الفولْكلور اللُّبناني في أعمال الأخوين رحباني (الحلقة الأولى)

01:04 مساءً الأربعاء 26 يناير 2022
مصطفى مصطفى جحا

مصطفى مصطفى جحا

ليسانس العلوم الاجتماعية، جامعة دالارنا السويدية. بالدراسات العليا لإدارة المؤسسات التربوية والتعليمية في جامعة اوبسالا السويدية، يدير مدارس ومعاهد رسمية لتعليم الكبار في السويد.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
كاتب الدراسة: مصطفى مصطفى جحا

(الفولْكلور والفولْكلور اللُّبناني)

 (الفولْكلور) Folklore:

عِلْمُ التّقاليد والعاداتِ والعَقائدِ والأَساطيرِ والأَغاني والآدَاب الشّعْبِيّةِ. وقد بدأَتِ العناية بهٰذا العِلْم أَو الفَنّ في انكلترا وفرنسا خلال القَرْن السَّابع عشَر، وَخَصَّه الرّومنسيون بجُهْد مَلْحوظ، فجُمعت الحِكَايَات والأَغاني الشّعْبِيّة، ودُرست التّقاليد المتوارثة في اللِّباس، والمآكل والأَعْراس والمآتم والأَعياد. وأَكبّ عُلَمَاء منهجيّون على دراسة كلّ ذلك، ووضعوا للفولكُلور ومباحثه أُصولًا واضحة، وفرّعوا المَوْضوعات الَّتي يُعالجها إلى أَبواب؛ منها: الشَّعْب وتاريخه، عقائده، عاداته، الحِكَايَات، الأَساطير، الأَمْثال، الأَلْحان، الأَغاني، الرّقصات، المَساكن، الحَيَاة الرِّيفيّة، الرّياش القديم، الأَطْعمة المُنْتقلة مِنْ جيل إلى آخر إلخ…

وأول من استعمل هذا المصطلح هو الإنكليزي (وليام جون تومز) عام 1846. وهي مؤلفة من كلمتين أنكلوسكسونيتين: “فلكْ”، وتعني: الشّعب والعامة، و”لار”، وتعني: معارف.

وقد عرف (وليام جون تومز) نفسه (الفولْكلور) بأنه “المعتقدات والأساطير والعادات وما يراعيه الناس، وكذلك الخرافات والأغاني الرّوائية والأمثال التي ترجع إلى العصور السّالفة”[إيكه هولتكرانس: قاموس مصطلحات الأنتولوجيا والفولْكلور].

كما عرّف (ميش: Mish) (الفولْكلور) بأنه: “الكيان الكامل للمعتقدات والعادات والتّقاليد الشّعبية القديمة التي ترسّبَت حتى يومنا هذا بين العناصر الأقلّ تعلُّمًا في المجتمعات المتحضرة”. ويقصد  (ميش: Mish) بـ “العناصر الأقل تعلّمًا” تلك العناصر التي تأتي من ماضٍ مجهول وتنمو بعفوية على ألسنة الناس من دون معرفة مؤلِّفها. أما تعريف (بودكر: Bodker)، فهو الأشمل في هذا الإطار، إذ يشتمل على المعطيات الأساسية للفولكلور؛ إذ يقول: “(الفولْكلور) هو العلم الذي يتناول ذلك الجانب من الحضارة المكوَّن من الميثولوجيا والأساطير والحكايات والألغاز والأغاني والأمثال والتّمثيليات والألعاب والرّقصات والمعتقدات الشّعبية، مع مراعاة أن الجزء الأكبر من هذا التّراث هو بالأسلوب الشّفاهي”. [إيكه هولتكرانس: قاموس مصطلحات الأنتولوجيا والفولْكلور].

وقد وافقَه علماء الأتنولوجيا الأميركان أمثال: (سميث)، و(فوجلين)، و(وترمان) الرّأي، على أن (سميث)  فضّل استعمال عبارة “المواد القَوْليّة”، بينما فضّل (باسكوم: Bascom) تعبير: “الفن القولي” لتمييزه عن الحكايات الشّعبية والخرافات (Myths) والأساطير (Legends) والأمثال والأشكال الأدبية الأخرى عن غيرها من المواد المندرجة تحت مفهوم (الفولْكلور) عادة.

وقد يمتد (الفولْكلور) ليشمل حياة الفلاحين الرِّيفية وأسباب استمرارها في المجتمعات الصناعية والحضرية كما يرى (فان جنب: Van Gennep). ويقدم التّعريف ذاته كل من (كورسو: Corso) و(سانت إيف: Sant Yves)، فيرى الأخير أن (الفولْكلور) يدرس “الحياة الشّعبية في البلاد المتحضرة”، أو “الثّقافة المادية والفكرية في الطّبقات الشّعبية داخل البلاد المتحضرة”. [محمد الجوهري: علم الفولْكلور- دراسة في الأنتروبولوجيا الثقافية].

وهذا العرض لمعنى كلمة (الفولْكلور) يظهر أن هناك ثلاث مجموعات رئيسة من التعريفات: (أولًا): الفكرة القائلة بأن (الفولْكلور) يمثل التّراث الثّقافي وخاصة  في بعض الميادين، والفضل الأول في هذا لـ (وليام جون تومز)، (ثانيًا): فكرة أن (الفولْكلور) يجب أن يقتصر على الأدب الشعبي. وهو ما نادى به علماء الأنتروبولوجيا الأميركيون الذين يخضعون (الفولْكلور) للثقافة، (ثالثًا): يفهم (الفولْكلور) على أنه تراكم الثقافة الشّعبية تمييزًا له عن ثقافة الطبقات العليا. وقد نمت هذه الفكرة في أوروبا بسهولة كتوسيع لتعريف (وليام جون تومز). [نبيل أبو مراد: الأخوان رحباني: حياة ومسرح- خصائص الكتابة الدرامية- ط1: 1990، ص 96].

الفولْكلور بين مؤيِّد ومُعارِض

حدث جدَل كبير طال أمده بين مؤيّدي (الفولْكلور) ومعارضيه. فحين برزت نظريات علميّة تؤيد صحة هذا “العلم” وتحلله وتدعمه حتى تخصص فيه مَن تخصص، ونيلَت فيه درجات أكاديمية انكبّتْ على دراسة ثقافات معينة، تقليدية، شعبية، ألقت الضَّوء على زوايا تاريخية وجغرافية واجتماعية، أثمرت علومًا أفاد منها المشتغلون برصد السّياسة الاجتماعية والثَّقافية، فألقي الضّوء على  مراحل تاريخية سابقة من حياة الثّقافة والمجتمع، ما ساهم في إعادة البناء التَّاريخي من خلال كونه مدخلًا أساسًا لفهم الثَّقافة الحقيقة والبناء الاجتماعي القائم المرتكز على محورّيّ: النّظرة الجغرافية والتّاريخية، مع مراعاة البُعد النّفسي والاجتماعي لشعب من الشُّعوب. بيد أن اعتراف بعضهم بصحة هذا العلم، قابله رفض جماعات نظرت إليه نظرة شكّ، وما زالت، ما قسم جمهوره إلى قسمين لم يُقنِع أحدهما الآخر ولم يقتنع بأسبابه.

مؤيّدو (الفولْكلور)

يرى مؤيدو هذا العلم أن من مهام (الفولْكلور): (أ) دراسة عملية التَّغير الثَّقافي، (ب) فهم ما يجري من حضارات تخص الشُّعوب موضوع الدّراسة والشّعوب المجاورة لها، أو تلك التي تبادلت معها ثقافتها، فرُصِدَت حكايات متشابهة وعادات وتقاليد وآداب شفهيّة دلّت على تفاعل فكري حضاري وتأثير متبادَل اخترق المسافات الزّمنية والمكانية، وجمع بين ثقافات كنا نظنّ أنها متباعدة ومختلفة [الإنثوغرافية-“علم الفولْكلور” المأخوذة من صفحة التاريخ والحضارة/كلية الأدب والعلوم الإنسانية على الفيسبوك]، (ت) ودافعَ المؤيدون دفاعًا كبيرًا ضد الدّراسات الأنثروبولوجية التي اعتادت النَّظر إلى (الفولْكلور) لا باعتباره علمًا مستقلًّا، بل باعتباره مجرد “حكايات وأساطير شعبية”، أو “فنون كلامية” أو “فنون قول” أو “آداب شفوية” أو “كلام مألوف” محدّد في المعاجم، أو محدّد باستخدام النّاس مع “اصطلاحات شّعْبِيّة خاصة بفئات المجتمع”. وفيه تخترق اللّغة  العامّيّة الفُصحى؛ ويشمُل هذا الكلام الأمثال الشّعبيّة والإعلانات: ” كل ديك على مزبلته صيّاح!”. ويهتم المُرسِلُ، في هذا الكلام، بالتّجانس الصّوتي والإيقاع، فلا يُشترَط في راوي (الفولْكلور) أو المتكلم به أن يكون “كِلِّمانِيًّا”، أي: جيد الكلام، فصيحًا، مِنطيقًا، كثير الكلام، مُجيده، أو بمعنى آخر: أن يكون “كِلّيمًا”، مِنطيقًا، بليغًا.

وقد وصل الأمر ببعض دراسي الثَّقافة والنّظم الاجتماعية والأنثروبولوجيين عامة إلى حد المغالاة في طرد “مصطلح” (الفولْكلور) وإخراجه من مجال العلوم الاجتماعية، فظل هذا هو الحال السّائد منذ أواخر القرن الثَّامن عشر والتّاسع عشر، في ربط عجلة الدِّراسات (الفولْكلورية) والأسطورية بالدِّراسات والاجتهادات الأدبية أو الفلسفية.

وهو موقف أميل إلى الخطأ؛ ذلك أن المغالطة تتوقف عند مجرد استبدال تسمية (فولكلور)، بالإثنونوغرافيا  (Ethnography)، أي: العلم الذي يُعنى بدراسة توزيعات سلالات الإنسان على سطح الأرض، كمصطلح عصري مبتكَر شاع داخل العلوم الاجتماعية.

فإذا ما كانت الإثنونوغرافيا  (Ethnography) تدرس الحضارة عامة، أي تهتم بمظاهر الرُّقيّ العلميّ والفنّيّ والأدبيّ والاجتماعي والتِّقْنيّ والطّقسي التي تنتقلُ من جيل إلى جِيل في مجتمع واحد أو عدة مجتمعات متشابهة من حيث نواحي السُّلوك الإنساني؛ إضافة إلى ما يعتري هذه المظاهر من تحولات، فهذا بذاته هو حقل (الفولْكلور)، بل هذا بذاته هو مفهوم (تيلور) في مؤلفه المهم عن الثَّقافة البدائية، وغوصه في حقول الخرافات والحكايات وخوارق الجان والمأثورات الشّعبية. فرغم توسعه في استخدام مجالات (الفولْكلور)، إلا أنه لم يستخدم مصطلح (فولكلور).

والشّيء عينُه يمكن ملاحظته بالنّسبة إلى موسوعة الباحث وعالم (الأنثروبولوجيا) الاسكتلندي (جيمس جورج فريزر: 1854، -1941 م): “الغُصن الذّهبي”، الذي أصبح من الكتب التي يجب أن تُقْتَنى وتُدَرَّس كما تُقْتَنى الكتب العريقة؛ إذ يعالج موضوعًا توشك مادته أن تزول من الدّنيا، فلا يبقى لها أثر يستطيع الإنسان أن يرجع إليه ويحقق أصوله وفروعه، وذلك أن موضوعه يتناول عادات المتوحشين في أنحاء العالم وعقائدهم وما يمارسونه من السّحر والرُّقَى والعبادات بشعائرها الدّينية، وما يلتزمونه من عادات في الزّواج أو الولادة أو الوفاة أو الزّرع أو غير ذلك، وهؤلاء “المتوحشون” تغيرهم الحضارة الحديثة وتنسيهم توحشهم. [سلامة موسى: مصر أصل الحضارة، صدر هذا الكتاب عام 1935، وصدرت نسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2011].

وكذلك الأمر فيما يتعلقبموسوعة (ويليام روبرتسون سميث:  William Robertson Smith)‏ 1846-1894)،  وغيرهما من كلاسيكيات العلوم الاجتماعية أو الأنثروبولوجيا [شوقي عبد الحليم: مدخل لدراسة الفولْكلور والأساطير العربية، صدر هذا الكتاب عام 1978، وصدرت هذه النسخة عن مؤسسة هنداوي عام 2017].

معارِضو (الفولْكلور)

على أن للفولكلور معارضين شرسين، لا يقلّون شأنًا عن المدافعين عنه، وإن كان المدافعون يستخدمون العلوم للإقناع، بينما يستخدم المعارضون الوسائل الهجومية انقضاضًا على المؤيّدين، حتى ليصل الأمر بهم إلى مستوى اتّهامهم اتّهامات يخرجونهم فيها من الانتماء بمفاهيمه الاجتماعية والدّينية واللّغوية وغيرها.

       فهم لا يعتبرون (الفولْكلور)  فنًّا أو علمًا، بل يحشرونه في خانة العلوم الزّائفة، إذ يرونه انحرافًا اجتماعيًّا مجتمعيًّا سلوكيًّا “شعبيًّا”، كونه يدعو إلى سيادة الفنون الشّعبية والأدب الشَّعبي، حتى اعتبر (د. محمد محمد حسين) (الفولْكلور) أحد نتائج الاستعمار الذي ركز على نشره في المستعمرات “بغية معرفة دوافع سكانها ونوازعهم، لا حبًّا بهم؛ بل وصولًا إلى أمثل طرق لاستغلالهم”. [د. أحمد إبراهيم خضر: علم الفولْكلور والأدب الشّعبي، ذوق ساذج متخلف وسطحية تلائم البدائيين والجهال: شبكة الألوكة].

واعتبر المعارضون (الفولْكلور) “عدوى من الغرب”، وُجِد في البلاد العربيةبفعل حب تقليد الأجانب، رغبة في نيل رضاهم، قائلين إن أهداف هذا العلم المزيف هي:

(أ) تدعيم سياسة التَّجزئة التي نفّذها الغربيون حينما قطعوا أوصال البلاد، بغيةَ تكريس الحياة المحلِّية في كل بلد، وإعادة الحياة الاجتماعية إلى ما قبل تطورها الحالي، وذلك لتكوين مدنيات حديثة أكثر قبولًا لأصول المدنيّة الغربية.

(ب) تطويع الشُّعوب لما يراد لها من تقبُّل الأفكار التّجزيئية المطروحة. وقد أكد الشّيخ “مصطفى عاشور” الفكرة، إذ ضرب مثلًا بسعي الفرنسيين إلى عزل الجزائر عن البلاد العربية والتّركيز على القبائلية، خروجًا بها وغيرها عما يجمعها بإخوانها دينًا ولغة، ما أثار نعرات تجزيئية كالنّعرة الفرعونية والفينيقية وغيرها، فاستُحضِرت أفكار كانت على وشك الاندثار، ووُضِعَت على قائمة الأولويات التي يجب أن تُعمّم قبل أن تُكَرّس الوحدة التي هي أقرب إلى منطق الدّاعين إليها.

(ت) اعتبر معارضو( الفولْكلور) أنه قبيح، ينفر من الذّوق السّوي، ويرفضه الحياء أو قانون الأخلاق العام، ولا يدافِعُ عنه إلا  من كان فيه من السّذاجة عِرْق، فهو أدب شعبي، سطحي، بسيط، يلائم، أكثر مَن يلائم، الجُهّال والقِباح، ولا يعجِبُ المثقفين أصحاب التّفكير المنطقي العقليّ السّوي، كما لا يُعجِب أصحابَ الأدب النّخبوي الرّفيع؛ حتى وصل الأمر بـ (د. محمد محمد حسين) أن يتفق  وبعضَ علماء الاجتماع الأدبي على أن الأدب الشَّعبي هو أدب الفلّاحين والطّبقات الدّنيا، متناسيًا أن الأدب يُستقى من الأدب الشّعبي كما من الرَّفيع.

(ث) ويعتبر (د. محمد محمد حسين) أن الفن “ليس هواية، بل هو وسيلة من وسائل السّمو فوق الواقع المُسفّ، بحيث يهدف إلى ترقية الذَّوق السَّاذج المتخلّف وتثقيفه، لا الهبوط بالذّوق العام إلى الأذواق الفجة؛ وذلك لأن الفن الرّاقي لا ينمو وينضج إلا على المران والتَّثقيف، بينما الأدب الشَّعبي مجرد تسجيل للواقع وتهريج، والأدبُ أبعد ما يكون عن أن يكون آلةَ تسجيل”.

(ج) ويرى المعارضون أن (الفولْكلور) يدمِّر، بكل ما في الكلمة من معنى، اللّغة، إذ يدعو إلى اعتماد العامّية، وذلك من خلال تعريف دُعاة (الفولْكلور) اللّغة بأنها “حاملة التّراث من فولكوري وثقافي؛ لذا وجب مراعاة جامع (الفولْكلور) لدقائق اللَّهجات وطرق النّطق والصَّوتيات، بالإضافة إلى علوم صناعتها” [شوقي عبد الحليم: مدخل لدراسة الفولْكلور والأساطير العربية]، بينما يدعو (د. محمد محمد حسين) إلى الالتفات إلى آداب الأمم الرَّاقية لنتأكد أنْ لا أدب راقٍ كُتِبَ ويُكتَبُ بالعامّيةِ السُّوقية.

(ح) ويرى المعارضون أن الخطر كبيرٌ أيضًا على الأديان؛ إذ يشجع (الفولْكلور) على استبدال الأديان بالطّقوس المحليَّة، واستبدال المنطق العقلاني بالأساطير والخرافات.  

وبين تصارع وجهتي نظر، واحدة مؤيّدة للفولكلور باعتباره رمزًا وطنيًّا وسيلة تهدف إلى تمثيل البلد وإظهار ثقافته وعاداته وتقاليده، وأخرى معارضة بشدّة لفكرة (الفولْكلور) باعتباره من مخلّفات الاستعمار؛ أجد أن (الفولْكلور) هو وسيلة بريئة وُجدت لإعطاء عادات الشُّعوب التَّاريخية وتصرفاتهم اسمًا ومعنى انطلاقًا من طريقة كلامهم، وأزيائهم، وطعامهم، وصولًا إلى طرق تفكيرهم ومعتقداتهم. فإن كل ما تناوله الدكتور (محمد محمد حسين) على أنه وسيلة تجزئة صنعتها الغرب لمحاربة الدول ما هو إلا مبالغة لهدف (الفولْكلور) القادر على الحفاظ على تاريخ الشُّعوب القديمة استنباطًا لآداب وعلوم وفنون يفخر بها الأحفاد ولا تشكل عائقًا أمام التقدم العلمي أو اللغوي، ومن هنا، كان لا بد لي من دراسة (الفولْكلور) اللُّبناني عن طريق أدب (الأخوين رحباني) الذين تمسكا بـ(الفولْكلور) ونجحا في رسم صورة للوطن، مشرقة، لا تشبه صورة أخرى، ولا تقلد حضارةً، وإن وقفَ كثيرٌ ممن اتّهمهم بأنهم كرّسوا حضارة الضيعة والقنديل والوديان والأحراش (الحراش كما يتلفظ بها، ومنها اشتق عاصي مجلته الحِرشايِهْ) والشّخصيات التي ما زلنا حتى اليوم نراها، فنحس أنها خارجة من أدب (الرَّحبانيينِ) وفكرهما، وما زالت حية تُرزق.

ومن هنا، أوافقُ تمامًا الكاتب اللُّبناني العريق (أنيس فريحة)  الذي، كما وُصِف بأنه “اشتغلَ على الجذورِ بكلِّ ما تعنيهِ هذه الكلمة. فَسَبَرَ جذورَ الكلماتِ حينَ أتقنَ عددًا كبيرًا من اللّغاتِ القديمةِ وحازَ دكتوراه في اللّغاتِ السّاميّةِ كالسُّريانيةِ والعِبْريَّةِ القديمةِ أي الكَنْعانيةِ والأوغاريتيّةِ المكتوبةِ بالحرفِ المسماريِّ ليفكّكَ الكلماتِ وأسماءَ القرى المؤلَّفةِ من السُّريانيّةِ والآراميّةِ، وكذلكَ نجدُ في كُتُبِهِ: معجمُ أسماءِ المدنِ والقرى اللّبنانيةِ التّي قامَ بتفسيرِ معانِيْها، ومعجمُ الألفاظِ العاميّةِ في اللّهجةِ اللُّبنانيةِ ورَدَّها إلى أُصولِها السّاميّة، ومعجمُ الأمثالِ اللّبنانيةِ الحديثة، وأسماءُ الأشهُرِ العَربيّة لتفسيرِ معانيها، ودراسةُ اللّهْجاتِ دراسةً عِلميّة.  وعادَ من خلالِ جَذرِ الأسماء إلى جذرِ الإنسان، مصمّمًا على زرعِهِ في قريتِهِ، في تُربَتِهِ، أي في جذورِه، فيليقُ بأنيس فريحة أن يكونَ (عرّابَ الجذورِ) كونَهُ تكبّدَ جَهْدًا كبيرًا في العودةِ إلى الأصالةِ وجالَ في القرى وفي أسمائِها متوغِّلاً وباحثًا عن أصولِ كلِّ ما يقعُ تحتَ يديه. [شانيل فياض: محاضرة (الإنسان اللّبناني وَفق أدب أنيس فريحة)]، فقد رأى (أنيس فريحة) أن “الطّبقة المتعلمة والمثقفة والثّرية عدم إهمال هذا (الفولْكلور) باسم العلم والتّقدم؛ بل أخذه وتوضيبه وتصنيفه ليصبح في مرتبة فنية عالية، غناء وشعرًا وأدبًا، فيستحق أن يصبح تراث لبنان وهويته”.

لكنني أوافق، في الوقت نفسه، مؤلف الكتاب الذي أورد نظرية (أنيس فريحة) بأن “عملية تصنيف التّراث وحفظه ليست مسألة محايدة، إذ إن إيديولوجية الجهة الجامعة والمصنّفة سوف تنعكس على مضمون التّراث وتوجهاته وما يريده جامعوه أن يقولوا عن قيم المجتمع وتوجهاته. ويصبح للفولكلور أهمية مميزة متى قُدِّمَ في قالب فني موسيقي كما فعل (الأخوان رحباني) بدءًا من (بعلبك)، وأذيع في الرَّاديو وطبع على أسطوانات ولم يبق حصرًا في الكتب.

الفولْكلور اللُّبناني (الأخوان رحباني)

يقول (د. نبيل أبو مراد) في كتابه (الأخوان رحباني- حياة ومسرح: خصائص الكتابة الدّرامية):

من أوائل من بحث في (الفولْكلور اللُّبناني): الأب (إيرونيموس اليسوعي) مبعوث البابا (كليمانس الثامن)، مترئسًا فريقًا من العلماء الأوروبيين.

وقد وضع كتابًا ذكر فيه مشاهداته من العادات والتّقاليد اللُّبنانية، وقد ترجم إلى العربية (الخوري يوسف العمشيتي) سنة 1933. بعده، جاء أوروبيون آخرون حذوا حذوه، وكتبوا في الموضوع.

وقد عالج الأب (يوسف تاتي) اللُّبناني، وكانَ أحد أساتذة الجامعة اليسوعية في (بيروت)، الموضوع، ونشر بين عامي: 1899- 1902 مقالات تحت عنوان: (العوائد اللُّبنانية في تربية الأحداث) في (مجلة المشرق).

وكذلك رُصدت جهود في الموضوع، منها جهود (عيسى اسكندر المعلوف)، و(شفيق طبارة)، و(أنيس فريحة) في كتابه الصّادر عن الجامعة اللُّبنانية عام 1910: (حضارة في طريق الزوال)، و(لحد خاطر) في كتابه الصّادر في (بيروت) عام 1964: (الفولْكلور اللُّبناني)، وإن لم يبحث الكتاب الأخير في التفاصيل، بل كان عامًّا.

وعندما بدأت (مهرجانات بعلبك)، وبدأت معه نزعة تصوير الضَّيعة والتّراث، شارك كل من (الأخوين رحباني) و(زكي ناصيف) و(توفيق الباشا) و(وليد غلمية) وغيرهم في إبراز هذا التّراث، فسحروا النَّاس، وجذبوهم. 

وقد كرّس (الأخوان رحباني) (الفولْكلور) من خلال أغاني ومواويل السَّهرات ومناسبات الأفراح في أعمالهم المسرحية والسينمائية والأغاني، إذ طرح (الأخوان رحباني) مجموعة مواويل والعتابا والميجانا والغزيّل وأبو الزُّلف وعالماني الماني والدّلعونة، فأبقيا كلمات بعض منها كما هي، كما في (على الماني ع الماني) في (موسم العزّ):

على الماني عالماني\قتلني وعاود راضاني

بضلّْ بحبكْ يا أسمرْ\انْ عشْتْ وربي خلّاني. 

شفت الماني بعين عنوبْ\وعالفرقهْ يا صبر أيوبْ

ولبعتلو لحِبّي مكتوب\يبكّي حجارْ الصَّوّاني

يليه هذا المقطع الشّعبي من (الميجانا: الوزن اليعقوبي الذي تتألف دعامتيه من: 24 حركة صوتية 12 في كل شَطْر)، إنما بلحن مختلف:

يا ظريفْ الطُّولْ يابو الميجانا\واشْ علَّم الزيناتْ تحب الولدنا

يا ظريف الطولْ طولكْ ميِّلو\وحيَّدو عَ بابنا وما مَيَّلو

اشْ علَمَكْ تتقلْ علينا يا حلوْ\لما عشقتْ الغير دشَّرْتَكْ أنا

ثم مقطع من (على دلعونا): وهي، كما شرحها (أنيس فريحة) في كتابه (اسمع يا رضا): مبدأ (العَوْنةِ) هو من أهم مبادئ القروي، ويرتبط بها العملُ (الفلكلوريُّ) الفني والذي هو عبارة عن أغنية بتلحين يناسب رقصات (الدَّبْكة) الفلكلوريةِ “الدَلِّعُونَة” وهي( del العَوْنة)، فكان أهل القرية يتعاونون في حَدْل سطوح بعضهم بعضًا بدوسها بأرجلهم، وراحتِ الخطى تتناسق إلى أن شكّلت رقصة سُمّيت (الدَّبْكة) ونُقلَت هذه (العَوْنة) إلى العادات اللُّبنانية فصارت (الدَّبْكة) أساسًا في المآتم وبعدها جعلت ابن المدينة ييستحي لأن فيها علاقة إنسانية، فيما هي عند ابن القرية احترام للقيم والتّقاليد. وفي نصّ (رحلةُ الرّبيع إلى مَراحِ العودةِ) في الكتاب نفسه يقول: ” يجتمع أصحاب المرُح المجاورة مع نسائهم وأولادهم لمساعدة الذي يقطف شرانقه. يسمون هذا العمل التعاوني: (عَوْنة)”. [أنيس فريحة: اسمع يا رضا، رحلة الرّبيع إلى مراح العودة].

وفي (الدّلعونا):

على دلعونا وعلى دلعونا\راحوا الحبايبْ ما ودّعونا

على دلعونا يَمْ الجدايِلْ\والشلحهْ الحمرا والخصر المايلْ

جرحتيلي قلبي وكْ ما بيسايلْ\قلبي ع حسابِكْ يمْ العيونا

[د. نبيل أبو مراد: ص 97-100]

على أن (الأخوين رحباني) لم يكتفيا بإدخال (الدّلعونا) في السّهرات ومناسبات الأفراح، بل نجدها استُخدِمَتْ في المشاهد السياسية، فمشهدُ (رئيس البلدية) مع مبعوثي (الجان) في (المحطة) ينتهي بـ(الدلعونا) بعد حوار قصير عبثي:

رئيس البلدية: فهمتو شي؟

المرافقون: لأ، ما فهمنا!

رئيس البلدية: فهمتو شي؟

المرافقون: فهمنا وما فهمنا!

الكل: على دلعونا وعلى دلعونا، لا نحنا فهمنا ولا فهّمونا.

رئيس البلدية: على دلعونا عَ اللي دعيناهُمْ\وعملنا جلسِهْ واحترمناهُمْ\يا ريت الجلسِهْ كانت بلاهمْ\لخبطوا حالُن ولخبطونا.

[د. نبيل أبو مراد: ص 217]

ومطلع من (أبو الزُّلف: الوزن المزدوج الذي يتألف من 13 مقطعًا صوتيًّا: 7 حركات في الشَّطر الأول و6 حركات في الشَّطر الثَّاني):

هيهات يا بو الزُّلُفْ\عيني يا مولَيّا

صفصافْ لا تستحي\شلْشَكْ على المَيّا

ومن (غزيّلْ) هذا المطلع:

يا غزيِّلْ يا بو الهيبهْ\يا هاوي يا معَذِّبا

يا بنيهْ هاتي الفَرَسْ\والبارودي والعِبا

وعلى اللَّحن ذاته، أضاف (الأخوان رحباني) كلامًا من عندهما كما في تتمة مقطع (أبو الزُّلُف) في (موسم العز):

نجلا:

يا ريتْ فينا سوا\عهد اللّنا نعيدو

كرمْ الهوى ع الهوا\ناِلرْ عناقيدو

خوفي يمرّْ الهوى\ويوميلِنا بإيدو

ويشوف كرمو استوى\وعا دروبِنا فَيّا

ونلحظ هنا أن اللَّحن الفولْكلوري بقي كما هو، إنما رُكّبَتْ عليه كلمات أُلّفت خصيصًا له.

كما استعمل (الأخون رحباني) المواويل ذاتها في (جسر القمر) في مشهد (العيد) الذي يقيمه الأهالي مثل (على الماني عالماني)، إذ نجد العِدّية كاملة. وكذلك عدِّيّة (على دلعونا) التي أضافا إليها بعض الجمل التي تُبقي اللَّحن على ما هو عليه. وهذه النَّماذج نرى لها أمثلة في (دواليب الهوا): “مشهد حلا مع الأهالي في الفصل الأول”، ثم في (بياع الخواتم: 1964) هناك عِدِّية جميلة: “أنا المظلوم مين ظلمَكْ؟” [د. نبيل أبو مراد: ص 97-100]

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات