسلاطين أفريقيا والسّودان، وكان يتاجر عن طريق (درب الأربعين) التي تربط ما بين السّودان وليبيا الغربية”.

عرفت أسرته –إذن- الهجرة غير مرة، إذ إن الوالد قد هاجر من ليبيا إلى غربي السّودان قبيل الحرب العالمية الأولى مع من هاجر من أبناء ليبيا بسبب وطأة الاستعمار الإيطالي، وفي الاسكندرية، وفي بيت كله تقوى ووعطف، تربى محمد بين قسوة الأب وحنان الأم[ii]

ذكريات “مدرسة الأخلاق”

لم تكن الخيارات كثيرة أمام الآباء في ذلك الزَّمان، ويبدو أن الأبوين اللذين يختاران الأزهر الشّريف هدفًا أعلى لأولادهما، هما أبوان حريصان على مصلحة الأبناء وسمعة العائلة العلمية والدّينية. على أن الوصول إلى الأزهر الشّريف لم يكن سهلًا، والفيتوري الصَّغير، عرف- كما عرف غيره- رحلة الآلام الشائكة التي أدمت الجسد والروح تحت اسم “الأخلاق”، و”التَّربية”، و”الدّين”، والتي كان العقاب فيها عصا تأخذ التّلميذ إلى أي مكان إلا المكان الذي يرسم الآباء والشّيوخ فيه مستقبله.

“في منطقة القباري في الاسكندرية، وفي شارع المكس بالتَّحديد، نشأ الفيتوري والتحق بمدرستها الأولية: (مدرسة الأخلاق)، للشَّ[1]يخ عبد الخالق البسيوني لحفظ القرآن الكريم تأهبًا لدخول الأزهر الشّريف، كما قضت بذلك رغبة والديه[iii]“.

يقول الشَّاعِر عن هذه المرحلة في مقدمته: “حول تجربتي الشّعرية”:

“وأذكر أنه عانى في حفظه [أي القرآن] كثيرًا، كم من امتحان رسب فيه وعوقب على نسيانه أشد العقاب، من عصا شيخه الضَّرير السَّمين-كانوا يعلقونه من قدمي في “الفلكة”، وهي قطعة من الجريد مشدود إلى طرفيها قطعة من حبل مرخاة عند الوسط بعض الشَّيء بحيث تتسع لقدمي مثله- ويأخذ اثنان من أنداده، يقفان على اليمين واليسار، في الضَّغط عليهما حتى تصير قدماه بينهما مسطحتين في وضع متوازٍ، ومن ثم تبدأ عصا الفقيه حركتها البندولية، صعودًا وهبوطًا فوق قدميه دونما هوادة أو استجابة لصرخاته وأنّاته الضَّعيفة المتقطعة. ولم يكن “سيدنا” يكف عن ممارسة هذه العملية إلا بعد أن تكون قد تعبت ذراعاه.

ويعود الصَّبي إلى البيت منكسر الخاطر، متورم القدمين، حاملًا تحت إبطيه حذاءه الذي سيظل لبضعة أيام قادمة، ضيقًا عليهما حتى تعودا إلى حالتهما الطَّبيعية.

وكان يغيظه أكثر، أن أمه وأباه لم يكونا يبديان أقل قدر من التذكر أو الاكتراث وهما يريانه في مثل حالته اليائسة هذه، فلقد نذراه ليكون واحدا من سدنة كتاب الله الكريم[iv]“.

ومع القرآن الكريم، درس الإنشاء والحساب والأناشيد.

من عصا الشّيخ إلى عصا الحرب

ولم يدر الصَّغير إن كانت الحرب العالمية الثانية قد أتت لتزيد عذابه أو لتخلصه من عذاب عصا الشّيخ.

كانت “أسماء هتلر والنَّازية وموسوليني والفاشية وستالين والبلشفيك وروزفلت وتشرشل أشبه برموز وألغاز تتحدى مداركه ومستوى فهمه، بكل ما تنطوي عليه من معان ودلالات”. وشهدته حواري الاسكندرية وأزقتها المتربة المتسخة وهو يتدحرج مع الهاربين إلى الخنادق والمخابئ لينزوي معهم بعيدًا عن شظايا القنابل ونيران الطائرات المنيرة التي طالما روعت غاراتها الليلية المتواصلة سكان المدينة الجميلة الهادئة النائمة في أحضان البحر الأبيض المتوسط، وكثيرًا ما أحالت أحياءها ومبانيها إلى  خرائب وأنقاض[v]“.

عام 1944، وحين اشتدت الحرب، اضطرت أسرته للهجرة إلى ريف مصر “إلى قرية (عرمش) في منطقة (كفر الدّوار)، فـ”تعاطف مع الطَّبيعة بشكل عميق. وكان في غالبية أيامه يخرج من البيت مبكرًا ليصطاد السَّمك في الترعة القريبة من القرية، ويطارد الفراش، ويلاعب الكلاب، ويغازل الزّهر والشّجر، ويراقب الفلاحين والعمال في أعمالهم وحلهم وترحالهم[vi]“.

وفي (عرمش) كتب:

وراح يرى ملءَ أحلامه

جزائرَ غارقة في الغمام

يظللها نغم أزرق

شفيف، شفيف بلون السلام

وكانت هنالك عند الشَّمال

حقول متوجة بالغلال

وقوم من السُّود مستغرقون

يرصّون أكداسَها في التلال

وأصواتهم وزغاريدهم

ترفرف صاعدةً من بعيد

ببطءٍ شديد

وحين تصفّ طيورُ الغروب

على الأفقِ أجنحتَها المذهبات

وتمضي تنقر ثوبَ السُّكون

بكل مناقيرها المتعبات

تراهم يلوحون فوق الدّروب

أو يتوارون خلف الشَّجر

وهم عائدون إلى دورهم

بأيدٍ مثقلة بالزهر”

[أغاني أفريقيا]

من الأزهر إلى الصّحافة

“بعد الحرب العالمية الثَّانية، تابع دراسته في المعهد الابتدائي حتى عام 1947، ثم التحق بالمعهد الصّيني التَّابع للأزهر حتى عام 1949 في (رأس التين) ثم الأزهر الشّريف حتى عام 1953.

ومن الأزهر، وفي العام الدِّراسي: 1953-1954، انتقل إلى كلية العلوم بالجامعة القاهرية، فرع الآداب والدِّراسات الإسلامية حيث قضى سنتين ثم تركها دون أن ينال شهادتها منصرفًا إلى دنيا القلم والصّحافة، فأصدر ديوان (أغاني أفريقيا) عام 1955، فنال حفلة تكريمية.

لكنه كان تلميذًا كسولًا، متمردًا، هاربًا من روتين الجامعة، متوهجًا،كحبات الزِّئبق الرجراجة.

كان يهرب من قاعات الدَّرس إلى شواطئ الاسكندرية، وإلى شراء كتب للمطالعة وحضور عام 1958، محاضرات تتفق ومزاجه.

وآثر العمل الصّحفي، فكتب في غير صحيفة أثناء إقامته في القاهرة. وبعد أن انتقل إلى السّودان، عمل في الصّحافة السّودانية.

وفي لبنان أيضًا كتب في عدة جرائد ومجلات، مثل: (الأسبوع العربي)، وجريدة (بيروت)، و(الديار)، وأسند إليه مهام رئيس تحرير مجلة (الثَّقافة العربية) الليبية، وكان قد أسند إليه وظيفة خبير إعلامي في جامعة الدّول العربية بالقاهرة.، وكان يرى في هذه الوظيفة راحة بادئ الأمر، ثم ما لبث أن تركها وقت لم تعد تحقق له الحرية والحركة، فأصبح فيها أشبه بـ”مومياء أو متحف أو قضية في ارشيف”.

ومنع الفيتوري من العودة إلى السّودان بعد أن رثى (عبد الخالق محجوب) الذي أعدم ورفاقه بعد الانقلاب الشّيوعي الفاشل سنة 1971، وكان زعيم الحزب وقتها.

انتقل إلى بيروت، لكنه ما لبث أن أبعد عنها عام 1974 لأسباب سياسية، فسافر إلى ليبيا، فدمشق، ولكنه عاد إلى بيروت بعد عام واحد سنة 1975[vii]

والفيتوري المشرد دائمًا، المسافر دائمًا، الغريب دائمًا، يصور السّفر:

“والناس كلما مضت مدخنة القطار

تصرخ في وجوههم بغربة الديار

تهدمت من فوقهم جوانب النهار

وزلقت أرجلهم على بساط نار

+++

جنون؟

هل الشّعر هو الجنون؟

أم الجنون هو الشّعر؟

لماذا  كان يؤثر الانطواء على نفسه؟

لماذا كان يبدو في نظر الآخرين متكبرًا، وشاذًّا، ومزهوًّا إلى حد إثارة الغيظ والاستهزاء[viii]؟

وقف الفيتوري أمام مرآة ذاته، فرأى عيوبه الجسدية تنعكس على أعمالق ذاته، فشعر لوهلة “بالنّقص”، و”بالجنون”:

“كان قصيرًا ونحيلًا، ذا بشرة أميل إلى السَّواد. لا شك أنه كان على قدر من النقص أو الجنون، أو ربما كان شعوره بالنقص هو الذي أوقعه –حينذاك- عند حافة الجنون أو عكس ذلك”

وقف الفيتوري أمام مرآة ذاته، فكتب الشّعر، وكتب الجنون…

وقف الفيتوري أمام مرآة ذاته، فرأى عيوبه كاملة، وقال:

“لقد فضضت سر اللّغز، سر المأساة التي ولدت معي: أنني قصير وأسود ودميم[ix]!”

“فقيرٌ…وجهٌ كأني به

دخانٌ تكثّف ثم التحمْ

وعينان فيه كأرجوحتين

مثقَّلتين بريح الألمْ

وأنف تحدّر ثم ارتمى

فبانَ كمقبرةٍ لم تتمْ

ومن تحتها شفةٌ ضخمةٌ

بدائيةٌ قلما تبتسمْ

وقامته لصقت بالتراب

وإن هزئت روحه بالقممْ”

ولفترة غير قصيرة، عذب “اللَّون” شاعرنا، وآلمه أن يسمى “عبدًا”، وكتب ألمه متوجهًا به “إلى وجه أبيض”، محاولًا أن يفهم معاناته أكثر كما حاول أن يفهم قضية الفقر من خلال اعتناقه “الواقعية الاشتراكية”، محاولًا “كسر الصّدفة من الداخل” [المقدمة، ص:26]، فتطهر بعد أن باح لذاته ولمن اعتبره أقل درجة منه، فقام ليستخدم عينيه الحادتين، الفاضحتين، المجهريتين، فتوجه إلى أفريقيا “رمز الخلاص الذَّاتي”، غاضبًا، متمردًا، داعيًا إلى نفض ثقافة الحزن المقيت والتزام ثقافة الفرح.

الثقافة

 بدات مرحلة إيجاد الفيتوري نفسه من حضن جدته الأفريقية “التي سكبت في روحه خيالات من آفاقها السّرية الغامضة، بما كانت تبث في شعوره من حكايات وأساطير وعقائد وتصورات رائعة ومدهشة ومخيفة من عالمها” [منيف موسى، الدّيوان، ج2، ص:46] إلى أن عثر على كنزه الثَّمين: (ديوان عنترة) الذي عزز ثقته بنفسه، وأضاف إلى ثقافة الجدة ثقافة جديدة، أتبعها بقراءة كل الشعراء العرب، ثم مل ناثري العرب، حتى إنه وجد في انكسار جبران خليل جبران ما يشبه انكساره هو، ووجد في كون جبران نبيًّا ضائعًا ما يشبه نبوته الضائعة المبشرة برفض الظلم. ومن قال إنه اكتفى بالقفاة العربية باحثًا عمن يشبهه؟ لقد قرأ الأدب العالمي، وبحث عند بودلير عن (جان ديفال) المعشوقة التي تجاوز بودلير عقدة اللَّون من أجلها.

ولم يكتف الفيتوري بقراءة الأدب بنهم، بل قرأ السِّياسة، وانتمى إلى ما يشبه روحه منها، وقرأ الصُّوفية التي يبدو أنها انتقلت إليه بالمورثات من والده، فإذا به “يتدروش” بفخر الدّرويش الثَّائر لا التَّقليدي:

“عشقي يفني عشقي

وفنائي استغراق

مملوكك.. لكني

سلطان العشاق”. [معزوفة لدرويش متجول]

وبهذه “الدّروشة” الثورية يكتب: “يوميات إلى بيت الله الحرام”، القصيدة –الصّرخة التي تتجدد حتى اليوم، كل يوم، وتصلح دستورًا لأمة تنحدر بفخر إلى الهاوية، وترفل بفخر إلى أعمالق اللاحضارة.

لقد التزم الفيتوري (الكلمة)، فكانت قضيته وكانت سيفه الذي ما أغمده يومًا، ولا خبأه انهزامًا ولا انتهازًا لفرصة أو تجارة، فعلا صوته مخترقًا كل الحواجز التي وضعها تجار الأوطان وتجار الإنسان الذن يقبضون ثمن الدِّماء وتشريد البشر وهم يشربون نخب نجاحهم الذي كان وما زال وسيظل وصمة عار.

تخلى الفيتوري عن كل ما هو ذاتي، بعد أن وجد نفسه، ونادى:

” يا أخي في الشَّرق، في كل سكنْ

يا أخي في الأرض، في كل وطنْ

أنا أدعوك

فهل تعرفني؟

يا أخًا رغم المحنْ؟

إنني مزقت أكفان الدجى

إنني هدمت جدران الوهن”.

وينشر تجربة القوة التي ظلت طريقه إلى آخر لحظة من حياته التي لم تنتهي، لا بمحاولة الذّاكرة ليّ ذراعه لسنوات، ولا بحفر قبرٍ في التُّراب، فقد صعدَت روحه إلى السَّماء لترقب الظلم عله يندثر:

“لم أعد مقبرة تحكي البلى

لم أعد ساقية تبكي الدمن

لم اعد عبد قيودي

لم أعد عبد ماض هرمْ

عبد وثن

أنا حيٌّ خالدٌ رغم الردى

أنا حر رغم قضبان الزمن

فاستمع لي، استمع لي

إنما أذن الجيفة صماء الأذن”

هل تموت الكلمة؟

هل يموت الفكر الكامن فيها؟

د. إيمان بقاعي


[1]


 من مقدمة ديوان أغاني أفريقيا، بقلم: محمود أمين العالم، ديوان محمد الفيتوري، ج1، بيروت، دار العودة، ط3، 1979.[i]

 منيف موسى: ديوان الفيتوري، ج2، بيروت، دار العودة، ص:5-10.[ii]  

 منيف موسى: نفسه، ص: 11. [iii]

 الفيتوري: حول تجربتي الشعرية، الديوان، ج1، ص: 7-8. [iv]  

 الفيتوري: حول تجربتي الشعرية، الديوان، ج1، ص: 12-13.[v]

 منيف موسى، نفسه، ص: 14-15.  [vi]

 منيف موسى، بتصرف. [vii]

 الفيتوري: حول تجربتي الشعرية، الديوان، ج1، ص: 70.[viii]

 الفيتوري: حول تجربتي الشعرية، الديوان، ج1، ص: 16.[ix]

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات